تخمين زمن المطالعة:1 الدقيقة
29 / ألا ينافي الاستغفار العصمة؟
الخلاصة : الجواب:
التفت علماء الاسلام الى الاشکال منذ زمن بعيد و أجابوا عليه بأشکال مختلفة، و من الممکن أن يعود روح و لب هذه الأجوبة الى شيء واحد هو أن للذنب و المعصية طابعاً نسبياً لا أنّه من قبيل الذنوب العادية و المطلقة.
الشرح: لاتتساوى التوقعات من الأشخاص المتباينين في جميع الشؤون الاجتماعية و الاخلاقية و العلمية و التربوية و الدينية.
نحن نکتفي بالمثال التالي من بين مئات الأمثلة لايضاح هذا الموضوع:
عندما تکون ثلة في طليعة من يقدم على خدمة اجتماعية، فيقررون إنشاء مستشفى للبؤساء و المساکين، فلو قدم أحد العمال الذين لايسد مکسبهم نفقاتهم الشخصية مبلغاً بسيطاً کمساعدة هل هذا العمل فسوف يکون حرياً بالشکر و التقدير، أما لو قدم هذا المبلغ إنسان ثري جداً، فلا يستحق التقدير فحسب، بل يجلب نوعاً من الکراهة و التبرم و التذمر أيضاً; يعني نفس العمل الذي يستحق الثناء و الاطراء بالنسبة الى شخص، يعتبر عملا مقيتاً و مذموماً بالنسبة الى شخص آخر! مع أنّ هذا الشخص لم يرتکب جرماً و مخالفة من الناحية القانونية.
دليل هذا الموضوع کما ذکر آنفاً هو أنّ التوقعات المعول عليها من الأشخاص تتباين و ترتبط بامکانياته من قبيل العقل و العلم و الايمان و القدرة.
ربما يمثل القيام بعمل ما من قبل شخص معين عين الأدب و الخدمة و المحبة و العبادة، لکنّه يعد خيانة و خلافاًللأدب و الاخلاص و قصوراً في العبادة و الاطاعة بالنسبة الى شخص آخر!
الآن و نظراً الى هذاه الحقيقة لنأخذ منزلة الأنبياء و الأئمة بنظر الاعتبار ثم لنقارن أعمالهم مع هذه المنزلة الرفيعة:
أولئک يرتبطون ارتباطاً مباشراً بمبدأ عالم الخلقة، و يشع نور علمه اللامتناهي على قلوبهم، فتنکشف لهم أغلب الحقائق في الوقت الذي تخفى فيه على الآخرين، و يحظون بأرفع درجات العلم و الايمان و التقوى، و خلاصة الکلام أنّهم قريبون من الله تعالى الى درجة أنّ الغفلة عنه لحظة واحدة تعد زلة و هفوة.
بناءاً على هذا، ليس من العجيب أن تعتبر الأفعال المباحة و المکروهة بالنسبة للآخرين ذنباً بالنسبة لهم!
جميع الذنوب التي نسبت إليهم في الآيات و الروايات أو التي کانوا في صدد طلب المغفرة عنها کانت من هذا القبيل; أي إنّ منزلتهم و مقامهم المعنوي و علمهم و ايمانهم رفيع جداً بحيث تعد أدنى غفلة في عمل ما ذنباً لهم، و الجملة المشهورة «حسنات الأبرار سيئات المقربين» ناظرة الى هذه الحقيقة.(1)
ذکر الفيلسوف الشيعي الکبر المرحوم نصيرالدين الطوسي ذلک الجواب في أحد کتبه بالشکل التالي:
«کلما قام شخص بفعل الحرام أو ترک الواجب فهو آثم و عليه أن يتوب، و هذا الصنف من الذنب و التوبة يتعلق بالبشر العاديين.
و کلما ترک مستحباً و أتى بمکروه فهذا يمثل صنفاً آخر من الذنب و عليه أن يتوب أيضاً، و هذا الصنف من الذنب يرتبط بمن کان معصوماً عن الصنف الأول.
إنّ الذنوب التي نسبت في القرآن الکريم و الروايات الشريفة الى الأبياء الماضين نظير آدم و موسى و يونس و ... هي من هذا الصنف لا من الصنف الأول; و کلما التفت الشخص الى غير الله تعالى و غفل عنه باشتغاله بالأمور الدنيوية فهذا يعد صنفاً آخر من الذنب أيضاً لأهل الحقيقة، و تجب عليهم التوبه منه و طلب المغفرة من الرحمن.
إنّ ذنوب النبي و الأئمة التي يقرون بها في أدعيتهم و يطلبون العفو و المغفرة من الله سبحانه و تعالى هي من الصنف الأخير و ليس من الصنف الأول و الثاني» (2).
و لأجل إيضاح هذا الجواب بصورة شافية لابأس بنقل موضوع کتبه العالم الشيعي الجليل المرحوم «علي بن عيسى الأربلي» في المجلد الثالث من کتابه النفيس «کشف الغمة في معرفة الأئمة» و ذلک أثناء ذکر سيرة الامام موسى بن جعفر(عليه السلام):
«کان للامام سابع دعاء يقرؤه في سجدة السهو يقر فيه بأنواع الذنوب و يستغفر الله على ذلک (3).
کنت أفکر في معناه و أقول: کيف يتنزل على ما تعتقده الشيعة من القول بالعصمة. و ما اتضح لي ما يدفع التردد الذي يوجبه، فاجتمعت بالسيد السعيد النقيب رضي الدين أبي الحسن علي بن موسى بن طاووس ـ رحمه الله و ألحقه بسلفه الطاهر ـ فذکرت له ذلک فقال: إنّ الوزير السعيد مؤيد الدين العلقمي ـ رحمه الله تعالى ـ سألني عنه فقلت: کان يقول هذا ليعلم الناس; ثم إنّي فکرت بعد ذلک فقلت: هذا کان يقوله في سجدته في الليل، و ليس عنده من يعلمه.
ثم إنّه سألني عنه السعيد الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي ـ رحمه الله ـ فأخبرته بالسؤال الأول و الذي قلت و الذي أوردته عليه، و قلت: ما بقي إلا أن يکون يقوله على سبيل التواضع و ما هذا معناه، فلم تقع مني هذه الأقوال بموقع، و لا حلت من قلبي في موضع، و مات السيد رضي الدين ـ رحمه الله ـ فهداني الله الى معناه و وفقني على فحواه، فکان الوقوف عليه و العلم به وکشف حجابه بعد السنين المتطاولة و الأحوال المحرمة و الأدوار المکررة، من کرامات الامام موسى بن جعفر(عليه السلام) و معجزاته، و لتصح نسبة العصمة إليه، و تصدق على آبائه و أبنائه البررة الکرام، و تزول الشبهة التي عرضت من ظاهر هذا الکلام.
و تقريره أنّ الأنبياء و الأئمة(عليهم السلام) تکون أوقاتهم مشغولة بالله تعالى، و قلوبهم مملوة به، و خواطر هم متعلقة بالملأ الأعلى، و هم أبداً في المراقبة، کما قال أحدهم(عليه السلام): «أعبد الله کأنّک تراه فان لم تره فإنّه يراک»، فهم أبداً متوجهون إليه و مقبلون بکلهم عليه، فمتى انحطوا عن تلک الرتبة العالية، و المنزلة الرفيعة، الى الاشتغال بالمأکل و المشرب و التفرغ الى النکاح و غيره من المباحات، عدّوه ذنباً، و اعتقدوه خطيئة، و استغفروا منه، ألا ترى أنّ بعض عبيد أبناء الدنيا لوقعد و أکل و شرب و نکح و هو يعلم أنّه بمرأى من سيده و مسمع لکان ملوماً عند الناس، و مقصراً فيما يجب عليه من خدمة سيده و مالکه، فماظنک بسيد السادات و ملک الأملاک.
و الى هذا أشار(عليه السلام): «إنّه ليرانُ على قلبي و إنّي لأستغفر بالنهار سبعين مرة» و لفظة السبعين إنّما هي لعد الاستغفار لا الى الرين، و قوله: «حسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقربينَ» و نظيره» (4).
1. القادة العظام، ص 232 ـ 238.
2. أوصاف الاشراف، ص 17.
3. إن اريد الاطلاع على نص الدعاء فليرجع الى کتاب «کشف الغمة»، ص 43.
4. کشف الغمة، ج 3، ص 42 ـ 44.
سؤال:
برغم أنّنا نعلم بأنّ الأنبياء و الأئمة(عليهم السلام) معصومون من الذنب و لاتصدر منهم المعصية مطلقاً، في الوقت ذاته يلاحظ في بعض الأدعية الواردة عنهم ما يوحي باقرارهم بالذنب، فيطلبون المغفرة من الله تعالى.
مثلا يقول الامام علي(عليه السلام) في دعاء کميل المعروف: «الّلهم اغفرلي الذنوب التي تهتک العصم ... اللّهم اغفرلي کل ذنب أذنبته و کل خطيئة أخطأتها». هل أنّ مرادهم من أمثال هذه التعبيرات تعليم الناس أسلوب التحدث مع الباري جل و علا و طريقة طلب المغفرة منه تعالى، أو أنّ هناک حقيقة أخرى تکمن في هذا النوع من التعبيرات؟
لا يوجد تعليق