تخمين زمن المطالعة:1 الدقيقة
7 / مَن خلق الله؟
الخلاصة : الجواب:
بالمناسبة هذا الاشکال أحد أهم إشکالات الماديين و أولاها و أقدمها في نفس الوقت. أولئک يقولون بعبارة أوضح: «إذا کان الله خالق کل شيء فمن خلق الله؟»
الآن کيف واجه السيد راسل هذا الاشکال بصورة متأخرة جداً، الجواب ليس واضحاً لنا أصلا، لکن و انطلاقاً من کون هذا السؤال يدور في أذهان الکثير من شبابنا يجب أن يناقش بدقة:
توجد هنا عدة نقاط رئيسية يتضح جواب السؤال بالالتفات إليها:
لو قبلنا عقيدة الماديين و تناغمت أصواتنا مع السيد «راسل»، هل سنتخلص من هذا الاشکال؟ قطعاً کلا!... لماذا؟
لأنّ أنصار المادية يعتقدون بقانون العلية أيضاً، أولئک يعتبرون جميع الأشياء الموجودة في عالم الطبيعة معلولةً لشيء آخر، بناءاً على هذا سيواجهون نفس هذا السؤال و هو لو کان کل شيء معلولا للمادة فالمادة معلولة لأي شيء؟
لذا (و بالالتفات الى أنّ سلسلة العلة و المعلول لايمکن أن تستمر الى مالانهاية) يؤمن جميع فلاسفة العالم (الأعم من الالهيين و الماديين) بوجود أزليٍّ (الوجود الکائن أبداً و دائماً)، لکنّ الماديين يقولون أنّ الوجود الأزلي للعالم هو تلک «المادة» أو القدر المشترک بين المادة و الطاقة، بينما يقول الالهيون و المؤمنون أنّ المنشأ و المبدأ الرئيسى هو الله تعالى; و على هذا يتضح أنّ السيد «راسل»يجب أن يؤمن بوجود أزلي (حتى لو کان مادةً).
هل يمکن أن يکون لذلک الوجود الأزلي علة؟ طبعاً کلا!... لماذا؟
لأنّ الوجود الأزلي موجود دائماً و أبداً، و الشيء الموجود کذلک لايحتاج الى علة، الموجود المحتاج الى علة هو الذي لم يکن موجوداً في زمن ثم وجد فحسب. (تأملوا). النتيجة هي أنّ: الوجود مبدأ أزلي و دائمي و أبدي، و هذا الکلام متفق عليه، و تثبت الأدلة العقلية بطلان التسلسل (سلسلة من العلل و المعاليل غير المنتهية)، فأجبر جميع الفلاسفة على الاعتقاد بمبدأ أزلي.
بناءاً على هذا ليس الاختلاف بين «الفلاسفة الالهيين» و «الماديين» قبول أحدهم «لعلة العلل» و إنکار الآخر لها کما تصور «راسل»، بل کلاهما متساوون بالاعتقاد بوجود علة العلل أو العلة الأولى.
إذن أين يکمن الاختلاف بين هذين الاثنين؟
يجب القول بصراحة أنّ نقطة الاختلاف الوحيدة تکمن في أنّ الالهيين يعتبرون العلة الأولى ذات علم و إرادة (و يسمون ذلک الله)، لکنّ الماديين يتصورون أنّها فاقدة للعلم و الارادة (و سموا ذلک المادة).
الآن کيف يمکن أن يبقى مطلب بهذا الوضوح مجهولا للسيد «راسل»، ليس لذلک جواب سوى أن نقول أنه کان متخصصاً في فروع علوم الرياضيات و العلوم الطبيعية و علم الاجتماع، لافي المسائل الدينية و الفلسفة الأولى (بمعنى معرفة الوجود و المبدأ و آثارهما).
نحصل على هذه النتيجة أيضاً من الشرح المذکور و هي أنّ الفلاسفة الالهيين لايستدلون ببرهان علة العلل لوحده لإثبات وجود الله أبداً، لأنّ هذا الدليل لوحده يرشدنا الى وجود «علة أولى» أو بعبارة أخرى الى وجود أزلي، حيث يعتقد الماديون بذلک أيضاً.
بل المسألة المهمة للفلاسفة الالهيين هي أن يستدلوا - بعد إثبات العلة الأولى - لإثبات علمه غير المنتهي، حيث أنّ إثبات هذه المسألة عن طريق مطالعة نظام الوجود و الأسرار العظيمة و البديعة للخلقة و القوانين المدروسة الحاکمة على جميع السموات و الأرض و الموجودات الحية و تنوعها أمر يسير. (تأملوا)
يجب عدّ هذا أول رد على هذا الاشکال.
الموضوع الآخر الذي يجب التذکير به هو: أنّ أساس الاشکال قائم على هذا الموضوع «کل موجود محتاج الى علة و خالق»، في حين أنّ هذا القانون ليس کلياً، و يصدق فقط في الموارد التي کان الشىء معدوماً سابقاً ثم لبس ثوب الوجود. (تأملوا) الشرح هو: أنّ ثمة موجودات لم تکن موجودةً مسبقاً، کالمنظومة الشمسية و من ثم الموجودات الحية ـ الأعم من النبات و الحيوان و الانسان - حيث يشهد تاريخها بوضوح أنّ لباس الوجود لم يکن أزلياً و دائمياً بحقها، بل التفاوت الموجود فيها في عدة ملايين الى عدة مليارات من السنوات السابقة تؤيد عدم وجود خارجي لها سابقاً ثم وجدت.
يلزم طبعاً وجود علل لايجاد هکذا موجودات، فانفصال الأرض عن الشمس (حسب نظرية لابلاس أو النظريات اللاحقة لها) يحتاج الى عوامل خاصة ـ سواءاً عرفناها بالکامل أم لا.
کذلک وجود أول براعم الحياة النباتية ثم الحيوانية ثم الانسانية رهن علل و عوامل عديدة، لذا يسعى و يحاول العلماء إدراک هذه العوامل باستمرار، و إذا صار البناء أنّ وجود هذه الموجودات لايحتاج الى أي علة فلا داعي لکونها وجدت في مليون أو عدة مليارات سنة، فلماذا لم توجد في ضعف أو نصف هذا الزمان مثلا؟ إختيار هذا الزمان الخاص لوجودها أفضل دليل على أنّ شرائط و علل وجودها تحققت في هذا الزمان فقط.
أما لو کان هناک وجود أزلي و دائمي ـ سواءاً سمينا هذا الوجود الله أو المادة - فهکذا وجود لايحتاج الى أي علة، لايلزم خالق و رب، لأنّه لم ينظّم تاريخ لوجوده بحيث يبقى مکان العلة و الخالق خالياً في ذلک التاريخ.
الشيء الدائمي و الأزلي ينبع وجوده من داخل ذاته لامن خارجها کي يحتاج الى خالق. (تأملوا).
نحتاج أنا و أنت و الأرض و السماء و المنظومة الشمسية و... الى خالق حيث أنّ وجودنا ليس أزلياً و أبدياً، و ليس من داخل ذواتنا، لاعلة العلل و العلة الأولى التي يکون وجودها منها.
مثال واضح:
يضرب الفلاسفة أمثلةً لتوضيح هذا الکلام الفلسفي و تقريبه الى الذهن فيقولون مثلا:
عندما ننظر الى غرفة عملنا أو منزل سکننا نراها مضيئة.
نسأل أنفسنا: هل أنّ هذا النور من نفس هذه الغرفة؟
فنجيب أنفسنا فوراً: کلا، لأجل أنّه لو کان ذلک النور ينبع من نفس الغرفة للزم أن لاتصبح مظلمةً أبداً، في حين أنّها مظلمة أحياناً و مضيئة أحياناً أخرى إذن إنارتها تنبع من مکان آخر.
نصل الى هذه النتيجة بسرعة أنّ إضاءة حجرتنا و منزلنا بواسطة الذرات أو الأمواج النورية التي تنيرها.
نسأل أنفسنا على الفور: إضاءة ذرات النور من أين أتت؟
نجيب أنفسنا بعد تأمّل بسيط: إضاءة ذرات النور من نفسها و تنبع من ذاتها، فلم تستعير ذرات النور صفة الاضاءة هذه; لانستطيع أن نجد في أي مکان في العالم ذرات نور مظلمة ثم أخذت نورها من شيء آخر.
ذرات النور مضيئةً أينما وجدت، الاضاءة جزء من ذاتها، إضاءة ذرات النور ليست مستعارةً.
من الممکن أن تزول ذرات النور، لکن لايمکن أن تکون موجودةً و مظلمةً في نفس الوقت. (تأملوا). بناءاً على هذا لو قال شخص أنّ إضاءة کل مکان في العالم معلول للنور، فمن أين يضيء النور؟
نجيب فوراً: إضاءة النور جزء وجوده.
کذلک عندما يُسأل: وجود کل شيء من الله، فممّن وجود الله؟
نجيب فوراً: من نفسه و من عمق ذاته.
سؤال:
برغم أنّ هذا السؤال يبدو عجيباً، لکن و بالالتفات الى أنّ الفيلسوف الانجليزي المشهور «برتراند راسل» أعلن في أحد کتبه: کنت أعتقد بوجود الله في مرحلة شبابي، و کنت أعتبر أفضل دليل على ذلک برهان «علة العلل»، و أنّ لجميع ما أرى في العالم علةً، و اذا تابعنا سلسلة العلل سنصل الى أولى العلل، و نسمي تلک العلة الأولى الله.
لکنّي تراجعت عن هذه العقيدة فيما بعد تماماً، لأنّني إعتقدت «لو وجب أن يکون لکل شيء علة فيجب أن يکون لله خالق»!
فبعد ذلک يجب معرفة ما هو الحل المناسب و الواضح لهذا الاشکال المذکور؟
لا يوجد تعليق