عالم الوجود المتکامل

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
الأمثل 14
عظمة عالم الخلقسورة الملک / الآیة 1 ـ 5

تبدأ آیات هذه السورة بمسألة مالکیة وحاکمیة الله سبحانه، وخلود ذاته المقدّسة، وهی فی الواقع مفتاح جمیع أبحاث هذه السورة المبارکة(1).

یقول تعالى: (تبارک الذی بیده الملک وهو على کلّ شیء قدیر).

«تبارک»: من مادّة (برکة) فی الأصل من (برک) على وزن (ترک) بمعنى (صدر البعیر)، وعندما یقال: (برک البعیر) یعنی وضع صدره على الأرض، ثمّ استعملت الکلمة بمعنى الدوام والبقاء وعدم الزوال، وأطلقت کذلک على کلّ نعمة باقیة ودائمة، ومن هنا یقال لمحلّ خزن الماء (برکة) لأنّ الماء یبقى فیها مدّة طویلة.

وقد ذکرت الآیة أعلاه دلیلا ضمنیّاً على أنّ الذات الإلهیة مبارکة، وهو مالکیته وحاکمیته على الوجود، وقدرته على کلّ شیء، ولهذا السبب فإنّ وجوده تعالى کثیر البرکة ولا یعتریه الزوال.

ثمّ یشیر سبحانه فی الآیة اللاحقة إلى الهدف من خلق الإنسان وموته وحیاته، وهی من شؤون مالکیته وحاکمیته تعالى فیقول: (الذی خلق الموت والحیاة لیبلوکم أیّکم أحسن عمل).

«الموت»: حقیقته الإنتقال من عالم إلى عالم آخر، وهذا الأمر وجودی یمکن أن یکون مخلوقاً، لأنّ الخلقة ترتبط بالاُمور الوجودیة، وهذا هو المقصود من الموت فی الآیة الشریفة، أمّا الموت بمعنى الفناء والعدم فلیس مخلوقاً، لذا فإنّه غیر مقصود.

ثمّ إنّ ذکر الموت هنا قبل الحیاة هو بلحاظ التأثیر العمیق الذی یترکه الالتفات إلى الموت، وما یترتّب على ذلک من سلوک قویم وأعمال مقترنة بالطاعة والالتزام، إضافة إلى أنّ الموت کان فی حقیقته قبل الحیاة.

أمّا الهدف من الامتحان فهو تربیة الإنسان کی یجسّد الاستقامة والتقوى والطهر فی المیدان العملی لیکون لائقاً للقرب من الله سبحانه، وقد بحثنا ذلک مفصّلا فیما سبق(2).

کما أنّ الجدیر بالملاحظة فی قوله «أحسن عملا» هو التأکید على جانب (حسن العمل)، ولم تؤکّد الآیة على کثرته، وهذا دلیل على أنّ الإسلام یعیر إهتماماً (للکیفیة) لا (للکمیّة)، فالمهمّ أن یکون العمل خالصاً لوجهه الکریم، ونافعاً للجمیع حتى ولو کان محدود الکمیة.

لذا ورد فی تفسیر (أحسن عمل)، روایات عدّة، فعن رسول الله(صلى الله علیه وآله) أنّه قال: «أتمّکم عقلا، أشدّکم لله خوفاً، وأحسنکم فیما أمر الله به، ونهى عنه نظراً، وإن کان أقلّکم تطوّعاً»(3).

حیث إنّ العقل الکامل یطهّر العمل، ویجعل النیّة أکثر خلوصاً لله عزّوجلّ ویضاعف الأجر.

وجاء فی حدیث عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنّه قال حول تفسیر (أحسن عملا): «لیس یعنی أکثر عملا، ولکن أصوبکم عملا، وإنّ الإصابة خشیة الله والنیّة الصادقة. ثمّ قال: الإبقاء على العمل حتى یخلص، أشدّ من العمل، والعمل الخالص هو الذی لا ترید أن یحمدک علیه أحد إلاّ الله عزّوجلّ»(4).

وتحدّثنا فی تفسیر الآیة: (وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ لیعبدون)(5)، وقلنا: أنّ الهدف من خلق الإنسان فی تلک الآیة هو العبودیة لله عزّوجلّ، وهنا نجد الهدف: (إختباره بحسن العمل)، وممّا لا شکّ فیه أنّ مسألة الاختبار والامتحان لا تنفکّ عن مسألة العبودیة لله سبحانه، کما أنّ لکمال العقل والخوف من الله تعالى والنیّة الخالصة لوجهه الکریم ـ والتی اُشیر لها فی الروایات أعلاه، أثراً فی تکامل روح العبودیة.

ومن هنا نعلم أنّ العالم میدان الامتحان الکبیر لجمیع البشر، ووسیلة هذا الامتحان هو الموت والحیاة، والهدف منه هو الوصول إلى حسن العمل الذی مفهومه تکامل المعرفة، وإخلاص النیّة، وإنجاز کلّ عمل خیّر.

وإذا لاحظنا أنّ بعض المفسّرین فسّر (أحسن عملا) بمعنى ذکر الموت أو التهیّؤ وما شابه ذلک، فإنّ هذا فی الحقیقة إشارة إلى مصادیق من المعنى الکلّی.

وبما أنّ الإنسان یتعرّض لأخطاء کثیرة فی مرحلة الامتحان الکبیر الذی یمرّ به، فیجدر به ألاّ یکون متشائماً ویائساً من عون الله سبحانه ومغفرته له، وذلک من خلال العزم على معالجة أخطائه ونزواته النفسیة وإصلاحها، حیث یقول تعالى: (وهو العزیز الغفور).

نعم، إنّه قادر على کلّ شیء، وغفّار لکلّ من یتوب إلیه.

وبعد إستعراض نظام الموت والحیاة الذی تناولته الآیة السابقة، تتناول الآیة اللاحقة النظام الکلّی للعالم، وتدعو الإنسان إلى التأمّل فی عالم الوجود، والتهیّؤ لمخاض الامتحان الکبیر عن طریق التدبّر فی آیات هذا الکون العظیم، یقول تعالى: (الذی خلق سبع سماوات طباق).

بالنسبة إلى موضوع السموات السبع فقد استعرضنا شیئاً حولها فی تفسیر الآیة 12 من سورة الطلاق، ونضیف هنا أنّ المقصود من (طباق) هو أنّ السموات السبع، کلا منها فوق الاُخرى، إذ إنّ معنى (المطابقة) فی الأصل هو الشیء فوق شیء آخر.

ویمکن إعتبار «السموات السبع» إشارة إلى الکرات السبع للمنظومة الشمسیة، والتی یمکن رؤیتها بالعین المجرّدة، حیث تبعد کلّ منها مسافة معیّنة عن الشمس أو تکون کلّ منها فوق الاُخرى.

أمّا إذا اعتبرنا أنّ جمیع ما نراه من النجوم الثابتة والسیارة ضمن السماء الاُولى، فیتّضح لنا أنّ هنالک عوالم اُخرى فی المراحل العلیا، حیث إنّ کلّ واحد منها یکون فوق الآخر.

ثمّ یضیف سبحانه: (ما ترى فی خلق الرحمن من تفاوت).

إنّ الآیة أعلاه تبیّن لنا أنّ عالم الوجود ـ بکلّ ما یحیطه من العظمة ـ قائم وفق نظام مستحکم، وقوانین منسجمة، ومقادیر محسوبة، ودقّة متناهیة، ولو وقع أی خلل فی جزء من هذا العالم الفسیح لأدّى إلى دماره وفنائه.

وهذه الدقّة المتناهیة، والنظام المحیّر، والخلق العجیب، یتجسّد لنا فی کلّ شیء، ابتداء من الذرّة الصغیرة وما تحویه من الإلکترونات والنیوترونات والبروتونات، وانتهاءً بالنظم الحاکمة على جمیع المنظومة الشمسیة والمنظومات الاُخرى، کالمجرّات وغیرها... إذ إنّ جمیع ذلک یخضع لسیطرة قوانین متناهیة فی الدقّة، ویسیر وفق نظام خاصّ.

وخلاصة القول أنّ کلّ شیء فی الوجود له قانون وبرنامج، وکلّ شیء له نظام محسوب.

ثمّ یضیف تعالى مؤکّداً: (فارجع البصر هل ترى من فطور).

«فطور» من مادّة (فطر)، على وزن (سطر) بمعنى الشقّ من الطول، کما تأتی بمعنى الکسر (کإفطار الصیام) والخلل والإفساد، وقد جاءت بهذا المعنى فی الآیة مورد البحث.

ویقصد بذلک أنّ الإنسان کلّما دقّق وتدبّر فی عالم الخلق والوجود، فإنّه لا یستطیع أن یرى أی خلل أو اضطراب فیه.

لذا یضیف سبحانه مؤکّداً هذا المعنى فی الآیة اللاحقة حیث یقول: (ثمّ ارجع البصر کرّتین ینقلب إلیک البصر خاسئاً وهو حسیر).

«کرّتین» من مادّة (کر) على وزن (شرّ) بمعنى التوجّه والرجوع إلى شیء معیّن، و(کرّة) بمعنى التکرار و(کرّتین) مثنّاها.

إلاّ أنّ بعض المفسّرین ذکر أنّ المقصود من الـ (کرّتین) هنا لیس التثنیة، بل الالتفات والتوجّه المتکرّر المتعاقب والمتعدّد.

وبناءً على هذا فإنّ القرآن الکریم یأمر الناس فی هذه الآیات أن یتطلّعوا ویتأمّلوا ویدقّقوا النظر فی عالم الوجود ثلاث مرّات ـ کحدّ أدنى ـ ویتدبّروا أسرار الخلق، وبمعنى آخر فإنّ على الإنسان أن یدقّق فی خلق الله سبحانه مرّات ومرّات، وعندما لا یجد أی خلل أو نقص فی هذا النظام العجیب والمحیّر لخلق الکون، فإنّ ذلک سیؤدّی إلى معرفة خالق هذا

الوجود العظیم ومدى علمه وقدرته اللامتناهیة، ممّا یؤدّی إلى عمق الإیمان به سبحانه والقرب من حضرته المقدّسة.

«خاسىء» من مادّة (خس) و(خسوء) على وزن (مدح، وخشوع) وإذا کان مورد إستعمالها العین، فیقصد بهما التعب والعجز، أمّا إذا استعملت للکلب فیقصد منها طرده وإبعاده.

«حسیر» من مادّة (حسر)، على وزن (قصر) بمعنى جعل الشیء عاریاً، وإذا ما فقد الإنسان قدرته واستطاعته بسبب التعب، فإنّه یکون عاریاً من قواه، لذا فإنّها جاءت بمعنى التعب والعجز.

وبناءً على هذا فإنّ کلمتی (خاسىء) و(حسیر) اللتین وردتا فی الآیة أعلاه، تعطیان معنى واحداً فی التأکید على عجز العین، وبیان عدم مقدرتها على مشاهدة أی خلل أو نقص فی نظام عالم الوجود.

وفرّق البعض بین معنى الکلمتین، إذ قال: إن (خاسىء) تعنی المحروم وغیر الموفّق، و(حسیر) بمعنى العاجز.

وعلى کلّ حال فیمکن إستنتاج أساسین من الآیات المتقدّمة:

الأوّل: أنّ القرآن الکریم یأمر جمیع السائرین فی درب الحقّ أن یتدبّروا ویتأمّلوا کثیراً فی أسرار عالم الوجود وما فیه من عجائب الخلق، وأن لا یکتفوا بالنظر إلى هذه المخلوقات مرّة واحدة أو مرّتین، حیث إنّ هنالک أسراراً کثیرة وعظیمة لا تتجلّى ولا تظهر من خلال النظرة الاُولى أو الثانیة، بل تستدعی النظر الثاقب والمتعاقب والدقّة الکثیرة، حتى تتّضح الأسرار وتتبیّن الحقائق.

الأمر الثّانی: الذی یتبیّن لنا من خلال التدقیق فی هذا النظام، هو إدراک طبیعة الانسجام العظیم بین مختلف جوانب الوجود، بالإضافة إلى خلوه من کلّ نقص وعیب وخلل.

وإذا ما لوحظ فی النظرة الأوّلیة لبعض الظواهر الموجودة فی هذا العالم (کالزلازل والسیول، والأمراض، والکوارث الطبیعیة الاُخرى، والتی تصیب البشر أحیاناً فی حیاتهم) واعتبرت شروراً وآفات وفساداً، فإنّه من خلال الدراسات والتدقیقات المتأمّلة یتبیّن لنا

أنّ هذه الاُمور هی الاُخرى تمثّل أسراراً أساسیة غایة فی الدقّة(6).

إنّ لهذه الآیات دلالة واضحة على دقّة النظام الکونی، حیث معناها أنّ وجود النظام فی کلّ شیء دلیل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلک الشیء، وإلاّ، فإنّ حصول حوادث عشوائیة غیر محسوبة لا یمکن أبداً أن تکون منطلقاً للنظام ومبدأ للحساب.

یقول الإمام الصادق(علیه السلام) فی حدیث مفضّل المعروف عنه «إنّ الإهمال لا یأتی بالصواب، والتضادّ لا یأتی بالنظام»(7).

ثمّ تتناول الآیة التالیة صفحة السماء التی یتجسّد فیها الجمال والروعة، حیث النجوم المتلألئة فی جوّ السماء، المشعّة بضوئها الساحر فی جمال ولطافة، حیث یقول سبحانه: (ولقد زیّنا السماء الدنیا بمصابیح وجعلناها رجوماً للشیاطین وأعتدنا لهم عذاب السعیر).

إنّ نظرة متأمّلة فی لیلة مظلمة خالیة من الغیوم إلى جوّ السماء الملیء بالنجوم کاف لإثارة الانتباه فینا إلى تلک العوالم العظیمة، وخاصّة طبیعة النظم الحاکمة علیها، والروعة المتناهیة فی جمالها ولطافتها وعظمتها، وسکونها المقترن بالأسرار العجیبة، والهیبة التی تلقی بظلالها على جمیع العوالم، ممّا یجعل الإنسان أمام عالم ملیء بالمعرفة ونور الحقّ، ویدفعه باتّجاه عشق الباریء عزّوجلّ الذی لا یمکن وصفه والتعبیر عنه بأی لسان.

وتؤکّد الآیة الکریمة ـ مرّة اُخرى ـ الحقیقة القائلة بأنّ جمیع النجوم التی نشاهدها ما هی إلاّ جزء من السماء الاُولى، والتی هی أقرب إلینا من أی سماء اُخرى من السموات السبع، لذا أطلق علیها اسم (السماء الدنی) أی السماء القریبة والتی هی أسفل جمیع السموات الاُخرى.

«الرجوم» بمعنى (الرصاص) وهی إشارة إلى الشهب التی تقذف کرصاصة من جهة إلى اُخرى من السماء، کما أنّ (الشهب) هی بقایا النجوم المتلاشیة والتی تأثّرت بحوادث معیّنة، وبناءً على هذا، فإنّ المقصود بجعل الکواکب رجوماً للشیاطین، هو هذه الصخور المتبقّیة.

أمّا کیفیة رجم الشیاطین برصاصات الشهب (الأحجار الصغیرة) التی تسیر بصورة غیر هادفة فی جو السماء، فقد بیّناه بشکل تفصیلی فی التّفسیر الأمثل فی تفسیر الآیة 18 من سورة الحجر، وکذلک فی تفسیر الآیة 20 من سورة الصافات.


1. هذه السورة هی ثانی سورة تبدأ بکلمة «تبارک» وسورة الفرقان هی الاُخرى بدأت بـ (تبارک الذی نزّل الفرقان على عبده لیکون للعالمین نذیر).
2. یمکن مراجعة الشرح الوافی حول الإمتحانات الإلهیة فی تفسیرنا هذا، ذیل الآیة 155 من سورة البقرة.
3. تفسیر مجمع البیان، ج 10، ص 322.
4. تفسیر الصافی، ذیل الآیات مورد البحث.
5. الذاریات، 56.
6. ذکرنا شرحاً لهذا الموضوع فی مباحث «إثبات وجود الله» وذلک عند جوابنا على أدلّة المادیین فی موضوع «الآفات والبلایا»، یرجى مراجعة کتاب «خالق العالم».
7. بحار الأنوار، ج3، ص63.
عظمة عالم الخلقسورة الملک / الآیة 1 ـ 5
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma