تفسیر واستنتاج

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
الأخلاق فی القرآن 3
دوافع وعواقب اللجاج والمماراةتنویه

«الآیة الأولى» تتکلم عن الکفّار المعاندین، فإذا ما أنعم الله علیهم ورحمهم وکشف عنهم البلاء لغرض تنبههم لأخطائهم نراهم على العکس یزدادون غروراً، ویصرون على غیّهم وطغیانهم (وَلَوْ رَحِمْنـاهُمْ وَکَشَفْنـا مـا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجّوا فِى طُغْیـانِهِمْ یَعْمَهُونَ).

نعم فإن هذه الفئة التی تتعامل مع الحق والواقع من موقع العناد والاصرار على الباطل، مرّة یتهمون الرسول(صلى الله علیه وآله)بالجنون وتارة یطلبون منه التسلیم لکلامهم، وعندما یرون المعجزات کانوا یصرون ویستکبرون وینکرون کل شیء. فالله تعالى شأنه ولأجل تنبیههم، جعلهم عرضة للبلاء والتمحیص مرّة، ومرّة اُخرى یغدق علیهم من نعمهِ ورحمته، فلم ینفع کل ذلک لا البلاء والتمحیص ولا اغداق النعم، وکل ذلک کان بسبب جهلهم وعنادهم وتعصبهم.

وقال بعض المفسرین: إنّ الطغیان له أشکال مختلفة، طغیان العلم هو التفاخر، وطغیان المال البخل، وطغیان العبادة الریاء، وطغیان النفس اتباع الشهوات(1)، فیصاب الإنسان بکل هذه الاُمور على أثر اللجاج والعناد.

وتتحرک «الآیة الثانیة» لتتناول بالبحث المشرکین اللجوجین ایضاً الذین لم یکونوا لیسلموا بأیة قیمة کانت للمنطق السلیم والواضح للرسول(صلى الله علیه وآله)، ولا استعداد عندهم لترک آلهتهم المصنوعة بأیدیهم.

فیقول القرآن الکریم فی هذه الآیة: (اَمَّنْ هذَا الّذِی یَرْزُقُکُم إِنْ أَمْسَکَ رِزْقَهُ بَلْ لَجّوا فِی عُتُوٍّ وَنُفُور).

کرّر القرآن الکریم هذا القول مراراً للمشرکین من أنّ أصنامکم لا فائدة منها، فلا یدفعون عنکم عدوّاً، ولا یرزقونکم، ولا یکلمونکم، ولا ینفعونکم ولا یضرونکم ولا عقل لهم ولا شعور.

ومع ذلک کلّه أی دلیل لدیهم لعبادة تلک الأصنام؟ وعلى الرغم من فقدان الدلیل الحاسم على سلوکهم المخالف للعقل والفطرة، استمروا بلجاجة على عبادة الأصنام.

وتتعرض «الآیة الثالثة» من هذهِ الآیات إلى أول لجوج ومتعصب فی مقابل الحق، ألا وهو الشیطان، عندما تکبّر وطرد من قبل الباری تعالى وفقد مقامه الرفیع والمنزلة التی کانت لدیه بین الملائکة، وقد کان علیه أن یلتفت لخطأه الکبیر، ویعود إلى الله تعالى من موقع الندم، ویغسل ذنبه بماء التوبة، ویطفىء النار التی أججها بدموع الخجل، ولکنه أبى واستکبر وأصرّ على البقاء فی دائرة المعصیة أکثر وأکثر ولم یکن ذلک إلاّ بسبب التکبّر والحسد واللجاجة، وقرّر أن ینتقم من آدم(علیه السلام) وذرّیته، ویضلّهم بوساوسه، ولیس لیوم أو ساعة أو شهر ولکنه سیستمر إلى نهایة الدنیا، فی تکریس الإثم والخطیئة وعناصر الانحراف والزیغ فی کل المجتمعات فلا یسلم من منزلقات البؤس والفساد لا الکبیر ولا الصغیر ولا الرجل ولا المرأة.

فطلب من الله تعالى: (قـالَ أَنْظِرنِى إِلى یَوْمِ یُبْعَثُونَ * قـالَ إِنّکَ مِنْ المُنْظَرینَ قـالَ فَبِمـا أَغْوَیْتَنِی لاََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَکَ الْمُسْتَقِیمَ).

ومن المؤکّد أن العمر الطویل له فائدة کبرى لکل شخص یزید من حسناته، ویصحح أخطاءه، وإذا کان له ماض أسود یبدّله إلى مستقبل سعید ونورانی، ولکن العمر الطویل للطغاة والصعالیک والمعاندین على العکس من ذلک فله نتائج عکسیة.

ولعل إجابة دعائه بالعمر الطویل من رحمة الله تعالى التی تستوعب الخاطئین، أو ربّما کان تقدیراً من الله وجزاءً لعبادته لله آلاف السنین، ولعله یعود عن غیّه، لکن هذهِ النعمة عندما تقع فی أیدی الطغاة والصعالیک والمعاندین فستتحول إلى نقمة علیهم.

وتأتی «الآیة الرابعة» لتتحدث عن قوم نوح(علیه السلام) وعنادهم فی مقابل دعوة نبیّهم الرحیم بهم، فدعاهم لیلا ونهاراً فی الخلاء والملأ لینجیهم من العذاب، وکلما ألحّ علیهم فی قبول دعوة الحق، ازدادوا غیّاً وعناداً.

فاشتکى نوح(علیه السلام) إلى الله وقال: (قـالَ رَبِّ إِنِّی دَعَوْتُ قَوْمِی لَیْلا وَنَهـاراً * فَلَمْ یَزِدْهُمْ دُعـائی إِلاّ فراراً * وَإِنِّی کُلَّمـا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصـابِعَهُمْ فِی آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوا ثِیـابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَکْبَرُوا إِسْتِکْبـاراً).

فأی تعصب وعناد هذا الذی یضع الإنسان اصابعه فی آذانه حتى لا یسمع الحق ویلفّ وجهه ویغطیه بثوبه حتى لا یرى من یدعوه إلى الحق والسعادة والخیر، بل یتحرّک بعیداً عنه ویتهرب من مواجهته؟!

فالهروب من الحق له حدود، ولکنهم تعدّوها إلى أبعد شیء ولم یتخذوا غیر طریق المعاندة والتعصب والإستبداد.

فکیف یجوز للإنسان المریض أن یفرّ من الطبیب، وللغارق فی الظلمات أن یتهرب من النور، وللغریق أن یتملّص من المنقذ له؟ إنّه أمر محیرٌ حقّاً، ولکن العناد واللجاج والإستکبار یقف وراء الکثیر من هذا القبیل من السلوکیات الغارقة فی الوهم والزیف.

ولا نجد أحداً من الأنبیاء(علیهم السلام) دعا قومه کما دعا نوح(علیه السلام) إذ عمّر فیهم 950 سنةً وأکّد علیهم دعوته الإلهیة مراراً وتکراراً، وعبارة «اللیل والنهار» یمکن أن تکون إشارة إلى مجالسهم العمومیة التی کانوا یجلسون فیها باللیل والنهار، فکان یدعوهم إلى الله تعالى فی کل وقت، ولم یؤمن له إلاّ قلیل، وعلى حد تعبیر البعض أنّ معدل من کان یؤمن به من قومه فرد واحد لکل اثنی عشرة سنةً.

تعبیر: (جَعَلُوا أَصـابِعَهُمْ فِی آذانِهِمْ)، هو وضع رؤوس الأصابع فی الآذان لمنع السماع، أو هو إشارة لشدّة موقفهم فی الهروب من الحق، وکأنّهم کانوا یریدون أن یدخلوا أصابعهم کلها فی الآذان حتى لا یسمعوا الحق.

تعبیر: (فَلَمْ یَزِدْهُمْ دُعـائی إِلاّ فراراً)، یبین أنّ دعوة نوح النبی(علیه السلام) کانت لها نتیجةً عکسیة عندهم، نعم فإن المشاکسین والمستکبرین یصرون على أفعالهم عند سماعهم للحق، ومثلهم کمثل المزابل عند هطول المطر علیها حیث تزداد عفونة وتشتد رائحتها النتنة.

«الآیة الخامسة» تشیر إلى عناد قوم ابراهیم(علیه السلام) من عبدة الأوثان فی بابل بعدما أثبت لهم ابراهیم(علیه السلام) بدلیل قاطع زیف آلهتهم، فحطّم الأصنام کلها إلاّ کبیرهم وطلب منهم أن یسألوا الکبیر عمّن فعل بآلهتهم تلک الفعلة الشنیعة؟؟

لقد تنبهوا للأمر فی واقعهم ولاموا أنفسهم واستیقظوا للحظة، ولو قدّر أن تستمر هذهِ اللحظة لتغیر موقفهم من الشرک إلى الإیمان، ولکن عنادهم ولجاجتهم وتعصبهم لم یمنحهم الفرصة للتفکیر السلیم وتقول الآیة: (ثُمَّ نُکِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مـا هؤُلاءِ یَنْطِقُونَ).

فقال إبراهیم(علیه السلام): (أَفَتَعْبُدونَ مِنْ دوُنِ اللهِ مـا لا یَنْفَعُکُمْ شَیْئاً وَلا یَضُرُّکُمْ اُفٍّ لَکُم وَلِمـا تَعبُدُونَ أَفَلا تَعقِلُونَ).

 

إذا تجرّد الإنسان من تعصبه وعناده، ورأى باُمِّ عینیه أنّ الذی کان یعوّل علیه دائماً فی المحن والصعاب، أصبح لا قیمة له الیوم وتبیّن زیفه بحیث لا یستطیع معرفة من عمل على تخریبه وتحطیمه، ألیس من الجدیر بذلک الشخص أن یستیقظ من نومته تلک ویتحرّک بعیداً عن تلک السلوکیات الغارقة فی الزیف ویتجنب هذهِ الخرافات والاعتقادات السخیفة ویطهر فکره منها؟!

نعم فإن التعصب واللجاج یضع حجاباً قویاً على عین وقلب الإنسان فینکر اوضح المسائل.

واللطیف فی الأمر أنّ الآیة الاُولى ذکرت: (فَرجِعُوا إِلى أَنْفُسِهُم) وهو تعبیر حاکی عن الاستیقاظ والانتباه، ولکن الآیة الثانیة تقول:(ثُمَّ نُکِسُوا عَلى رُؤُوسِهُم) وهو تعبیر عن تراجع من موقع الوضوح فی الرؤیة وبدوافع جاهلیة وغیر منطقیة مترسبة فی دوافع النفس.

«الآیة السادسة»، تستعرض عناد بنی اسرائیل الذی یضرب به المثل ففی، هذه الآیة وما قبلها اشارة إلى قصة القتل المُبهم الذی وقع فی قوم بنی اسرائیل، وکاد أن یفضی إلى إقتتال الطوائف فیما بینها.

فقال موسى(علیه السلام): بأمر من الله سوف نعرّف القاتل، فاذبحوا بقرة ولامسوا بقسم من بدنها ببدن المقتول، فسیقول لکم من هو القاتل.

حیّر هذا الاقتراح العجیب بنی اسرائیل، ولکنه فی نفس الوقت بعث الأمل فی نفوسهم، وحان الوقت لتنفیذ أوامر النبی موسى(علیه السلام) وانهاء المسألة، ولکن بنی اسرائیل وبصورة غریبة أخذوا یستشکلون ویتساءلون من موقع العناد وعدم الرغبة فی الامتثال، فمرّة یسألون عن عمرها ومرّة عن لونها واُخرى عن نوعها وعملها، فبأسألتهم تلک ضیّقوا فرصة العثور على مثل هذهِ البقرة لحظة بعد لحظة وبالتالی وبعد عناد کبیر وسعر خیالی وجدوا البقرة بتلک الأوصاف المطلوبة، ولو أنّهم لم یسألوا ولم یستشکلوا وذبحوا أول بقرة وقعت فی أیدیهم، لأنحلت المشکلة، لأنّه لو کان (المأمور به) مشروطاً بشرائط معینة لوجب البیان فی مقام الحاجة، وکما یقول الاصولیون: «أن تأخیر البیان عن وقت الحاجة قبیحٌ». وفی الحقیقة إنّ هذهِ الأسئلة والتدقیق فی المسألة یدلّ على عدم إیمانهم بحکمة الله تعالى، والحکیم لابدّ وأن یبیّن کل ما هو لازم وضروری من الشرائط والقیود، ولا یحتاج للسؤال، ویمکن أن یکون قصدهم من ذلک هو عدم وجود تلک البقرة حتى یستمروا بمغامراتهم التی یتحرّکون من خلالها فی دائرة العناد دوماً فی مقابل الإمتثال للحق، فقال القرآن الکریم: (وَإِذْ قـالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أَنَّ اللهَ یَأْمُرُکُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قـالُوا أَتَتَّخُذُنـا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَکُونَ مِنَ الجـاهِلِینَ).

فتبیّن هذهِ الآیات مدى النزاع الذی حصل بین بنی اسرائیل لمعرفة القاتل، وعلى ذلک کان یتوجب علیهم تنفیذ أوامر موسى(علیه السلام) بسرعة لیجدوا القاتل، ولکن اللّجاج الذی دخل فیه بنو اسرائیل لم یعطهم الفرصة لانهاء الأمر فسألوا وسألوا حتى صعّب علیهم الباری تعالى الأمر فأصبح البحث عن تلک البقرة أمراً مستعصیاً جداً، فهی بقرة، صفراء بالکامل تسرُّ الناظرین، لا فارض ولا بکر عوان بین ذلک، ولا ذلول وتثیر الأرض ولا تسقی الحرث مسلّمةً لاشیَةَ فیها، فمن البدیهی عدم توفّر مثل هذه الأوصاف فی بقرة واحدة إلاّ بصعوبة، ولکن کان علیهم أن یدفعوا ثمن لجاجهم وعنادهم، فاضطروا لشرائها بثمن باهظ جدّاً، فذبحوها وضربوا بعضها ببدن المیت فعادت الحیاة إلیه باذن الله ودلّهم على قاتله.

«الآیة السابعة» أیضاً تتحدث عن بنی اسرائیل وعنادهم العجیب حیث أخذوا باطراف موسى(علیه السلام) وطلبوا من نبیّهم المحال وقالوا: (وَإِذْ قُلْتُمْ یـا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَکَ حَتّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً).

الظاهر أنّهم کانوا یعلمون أنّ الله تعالى لیس بجسم ولا جهة له ولا مکان، ولکن کلامهم کان بسبب طغیانهم وعتوّهم، ومن أجل أن یبیّن الله تعالى جیداً مسألة استحالة رؤیته، ولتأدیب اُولئک القوم المعاندین أمر بسبعین من رؤوسائهم أن یخرجوا مع موسى(علیه السلام)للمیعاد فی جبل الطور، لیتلقوا الجواب على سؤالهم العجیب هناک وینقلوا ما سیشاهدوه لقومهم، وعند وصولهم لجبل الطور، سأل موسى(علیه السلام) بالنّیابة عنهم أن یتجلّى الله تعالى لهم جهرةً، فقال: (رَبِّ أَرِنِی أَنظُرْ إِلَیْکَ قَالَ لَنْ تَرَانِی وَلَکِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَکَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِی)، فأخرج هذه الفکرة من رأسک الى الأبد.

فصعقت صعقة شدیدة ملأت الکون، وزلزل الجبل وتلاشى، ومات الـ 70 نفر إلاّ موسى(علیه السلام) فقد فَقَدَ الوعی کما ذکر القرآن فی ذیل الآیة: (فَأَخَذَتْکُمُ الصّـاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ).

وعندما استیقظ موسى(علیه السلام)، طلب من الباری تعالى إعادة الحیاة إلیهم، لئلا تعود المشاکل بینه وبین بنی اسرائیل: (قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَکْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِیَّاىَ أَتُهْلِکُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) واستجاب الله دعاءه وأعادهم للحیاة کما صرّح بها القرآن الکریم فیما بعدها من الآیات (ثُمَّ بَعَثنـاکُم مِنْ بَعدِ مَوتِکُم لَعَلَّکُم تَشکُرُونَ).

ویتبیّن ممّا ذکر آنفاً أنّ موسى(علیه السلام) لم یطلب هذا الأمر من تلقاء نفسه، ولکن نزولا عند رغبة بنی اسرائیل، حتى یُلَقّنوا درساً عملیاً ویفهموا ان الذی لا یستطیع أن یشاهد الصاعقة کیف یمکن له أن یرى الباری تعالى شأنه؟

وهو أیضاً عقاباً وتأدیباً لهم حتى لا یطلبوا اُموراً مستحیلةً.

 

«الآیة الثامنة» من الآیات التی وردت فی مقام الحدیث عن عناد بنی اسرائیل بعدما نصرهم الله على عدوّهم وخلّصهم من شر فرعون وجنوده حیث توجهوا نحو الدیار المقدسة یعنی بیت المقدس، التی کانوا یتمنون الوصول إلیها، وعندما وصلوا على مقربة من الأرض المقدّسة جاءهم الأمر أن اُدخلوا هذهِ الأرض ولا تخافوا ممّا سیحدث فیها، ولکنّهم قالوا لموسى(علیه السلام): إنّ فیها اُناس یسمّون (بالعمالقة) أشداء أقویاء ولن ندخلها حتى یخرجوا منها. فقال لهم بعض المؤمنین من موقع النصیحة والمسؤولیة بأنّکم إذا دخلتم الباب علیهم فسینصرکم الله على العمالقة بفضله وعنایته.

ولکن بنی اسرائیل ظلّوا على غیّهم وکما جاء فی الآیة الکریمة (قـالُوا یـا مُوسى إِنّـا لَنْ نَدْخُلَهـا أَبَداً مـا دامُوا فِیهـا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّکَ فَقـاتِلا إِنّا ههُنـا قـاعِدُونَ).

وهنا أیضاً ذاق بنو اسرائیل طعم عنادهم ولجاجتهم، فأخذ الله تعالى النصر عنهم ودخول بیت المقدس أربعین سنةً، وتاهوا فی الصحاری القریبة منها، فسمّوا تلک الصحاری بأرض «التیه» التی کانت قسماً من صحاری (سیناء).

والمسألة المهمّة والتی یجب الإشارة الیها هو أن الّلجاج وعدم الانصیاع یفضی إلى التعامل مع الباری تعالى من موقع الاهانة والاستهزاء، حیث قالوا: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّکَ فَقـاتِلا إِنّا ههُنـا قـاعِدُونَ)، فالإهانة والاستهزاء فی هذا الکلام یتجلیان بکل وضوح، ولکن الجاهل والأنانی واللجوج لا یعرف منطق أفضل من هذا.

والواقع أنّ التیه أربعین سنة فی تلک الصحاری، کان حکمة ورحمة إلهیة، وبهدف تغییر النسل الذی نشأ فی مصر، والذی لم یستطع عمل موسى(علیه السلام) الثّقافی والفکری الدؤوب أن یغیّر فیه الکثیر، فجاء نسل جدید نشأ فی الصحراء وفی وسط المشکلات فحصلت فیه التغییرات الداخلیة اللازمة لتحریر الدیار المقدسة من الاعداء وإقامة الحکومة الإلهیة، وفی الحقیقة أن هذهِ العقوبة کانت فی الواقع رحمة ربانیة ولطف إلهی، وأکثر العقوبات الإلهیة هی من هذا القبیل.

 

فی «الآیة التاسعة» من الآیات نقرأ حدیثاً عن قوم فرعون الذین آتاهم الله تعالى «بتسع آیات»(2) إلهیة على مستوى الاعجاز، ولم یکونوا بأقل عناد واصرار على الانحراف من بنی اسرائیل حتى أنّهم قالوا لموسى (وَقـالوا یـا أَیُّهـَا السّـاحِرُ ادْعُ لَنـا رَبَّکَ بِمـا عَهِدَ عِنْدَکَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمّـا کَشَفْنـا عَنْهُمُ الْعذابَ إِذا هُمْ یَنْکُثُونَ).

تعبیرات الآیة واضحة جدّاً، فکلها تبیّن وتعکس العناد الذی کانوا علیه، فأولها نعتوا موسى(علیه السلام) بالساحر ومع ذلک یلجأون إلیه لکی یخلصهم من البلاء، وتعبیر «ربّک» علامة اُخرى على العناد. وتأکیدهم على الإیمان بموسى(علیه السلام)على فرض انقاذهم من البلاء واضح من کلمة (إننا لمهتدون) وتعبیر (ینکثون) التی وردت بصورة الفعل المضارع تبیّن أنّهم أبرموا العهود ونقضوها مرّات عدیدة، وهو دلیل على عنادهم أیضاً.

وبالتالی فانّهم ذاقوا عقاب عنادهم ولجاجتهم، حیث اغرقهم الباری تعالى بجمیع عدّتهم وعددهم ورؤسائهم فی الیمِّ(3).

«الآیة العاشرة» والأخیرة من هذه الآیات، ناظرة لعناد المشرکین العرب حیث کانوا یصرّون على عنادهم ویتهربون من قبول دعوة الرسول(صلى الله علیه وآله) والتی کانت مدعمة بالآیات والمعجزات، ولو کان عندهم ذرّة من روح الحب للحقیقة، لقبِلوا احدى تلک المعجزات الکبیرة التی اتى بها الرسول الاعظم(صلى الله علیه وآله) ومن جملتها القرآن الکریم المعجزة الخالدة للرسول الکریم(صلى الله علیه وآله)، ولکنهم کانوا فی کل یوم یطلبون معجزةً جدیدة، ومع ذلک لا یؤمنون بها أیضاً، إلى أن وصلوا إلى أقصى درجات اللجاجة والعناد، (أَوْ یَکُونَ لَکَ بَیْتٌ مِنْ زُخْرُف أَوْ تَرْقى فِى السَّمـاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِیِّکَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَیْنـا کِتـاباً نَقْرَؤُهُ).

هذا الکلام هو دلیل واضح على التعامل مع الموقف من موقع العناد، وفیه أیضاً نقطة مهمّة، ألا وهی أنّهم کانوا یتصوّرون أنّ النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) یقول: إنی افعل ما اشاء ومتسلط على جمیع الکون، لکنّ الحقیقة أنّ المعجزات دائماً تتحقق بأمر إلهی وکیفما یشاء الباری تعالى، لذا نقرأ فی آخر الآیات: ( قُلْ سُبْحـانَ رَبِّی هَلْ کُنْتُ إِلاّ بَشَراً رَسُولا).

ویذکر فی شأن النزول أنّ قوماً من مشرکی مکّة وعلى رأسهم (الولید بن المغیرة وابو جهل) اجتمعوا عند الکعبة الشریفة وأخذوا یتحدثون عن النبی وکیفیة مواجهته، وبالتالی قرّروا أن یذهب أحدهم إلى رسول الله(صلى الله علیه وآله)، ویقترح علیه أن یتوجّه إلیهم یکلمهم ویکلمونه حول الدین الجدید، فأسرع إلیهم الرسول على أمل قبولهم للحق، لکنّه سمع الکلام الآنف الذکر، بالإضافة إلى مجابهتهم له باُمور واهیة ومهینةً اُخرى.

ومن المؤکد أنّهم لو کانوا یطلبون الحق ویریدونه، لتوجب على الرسول الأعظم(صلى الله علیه وآله) النزول عند رغبتهم، أو على الأقل تنفیذ إحدى المعجزات، ولکنهم طالما شاهدوا المعجزات من الرسول الأکرم(صلى الله علیه وآله) لم یذعنوا للحق، اضافة إلى أنّهم بطلبهم هذا اعترفوا إنّهم لن یؤمنوا لرقیّ الرسول الأعظم(صلى الله علیه وآله) فی السماء أمام أعینهم حتى ینزل علیهم کتاباً من السماء لیقرؤوه، ولو نزل الرسول(صلى الله علیه وآله) عند رغبتهم وآتاهم بالمعجزة هذه لما آمنوا، لأنّ سابقة عنادهم ومواقفهم السلبیة من الدعوة هی أفضل دلیل، فعندما کانوا یشاهدون المعاجز الباهرة، یقولون هذا من السحر وإنّ الرجل لساحر، وهکذا یجهضون أی أثر للمعجزات فی وعیهم بتعاملهم معها بلغة الاتهام الذی ینطلق من موقع العناد.

 

فتبیّن من مجموع الآیات الآنفة الذکر أنّ مسألة اللّجاج والعناد على مرّ العصور وتاریخ البشر کانت ولا تزال من أهم الموانع فی طریق الحق، حیث کان وجود هذه الحالة النفسیة السلبیة یمثل مشکلة عویصة تمتد فی أعماق نفوس المشرکین فی الأقوام السابقة، وعلیه فلو تحرک الإنسان فی عملیة الوصول إلى الحق والحقیقة فعلیه أن یزیل هذه الصفة الذمیمة من محتواه الداخلی ویتخلص منها.

 


1. روح البیان، ج 6، ص 98.
2. سورة الاسراء، الآیة 101.
3. نظیر هذه التعبیرات وبشرح اکبر جاء فی سورة الاعراف فی الآیات 131 ـ 135.

 

دوافع وعواقب اللجاج والمماراةتنویه
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma