لا يخفى على أحد وجوب تطبيق التعاليم الدينيّة في تعظيم الشعائر الحسينيّة وبيان فضائل أهل البيت(عليهم السلام)، ولكنّ صيانة التقاليد العريقة في مسألة إقامة مجالس العزاء يحتّم ضرورة الانتفاع بآراء العلماء والفقهاء بالنسبة إلى مراعاة المسائل الشرعيّة والعقليّة في مجالس عزاء الإمام(عليه السلام)، وإنّ الالتزام بهذه الإرشادات يزيد في معرفة ومحبة الناس لأهل البيت(عليهم السلام). ولذلك نستلهم في هذا المقال من آراء سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي(مدّ ظلّه الوارف) ماهيّة الآفات والتحريفات التي تتعرّض لها مجالس العزاء وكذلك الحلّ والمخرج منها.
ضرورة تسمية مواكب العزاء بأسماء مناسبة
أشار سماحته في بيان إحدى الآفات التي يتعرض لها العزاء الحسينيّ اليوم وهي الأسماء المعيبة للمواكب وقال: >أحياناً تسمّى المواكب بأسماء سيّئة ليست حراماً ولكنّها تضلّ مستمسكا بيد الأعداء يشمتون من خلالها بهذا الجمع الكبير من المشاركين. بينما يمكن تسميتها بأسماء محكمة غير متشابهة مثل موكب عشّاق الحسين(عليه السلام) أو موكب خدمة الحسين(عليه السلام) أو فدائيّي الحسين(عليه السلام)<(1).
ضرورة مواجهة الغوغائيّة الدينيّة
واستنكر سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازيّ منحى الغوغائيّة الدينيّة التي تشاهد أحياناً في الخطباء والنائحين في خصوص المعارف الدينيّة أو التخفيف عن قبح ارتكاب بعض المعاصي بحجة إقامة العزاء الحسينيّ وقال: >لا ينبغي للخطباء والنائحين التخفيف من أعباء الذنوب ولو بصورة غير مباشرة مثل أن يقال للمشارك في مراسم العزاء بأنّ مجرّد حضورك في المجلس في أيّام محرّم سيمحو لك جميع ما جنته يداك وإن كنت قد فعلت ما فعلت من الذنوب!
إنّ الحسين(عليه السلام) استشهد من أجل بقاء الدين والشريعة فعلينا كذلك الحفاظ عليهما. هناك قصّة لشاعر اسمه حاجب الكاشاني في هذا الخصوص، وممّا يؤيّد مقالتنا أنّه قال في الإمام عليّ(عليه السلام):
>يا حاجب إن كان خصمك يوم الحشر عليّاً، فأنا أضمن العاقبة وافعل ما شئت من الذنوب<.
ولكنّه رأى في المنام في تلك الليلة أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) قال له: صحّح أبياتك وقل هكذا:
>يا حاجب إن كان خصمك يوم الحشر عليّاً، فاخجل منه وقلّل من فعل الذنوب<.
وشتّان بين الطريقتين؛ لأن الحسين(عليه السلام) قد استشهد من أجل إحياء الصلاة كما أنّ السيّدة زينب الكبرى عليها السلام لم تترك صلاة الليل حتّى في ليلة الحادي عشر من المحرم بعد ما أصابها من المصائب الجمّة بينما نجد البعض يسهّل ويخفّف العبء عن ارتكاب المعاصي وهو في الواقع يقلب حقيقة المدرسة الحسينيّة ويحرّفها(2).
الغلوّ، أهمّ تحدّي بالنسبة إلى إقامة مراسم العزاء
انتقد المرجع الأعلى للشيعة سماحة الشيخ مكارم الشيرازيّ استخدام الأدب الغالي(3) في مجالس ومواكب عزاء أهل البيت(عليهم السلام) وقال: >ينبغي اجتناب الغلوّ وحتّى ما يشمّ منه رائحة الغلوّ في خصوص منزلة أئمّة الدين وغيرهم من الشخصيات الدينيّة(4) على الخطباء الكرام أن يذكّروا ذلك دائماً؛ لأن في الغلوّ مشكلتان: إحداهما أنّ الغلوّ مخالف للمعارف الإسلاميّة والثانية أنّ الغلوّ عندما يبلغ أعداء الإسلام والشيعة ووسائطهم الإعلاميّة فإنّ ذلك ينتشر أسرع ما يكون وسيؤدّي ذلك إلى تكفير الشيعة(5) ولذلك ينبغي منع كلّ جاهل من بيان التعبيرات الموبوءة بالكفر أو الغلوّ على المنابر الحسينيّة<(6).
ضرورة نقل القضايا من المصادر التاريخيّة المعتبرة ومطابقتها مع منزلة أهل البيت(عليهم السلام)
وتطرّق سماحته إلى أحد أهمّ تحدّيات العزاء الحسينيّ وهي ضرورة اعتماد المصادر التاريخية المعتبرة والموثوقة من قبل الخطباء والنائحين وقال: >إنّ الأشعار والكلمات يجب أن تكون إمّا منقولة عن مصدر تاريخيّ معتبر وإمّا أن تكون لسان الحال بمعنى أن يقتضي حال الإمام في تلك القضيّة شيئاً، كما يجب مراعاة منزلة ومقام الإمام(عليه السلام) في مضامين الأشعار<.
>فعندما نجد في بعض الأشعار: أنّي متيقّن بأنّك لم تكن تتمنّى إلا عرس الأكبر يا حسين! فهذا الكلام ينقص من منزلة الإمام الحسين(عليه السلام) وشأن يوم عاشوراء إلى أدنى ما يمكن، وللأسف فإنّ من يروّج لهذه الأفكار فإنّه يحصر سيد الشهداء في حدود أفكاره الحقيرة ثمّ يتفوّه بهكذا سخافات<.
>ينبغي أن تكون التعابير والمضامين محسوبة ودقيقة جداً، كما ينبغي أن تكون الأشعار وسائر الخطابات في أعلى المستويات حتّى تتناسب مع مدرسة الإمام الحسين(عليه السلام)<(7).
إذاً يجب نقل كلمات الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) وأصحابهم من المصادر التاريخية المعتبرة وبذلك تحفظ منزلة الإمام الحسين(عليه السلام) وشهداء الطفّ وهكذا يتعرّف الناس على حقيقة أهداف هذه الحركة والنهضة العظيمة(8).
ضرورة ترك الموسيقى اللهويّة في ألحان العزاء والنعي
وأشار سماحته إلى آفة أخرى من آفات المجالس الحسينيّة وهي استخدام بعض المادحين الموسيقى اللهويّة فقال: >إنّ الألحان والموسيقى المختارة يجب أن تكون متلائمة مع المجلس الحسينيّ. فهناك بعض الألحان الحزينة التي تحرق القلب وتدمي العين، ولكن أخيراً نجد هنا وهناك بعض الموسيقى والألحان البذيئة التي كانت تعزف في عصر الطواغيت والتي تبثّ من وسائط الإعلام الأمريكيّة، موسيقى لهويّة فاسدة، نجدها قد استخدمت في لحن المدح أو النوح وهذا ما ينبغي للنائحين الكرام اجتنابه بعون الله<(9) ولذلك لا يجدر بالنائح أن تشبه ألحانه موسيقى مجالس اللهو والفساد واعتماد الموسيقى البذيئة والرديئة في النوح(10).
ضرورة الاهتمام بأمر تعليم النائحين
اعتبر سماحته التعليم الشامل للنائحين والناعين من جملة أهمّ طرق الخروج من بعض آفات وتحريفات مجالس العزاء الحسينيّة وقال: >من المناسب أن يكون للنائحين دورات تعليميّة كما للخطباء الكرام، وأن يتعلّموا الطريقة التقليديّة في هذا الفن(11)؛ لأن النياحة مزيج من العلم والفنّ. كما أنه على الأجيال السابقة وأصحاب الخبرة نقل تجاربهم إلى الجيل الشاب الجديد ورفع مستواهم الفكري والدينيّ من خلال تعليمهم المسائل العقائديّة<(12).
>نرجوا من أصحاب الخبرة وخَدَمَة الحسين(عليه السلام) الاهتمام في تنفيذ هذا الواجب، وتفعيل البرامج التعليميّة للنائحين الشباب ممّا يوجب رضا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف ويكون مقبولاً عند صاحب المجالس سيّد الشهداء(عليه السلام)<(13).
ضرورة اجتناب التعرّي في مجالس العزاء
وعدّ سماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازيّ التعرّي في مجالس العزاء الحسينيّ من جملة آفات ثقافة العزاء وقال: >لا تسمحوا بالتعرّي في مجالس العزاء؛ لأن مثل ذلك لم يذكر في سيرة وروايات الأئمّة(عليهم السلام) وهو ممّا يعطي العدوّ حجّة ومستمسكاً(14) مثل هذه الأفعال مخالفة لشأن ومنزلة مجلس العزاء الحسينيّ. فمثلاً أيّنا يتعرّى في مجلس تأبين أبيه لكي يعزّي بذلك الحضور وأصحاب العزاء؟! هل هذا معقول؟!(15).
عدم تحريض المشاركين بإضرار الجسد
نفى سماحته الإضرار بالجسد في مجالس العزاء وقال: >لا تكن مجالس العزاء بحيث يتمّ فيها الإضرار بالجسد؛ لأن ذلك لا يصحّ شرعاً(16) ولذلك لا ينبغي تحريض الناس إلى الإضرار بالجسد. بل يجب على المتعزّي بالعزاء الحسينيّ أن يستخدم قوّته وجسده في سبيل الجهاد والشهادة ومواجهة أعداء الدين<(17).
اجتناب ذكر المصائب المؤلمة في المجالس العامّة
قال سماحته في بيان كيفيّة ذكر المصيبة في قضايا واقعة كربلاء: >ينبغي اجتناب ذكر المصائب المؤلمة حدّ الإمكان(18). فالنائح هو الذي يستطيع تهييج الناس وإبكاءهم دون التعرّض إلى المصائب، ولكن يوم تاسوعاء وعاشوراء مستثنى من هذه القاعدة بالطبع<(19).
الاهتمام بأداء الصلوات في أوقاتها
إنّ من أهمّ وظائف الخطباء والنائحين مراعاة وقت الصلاة في مجالس العزاء الحسينيّ قال سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازيّ: على الخطباء والنائحين مراعاة وقت الصلاة بأن لا يجعل في وقت الصلاة أيّ برنامج غير الصلاة(20)؛ لأن الصلاة عمود الدين ورأس مال تربية المجتمع الإسلامي. إنّ الإمام الحسين(عليه السلام) صلّى في يوم عاشوراء وهو يرشق بالنبال حتّى يقول لنا أنّه لا يوجد أي شيء يعطّل الصلاة أو يؤخّرها حتّى الجهاد. فكيف يسمح البعض لنفسه أن يجعل من مجالس عزاء الحسين(عليه السلام) مستمسكاً لتعطيل الصلاة؟!(21).
التطبير؛ مستمسك بيد الأعداء
لا شكّ بأنّ عمليّة التطبير المشكوكة هي من أهمّ التحريفات والآفات التي أصيبت بها مجالس عزاء الإمام الحسين(عليه السلام) ممّا أدى إلى استغلال الإعلام الأجنبي لها بالإساءة إلى الشيعة في أقصى مناطق العالم وبشكل مكثف ومتزايد. ولذلك صرّح سماحته وبموقف صارم وحازم إلى رفض وتقبيح التطبير: >ينبغي ترك الأفعال المشينة كالتطبير ووضع الأقفال على الأجساد؛ لأن مثل ذلك يكون مستمسكاّ بيد العدو حتّى يستنكر هذه المجالس. ثمّ إنّ السيف والطبر ينبغي أن يضرب به فرق العدوّ لا الصديق. ينبغي وضع القفل واللجام على أفواه العدوّ وليس الصديق. يجب الانتباه إلى أنّ مجرّد قدسيّة النيّة لا تكفي بل تتطلّب قدسيّة العمل أيضاً. ومثل هذه الأفعال ليست منصوصة يقيناً ولا هي من مصاديق العزاء عرفاً وشرعاً(22).
كلمة أخيرة:
وأكّد سماحته في الختام على ضرورة الترويج لعلاقة المشاعر والعقل عند الشيعة في مناسكهم وطقوسهم الحسينيّة وقال: لا شكّ بأنّ بعض النائحين والجهلة(ممّن لا يحسب على غالبيّة النائحين) له مقالات باطلة أو غالية في حقّ المعصومين، ولكنّ ذلك لا علاقة له بأصل مسألة إقامة العزاء الحسينيّ الذي يوجب يقظة ووعي الأمّة الإسلاميّة ويدعوا إلى مواجهة الظلم وهي مدرسة لتربية الصفات الإنسانيّة السامية(23). وإنّما الغاية من إقامة العزاء هو إحياء تأريخ الإمام الحسين(عليه السلام) وهدفه أي مواجهة الظلم والمذلّة. فمجلس العزاء ينبغي أن يكون بحيث يتعرّف المشارك من خلاله على أهداف سيّد الشهداء كما ينبغي أن تكون طرق العزاء متطابقة مع سنّة الإمام الحسين(عليه السلام) والأئمّة المعصومين(عليهم السلام) ومما يناسب أعراف المجتمع الإسلامي(24).
لا يوجد تعليق