إنّ ذكر الموت(1) أو التهيّؤ له من أفضل الأساليب التربويّة للإنسان وأحسن تنبيه لاجتناب الذنوب(2) كما أنّه يقصر من طول الأمل ويزيد في بصيرة الإنسان(3). وهذه الذكرى نجدها قد حفّت قضيّة الحسين(عليه السلام) وكثيراً ما نجد مفرداتها في كلمات الإمام(عليه السلام) وأصحابه. نستلهم في هذا المقال من كلمات وآراء سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازيّ(دام ظلّه الوارف) أهمّ مفردات منظومة >ذكر الموت< في النهضة الحسينيّة.
الاهتمام بالآخرة من علامات استحضار الموت
من جملة أهمّ علامات ذكر الموت أنّ صاحبها يذكر الآخرة على الدوام ولا تقتصر رؤيته على هذه الأيام القليلة من الدنيا ولذّاتها بل يرى ما بعد هذه الحياة العابرة ويشاهد عالم الخلد ونعمه العظيمة ولذلك يسعى وراء نيلها ومثوبتها(4).
فعلى سبيل المثال نجد حنظلة وهو من أصحاب الحسين(عليه السلام) سأل الإمام(عليه السلام): >ألا أسرع إلى الآخرة وألتحق بإخواني الذي مضوا؟< فقال أبا عبد الله الحسين(عليه السلام) له: >رح إلى خير من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى<(5).
وقد ورد في كتاب >نفس المهموم< عن الحسين(عليه السلام) بعد استشهاد ولده الرضيع(عليه السلام) أنّه قال: >يا نفس اصبري فيما أصابك، إلهي ترى ما حلّ بنا في العاجل فاجعل ذلك ذخيرة لنا في الآجل<(6)(7).
وفي رواية أخرى أنّ الحسين(عليه السلام) قال: >إلهي إن كنت حبست عنّا النصر في العاجلة، فاجعله ذخيرة لنا في الآجلة، إللهم خذ ثأرنا ممّن ظلمنا<(8).
استذكار الموت دعامة الشجاعة
لا يتسنّى التبسّم عند الموت وربط الجأش حين الشهادة إلا لمن ملئ شوق لقاء المحبوب أركان وجوده(9). وقد تكرّر في الروايات أنّ الكيسّ السعيد هو الذي يكثر من ذكر الموت فإنّ هذه الذكرى تحلّ المشاكل(10). لأنّ الإنسان حين يذكر الموت يخفّف من همّه حيث أنّ الجميع سائر نحو الموت ومن عرف هذه الغاية لا غم له ولا همّ(11).
قال الإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام): >لمّا اشتدّ الأمر بالحسين بن عليّ(عليه السلام) نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم لأنّهم كلّما اشتدّ الأمر تغيّرت ألوانهم وارتعدت فرائصهم ووجبت قلوبهم؛ وكان الحسين(عليه السلام) وبعض من معه من خصائصه تشرق ألوانهم وتهدأ جوارحهم وتسكن نفوسهم. فقال بعضهم لبعض: انظروا، لا يبالي بالموت. فقال لهم الحسين(عليه السلام): صبرا بني الكرام، فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة<(12).
طلب الشهادة في ضوء استحضار الموت
إنّ طلب الشهادة ممتزج مع نهضة سيّد الشهداء(عليه السلام)، فحركة الحسين(عليه السلام) كان شعارها أنّ الموت على الفراش عار وما أجمل الرجل يتشحّط بدمه في سبيل الله سبحانه وتعالى ويكون بذلك في زمرة الشهداء!(13). والإمام(عليه السلام) كان يعتزّ ويرحّب بالشهادة ولم يكن يخاف شيئاً لأنّ الموت في سبيل الله شرف ينير الطريق لمن غلّت الدنيا يديه(14).
ولذلك قال(عليه السلام): >وإن كانت الأبدان للموت أنشئت * فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل<(15)... ليرغب المؤمن(في مثل هذه الحال) في لقاء ربّه محقّاً. وإنّي لا أرى الموت(في سبيل الحقّ) إلاّ شهادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً<(16)(17).
ونحن نجد في قضيّة عاشوراء أنّ الحسين(عليه السلام) وأصحابه كلّما اشتدّت الظروف وضاق خناق الأعداء عليهم، كانت تشرق وتزدهر وجوههم أكثر فأكثر، حتّى أنّ الكهل من أصحابه(عليه السلام) كان ضاحكاً صبيحة يوم عاشوراء وعندما سئلوه عن السبب قالوا: >نحن واردون على الشهادة بعد ساعة<(18).
نشير هنا إلى مقطع من كلام الإمام الحسين(عليه السلام) لشرح العلاقة بين ذكر الموت وطلب الشهادة حيث قال(عليه السلام): >خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف<(19)(20).
العزّة؛ نتاج استحضار الموت
إنّ ذكر الموت مصدر للحياة والعزّة والفخر(21) فمن اختار الموتة الشريفة تحت وطأة النبال والرماح والسيوف على الحياة الذليلة في قصور رفيعة لا يشكّ في هذه الحقيقة(22). ولذلك قال الإمام الحسين(عليه السلام) في عدّة مواضع: ..(لن) نؤثر طـاعـة اللئام على مصـارع الكرام، ألا وإنـّي زاحـف بــهـذه الأسرة عـلى قـلّة العدد وخـذلان الناصـر(ومستعدّ للشهادة)<(23).
رفض الذلّة؛ ثمرة استحضار الموت
إن من أهمّ خصائص النهضة الحسينيّة رفض الذلّ، وهي صفة نجدها موجودة عند الإمام الحسين(عليه السلام) وأصحابه الكرام(24) حيث يشهد التأريخ للحسين(عليه السلام) أنّه قال: >هيهات منّا الذلّة<(25) وكذلك قوله: >والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد<(26)(27).
وأشار سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي إلى عدم الخشية من الموت وعلاقة هذه الخصوصيّة برفض الذلّ والمهانة في كلام الإمام الحسين(عليه السلام) حيث قال: >ليس شأني شأن من يخاف الموت، ما أهون الموت على سبيل نيل العزّ وإحياء الحقّ. ليس الموت في سبيل العزّ إلاّ حياة خالدة وليست الحياة مع الذلّ إلاّ الموت الذي لا حياة معه(28) أفبالموت تخوّفني، هيهات طاش سهمك وخاب ظنّك. لست أخاف الموت. إنّ نفسي لأكبر من ذلك وهمّتي لأعلى من أن أحمل الضيم خوفاً من الموت(29) وهل تقدرون على أكثر من قتلي؟! مرحباً بالقتل في سبيل الله ولكنّكم لا تقدرون على هدم مجدي ومحو عزّي وشرفي فإذاً لا أبالي بالقتل<(30)(31).
استحضار الموت؛ عنصر أساسيّ لإحياء الدين
إنّ ذكر الموت عنصر ضروريّ في سبيل إحياء الدين الإلهيّ ومواجهة الظالمين ولذلك نقول بأنّ نهضة الحسين في عاشوراء أحيت الدين وتسبّبت في نمو وازدهار شجرة الإسلام وأيقظت الأمّة الإسلاميّة وبثّت فيها روح الشجاعة وطلب الشهادة(32).
قال الشاعر:
ولقد تشحط هؤلاء بدمائهم في سبيل الحقّ حتّى يهدم أساس الكفر، وإنّ دم الحسين(عليه السلام) قدّ فسّر هذه الأسرار وأيقظ الأمّة الإسلاميّة(33).
وإضافة إلى ذلك فإنّ الإمام الحسين(عليه السلام) ببذل دمه الشريف أسّس مدرسة لأحرار العالم شعارها أنّ الشهادة فخر(34).
ترك الذنوب نتيجة استحضار الموت
إنّ ذكر الموت سدّ منيع أمام الذنوب(35) لأنّ الانتباه إلى الموت والالتفات إلى أنّ الدنيا فانية تمنع الحرص والطمع والشهوة ممّا هو نتيجة لنسيانه(36).
كما أنّ ذكر الموت يؤدّي إلى يقظة الإنسان ووعيه وتوبته ويحطّ الذنوب عنه(37) ومثاله توبة حرّ بن يزيد الرياحي حيث نقل >ابن أثير< أنّ الحرّ عندما أتى إلى الحسين(عليه السلام) قال: >وقد جئت إليك للتوبة وأريد الذبّ عنك حتّى الموت وأقتل بين يديك<(38).
الاهتمام بالمعاد من ثمرات استحضار الموت
إنّ من جملة أهمّ الخصائص التي يتميّز بها المؤمنون عن الماديّين هي نظرتهم إلى الموت، فالموحّد يرى الموت ولادة ثانية في حياة جديدة وليس الموت عنده إلا انتقالاً من بيت إلى آخر وتحرّراً من سجن الدنيا والدخول إلى عالم الآخرة الأوسع والأعظم. بينما الملحدون يعتبرون الموت نهاية كلّ شيء ولذلك ليسوا مستعدّين للتضحية في سبيل القيم السامية. ولذلك فإنّ الاعتقاد بالمعاد بعد التوحيد له تأثير كبير في تكوين شخصيّة الإنسان، وإنّما بعث الأنبياء من أجل ترسيخ هاتين العقيدين(39).
إذاً ينبغي الإكثار من ذكر المعاد وعدم الغفلة عنه ولو للحظة، فسرّ تضحيّة الحسين(عليه السلام) وأصحابه شجاعتهم المثاليّة التي زيّنت أسطر التأريخ والتي تكمن أيضاً في الإيمان الراسخ بالمعاد والحياة الأبديّة(40).
تولّي الإمام نتيجة استحضار الموت
لو تصفّحنا التأريخ كله لن نجد نظيراً لما حدث في ليلة عاشوراء داخل معسكر الحسين(عليه السلام) حيث أذن الإمام(عليه السلام) لجميع أصحابه وأمراء معسكره بالخروج من بيعته وترك هذه الأرض والنجاة بأنفسهم من الموت، ولكنّ الأصحاب أعلنوا الوفاء علماً منهم بمصيرهم في اليوم التالي والموت المحتّم ونيل الشهادة، حيث قالوا أنّنا لو استطعنا أن نفديك بأنفسنا ألف مرة لفعلنا!... ما أجمل المشهد وما أغربه وما أشوق هؤلاء إلى الشهادة في سبيل الله تحت راية قائد إلهيّ وربّانيّ مثل الإمام الحسين(عليه السلام)(41).
معالجة الغفلة باستحضار الموت
إنّ ذكر الموت يزيل ستائر الغفلة عن القلب وهو من هذه الزاوية نعمة وتنبيه في نفس الوقت، لأنّ حياة الدنيا إن كانت أبديّة لسئم الإنسان منها وملّ ولكنّ الحياة الآخرة مليئة بالفرح والسرور والارتياح(42) ولذلك فإنّ أكيس الناس وأوعاهم الذي يذكر الموت ويهيئ نفسه لها أكثر من غيره<(43).
وإنّ الحسين(عليه السلام) قد ثار لإيقاظ الناس وتوعيتهم... ولكن الناس استيقظوا متأخرين حين استشهد سيّد الشهداء(عليه السلام) وأصحابه وعلت رؤوسهم على الرماح وسبي أهل بيته(عليه السلام)، وبعد ذلك لم يهنئ العيش لبني أميّة وقامت الثورات واحدة تلو الأخرى ضدهم حتّى أثمرت تلك الدماء سقوط حكمهم واقتلاع هذه الشجرة الملعونة من أصلها(44)(45).
كلمة أخيرة:
إنّ ذكر الموت ممّا يربّي الإنسان على ترك الذنوب فلو لم يكن الموت لصعبت الحياة، بل إنّ ذكره من النعم الإلهيّة العظيمة(46) لأنّ الإنسان يتمكّن بواسطة ذكر الموت من السيطرة على نفسه كما ورد في الرواية: >وذلّله بذكر الموت<. وعندما تذلّ النفس الأمّارة بالسوء عندها لن تحجب الغفلة والكبرياء سمعه وبصره عن الحقّ(47). ولذلك نجد العشق والمعرفة غمرت آخر لحظات رفقة الحسين(عليه السلام) مع صحبه حيث أعلمهم الإمام بما سجري لهم من المصائب ونيل الشهادة والأصحاب يبكون فرحاً وشوقاً لها. وهذه اللحظات الخالدة من تاريخ كربلاء ترتسم بها طريقة الحياة الشريفة والموت بعزٍّ وشرف(48) وذلك هو درس الإمام الحسين(عليه السلام) في أرض كربلاء للناس أجمعين(49).
لا يوجد تعليق