الانسان مخلوق من النطفة التافهة

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
الأمثل 14
عالم الجنین الصاخبسورة الإنسان / الآیة 1 ـ 4

تتحدث الآیات الاُولى عن خلق الإنسان، بالرغم من أنَّ أکثر بحوث هذه السورة هی حول القیامة ونِعَمِ الجنان، فتحدثت فی البدء عن خلق الإنسان، لأنَّ التوجه والإلتفات إلى هذا الخلق یهییء الأرضیة للتوجه إلى القیامة والبعث کما شرحنا ذلک سابقاً فی تفسیر سورة القیامة.

فیقول تعالى: (هل أتى على الإنسان حین من الدهر لم یکن شیئاً مذکور)(1).

نعم، کانت ذرات وجود هذا الانسان متناثرة فی کلّ صوب وبین الأتربة، بین أمواج قطرات ماء البحر، فی الهواء المتناثر فی جو الأرض، وهکذا اختفت المواد الأصلیة لوجوده فی کلّ زاویة من زوایا هذه المحیطات الثلاثة، وقد ضاع بینها ولا یمکن ذکره مطلقاً.

ولکن هل أنَّ المراد من الإنسان هنا هو نوع الإنسان، ویشمل بذلک عموم البشر، أم أنَّ هذا الإنسان یختص بالنبی آدم(علیه السلام)؟

الآیة الاُخرى التی تقول: (إنَّا خلقنا الإنسان من نطفة) قرینة واضحة على المعنى الأوّل، وإن کان البعض یرى أنَّ الإنسان فی الآیة الاُولى یراد به آدم(علیه السلام)، والإنسان فی الآیة الثّانیة یراد به أولاده، ولکنَّ هذا الاختلاف فی هذه الفاصلة القصیرة مستبعدٌ جدّاً.

وهناک أقوال فی تفسیر (لم یکن شیئاً مذکور) منها: إنَّ الإنسان لم یکن شیئاً مذکوراً عندما کان فی عالم النطفة والجنین، وإنّما أصبح ممّن یذکر عندما طوى مراحل التکامل فیما بعد; ففی حدیث ورد عن الإمام الباقر(علیه السلام) «کان الإنسان مذکوراً فی علم الله ولم یکن مذکوراً فی عالم الخلق»(2).

وجاء فی بعض التفاسیر أنَّ المراد بالإنسان هنا هم العلماء والمفکرون الذین لم یکونوا مذکورین قبل انتشار العلم، وعند وصولهم إلى العلم وانتشاره بین الناس أصبح ذکرهم مشهوراً فی حیاتهم وبعد موتهم.

وقیل «إنَّ عمر بن الخطاب» قد سمع أحداً یتلو هذه السورة فقال: «لیت آدم بقی على ما کان فکان لا یلد ولا یبتلی أولاده»(3) وهذا من عجائب القول، لاعتراضه على مسألة الخلق.

ثمّ یأتی خلق الإنسان بعد هذه المرحلة، واعتبار ذکره، فیقول تعالى (إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتلیه فجعلناه سمیعاً بصیر).

«أمشاج»: جمع مَشَجْ، على وزن (نسج) أو (سبب)، أو أنه جمع «مَشِیجْ» على وزن (مریض) بمعنى المختلط.

ولعل ذکر خلق الإنسان من النطفة المختلطة إشارة إلى اختلاط ماء الذکور والإناث، وقد اُشیر إلى ذلک فی روایات المعصومین(علیهم السلام) بصورة إجمالیة، أو أنّها إشارة إلى القابلیات المختلفة الموجودة داخل النطفة من ناحیة العوامل الوراثیة عن طریق الجینات، أو أنَّها إشارة إلى اختلاط المواد الترکیبیة المختلفة للنطفة، لأنَّها تترکب من عشرات المواد المختلفة، أو اختلاط جمیع ذلک مع بعضها البعض، والمعنى الأخیر أجمع وأوجه.

ویحتمل کون «الأمشاج» إشارة إلى تطورات النطفة فی المرحلة الجنینیة(4).

«نبتلیه»: إشارة إلى وصول الإنسان إلى مقام التکلیف والتعهد وتحمل المسؤولیة والاختبار والامتحان، وهذه هی إحدى المواهب الإلهیّة العظیمة التی أکرم بها الإنسان وجعله أهلاً للتکلیف وتحمل المسؤولیة، وبما أنَّ الاختبار والتکلیف لا یتمّ إلاَّ بعد الحصول على المعرفة والعلم فقد أشار فی آخر الآیة إلى وسائل المعرفة، العین والاُذن التی أودعها سبحانه وتعالى فی الإنسان وسخرها له.

وقیل المراد بالإبتلاء هنا التطورات والتحولات الحاصلة فی الجنین من النطفة حتى ینشئه إنساناً کاملاً، ولکن التمعن فی عبارة «نبتلیه»، وکذلک فی کلمة «الإنسان» نجد أنَّ المعنى الأوّل هو الأوجه.

وممّا یستفاد من هذه العبارة أنَّ منبع جمیع إدراکات وعلوم الإنسان هی إدراکاته الحسیة، وبعبارة اُخرى إنَّ الإدراکات الحسیة هی اُمُّ المعقولات، وهذه هی نظریة کثیر من فلاسفة المسلمین ومن بین فلاسفة الیونان یذهب أرسطو إلى هذه النظریة أیضاً.

إنَّ اختبار الإنسان بحاجة إلى عاملین آخرین، هما: «الهدایة» و«الاختیار» بالإضافة إلى المعرفة ووسائلها، فقد أشارت الآیة التالیة إلى ذلک: (إنَّا هدیناه السبیل إمّا شاکراً وإمّا کفور)(5). إنّ للهدایة هنا معنى واسعاً، فهی تشمل «الهدایة التکوینیة» و«الهدایة الفطریة» وکذلک «الهدایة التشریعیة» وإن کان سیاق الآیة یؤکّد على الهدایة التشریعیة.

توضیح:

إنّ الله قد خلق الإنسان لهدف الإبتلاء والاختبار والتکامل، فأوجد فیه المقدمات لکی یصل بها إلى هذا الهدف، ووهبه القوى اللازمة لذلک، وهذه هی (الهدایة التکوینیة)، ثمّ جعل فی أعماق فطرته عشقاً لطی هذا الطریق، وأوضح له السبیل عن طریق الإلهام الفطری، فسمی ذلک بـ (الهدایة الفطریة)، ومن جهة اُخرى بعث القادة السماویین والأنبیاء العظام لإراءة الطریق بالتعلیمات والقوانین النیّرة السماویة، وذلک هو «الهدایة التشریعیة»، وجمیع شعب الهدایة الثلاث هذه لها صبغة عامّة، وتشمل جمیع البشر.

وعلى المجموع فإنّ الآیة تشیر إلى ثلاث مسائل مهمّة مصیریة فی حیاة الإنسان: «مسألة التکلیف»، و«مسألة الهدایة»، ومسألة «الإرادة والإختیار» والتی تعتبر متلازمة ومکمّلة بعضها للبعض الآخر.

التعبیر بـ (شاکر) و(کفور) یعتبر أفضل تعبیر ممکن فی هذه الآیة، لإنّه مَنْ قابل النِعَمِ الإلهیة الکبیرة بالقبول واتخذ طریق الهدایة مسلکاً، فقد أدّى شکر هذه النعمة، وأمّا من خالف فقد کفرها.

وبما أنَّ الإنسان لا یتمکن من تحقیق الشکر الحقیقی، فقد عبّر عن الشکر باسم الفاعل، والحال أنّ الکفران جاء بصیغة المبالغة فقال: (کفور)، لأنّ عدم اهتمامهم بهذه النعم الکبیرة یعتبر کفراناً شدیداً منهم باعتبار أنَّ الله عزَّ وجلّ وضع وسائل الهدایة تحت تصرفهم، ولذا فإنَّ إهمال هذه الوسائل والمواهب والغضّ عنها واتخاذ السبیل المنافی لها یعتبر کفراناً شدیداً.

والجدیر بالذکر أنّ کلمة (کفور) تستعمل لکفران النعمة، وکذلک للکفر الإعتقادی، وهو ما أورده الراغب فی مفرداته.

وأشارت الآیة الأخیرة من آیات البحث إشارة قصیرة وغنیة بالمعنى إلى الذین سلکوا طریق الکفر والکفران فتقول: (إنّا اعتدنا للکافرین سلاسلاْ وأغلالاً وسعیر).

التعبیر بـ (اعتدن) تأکید على حتمیة مجازاة هذه الثلّة، وبالرغم من أنَّ تهیئة الشیء مسبقاً هو عمل من له قدرة محدودة ویحتمل أن یعجز بعد ذلک من إنجاز العمل، ولکن هذا المعنى لا یصدق على الله تعالى، لأنّه إذا أراد شیئاً یقول له کن فیکون، وفی الوقت نفسه یبیّن للکافرین أنَّ هذه العقوبات حتمیة ووسائلها جاهزة.

«سلاسل»: جمع (سلسلة)، وهی القید الذی یقاد به المجرم، و«الأغلال» جمع غل، وهی الحلقة التی توضع حول العنق أو الیدین وبعد ذلک یُقفل بالقید(6).

على کلّ حال فإنّ ذکر الأغلال والسلاسل ولهیب النیران المحرقة تبیان للعقوبات التی یعاقب بها المجرمون، وهو ما اُشیر إلیه فی کثیر من آیات القرآن ویشمل ذلک العذاب والذل، إنَّ إطلاقهم لعنان الشهوات یسبب فی تعاستهم فی الآخرة، وإشعالهم للنیران فی الدنیا تتجسَّد لهم فی الآخرة لتلهب أطرافهم.


1. «هل» یراد بها (قد) أو أنّها بمعنى الاستفهام التقریری أو الإنکاری، ولکن الظاهر فیها الإستفهام التقریری، فیکون معنى الجملة: (ألیس قد أتى على الإنسان حین من الدهر لم یکن شیئاً مذکوراً).
2. تفسیر مجمع البیان، ج 10، ص 406.
3. المصدر السابق.
4. یجب الإلتفات إلى أنّ النطفة جاءت بصیغة المفرد، وجاءت صفتها بصورة الجمع، وهی «أمشَاج»، باعتبار أنَّ النطفة ترکبت من أجزاء مختلفة، وأنّها فی حکم الجمع، ویعتقد البعض کالزمخشری فی الکشاف أنَّ «أمشَاج» مفرد رغم أنَّها من أوزان الجمع .
5. «شاکراً» و«کفوراً» یعتقد الکثیر أنّهما حال لضمیر المفعول فی (هدیناه) ویحتمل أن یکون خبراً لـ (یکون) محذوف وتقدیره (إمّا یکون شاکراً وإمّا یکون کفوراً).
6. وضّحنا شرحاً مفصلاً حول معنى الأغلال فی هذا التفسیر، ذیل الآیة 8 من سورة یس.
عالم الجنین الصاخبسورة الإنسان / الآیة 1 ـ 4
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma