سُنّة التغیّر!

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
الأمثل 15
بحثسورة الإنشقاق / الآیة 16 ـ 25

لمزید من إیضاح ما ورد فی الآیات السابقة بخصوص سیر الإنسان التکاملی نحو خالقه سبحانه وتعالى.. تأتی الآیات لتقول: (فلا اُقسم بالشفق).

(واللیل وما وسق)، أی: وما جمع.

(والقمر إذا اتسق)، أی: إذا اکتمل.

(لترکبُنّ طبقاً عن طبق).

«لا» فی «لا اُقسم»: زائدة، وجاءت للتأکید.

وثمّة مَن اعتبرها (نافیة)، أی: لا اُقسم، لأنّ الأمر من الوضوح ما لایحتاج فیه إلى قسم، أو أنّ القسم بهذا الموضوع لا یلیق وأهمّیته، أو أنّ ما اُقسم به من الأهمیة بحیث یلیق أن لا یقسم به.

إلاّ أنّ الأوّل (کونها زائدة جاءت للتأکید) أقرب.

«الشفق»: اختلاط ضوء النهار بسواد اللیل عند غروب الشمس، و(الإشفاق): عنایة مختلطة بخوف، لأنّ (المشفق) یحب المشفق علیه ویخاف ما یلحقه(1).

ویقول الفخر الرازی: ترکیب لفظ «الشفق» فی أصل اللغة لرقّة الشیء، ومنه یقال: ثوب شفق، کأنّه لا تماسک له لرقته، و(الشفقة): رقة القلب.

(والظاهر أنّ قول الراغب أقرب للصواب).

وعلى أیّة حال، فـ «الشفق» هو وقت الغروب، وقد اُختلف فی تعیین وقته ما بین الحمرة التی تظهر فی الاُفق الغربی عند بدایة اللیل، وبین ما یظهر بعد الحمرة من بیاض، والمشهور بین العلماء والمفسّرین هو التعیین الأوّل، وهو المستعمل على لسان الاُدباء أیضاً حیث یشبهون دماء الشهداء بالشفق.

إلاّ أنّ البعض اختار التعیین الثّانی، على ما یبدو علیه من ضعف، وخصوصاً إذا ما اعتبرنا (الرّقة) هی الأصل اللغوی للکلمة، حیث إنّها ستتناسب مع الحمرة الخفیفة الرقیقة دون الثّانی.

وعلى أیة حال، فقد جاء القسم بالشفق للفت الأنظار إلى ما فی هذه الظاهرة السماویة الجمیلة من معان، فمنه تُعلن حالة التحول العام من النهار إلى اللیل، إضافة لما یتمتع به من بهاء وجمال، وکونه وقت صلاة المغرب.

وأمّا القسم باللیل، فلما فیه من آثار کثیرة وأسرار عظیمة (وقد تناولنا ذلک مفصلاً)(2).

«ما وسق»(3): إشارة إلى عودة الإنسان والحیوانات والطیور إلى مساکنها عند حلول اللیل (بلحاظ کون الوسق بمعنى جمع المتفرق)(4)، فیکون عندها سکناً عاماً للکائنات الحیّة، وهو من أسرار وآثار اللیل المهمّة، کما أشارت الآیة 61 من سورة غافر إلى ذلک: (اللّه الذی جعل لکم اللیل لتسکنوا فیه).

(إذا اتسق): من (الإتساق)، وهو الاجتماع والإطراد، وترید الآیة به، اکتمال نور القمر فی اللیلة الرابعة عشر من الشهر القمری، حیث یکون بدراً.

ولا یخفى ما لروعة البدر فی تمامه، فنوره الهادیء الرقیق یکسو سطح الأرض، وهو من الرقّة واللطافة بحیث لا یکسر ظلمة اللیل وسکونه، ولکنّه ینیر درب سالکیه! فهو آیة کبرى من آیات اللّه، ولذا جاء القسم به.

وینبغی الإلتفات إلى الصلة الموجودة فیما أقسمت الآیات بهن: (الشفق، اللیل، ما اجتمع فیه، والقمر فی حالة البدر) وجمیعها موضوعات مترابطة ویکمل بعضها البعض الآخر، وتشکل بمجموعها لوحة فنیة طبیعیة رائعة، وتحرّک عند الانسان التأمل والتفکیر فی عظمة ودقّة وقدرة الخالق فی خلقه، ویمکن للإنسان العاقل بتأمل هذه التحولات السریعة من التوجه إلى قدرته جلّ شأنه على المعاد ما یحمل بین طیاته من تغیّرات فی عالم الوجود.

والأمر المثیر هو أنّ القرآن الکریم یشیر هنا إلى اُمور متتابعة الوقوع، فعندما تغیب الشمس یظهر الشفق معلناً عن بدایة حلول اللیل، الذی تتجه الکائنات الحیة فیه إلى بیوتها، ثمّ یخرج القمر بدراً تامّاً (علماً بأنّ البدر فی لیلة تمامه یخرج مع بدایة اللیل!).

ثمّ یأتی جواب القسم الوارد فی الآیات أعلاه: (لترکبنّ طبقاً عن طبق)، إشارة إلى المراحل والتحولات التی یمرّ بها الإنسان فی حیاته.

وقد ذکرت تفاسیر مختلفة لهذه الآیة المبارکة، منها:

یقصد بها تلک الحالات المختلفة التی یمرّ بها الإنسان فی کدحه وسیره المضنی نحو اللّه جلّ وعلا، فیبدأ بحالة الدنیا، ثمّ ینتقل إلى عالم البرزخ ومنه إلى القیامة والآخرة (مع ملاحظة أنّ «طبق» من (المطابقة)، وهی جعل الشیء فوق شیء آخر بقدرة، وجاءت أیضاً بمعنى، المنازل التی یطویها الإنسان فی عملیة صعوده).

یقصد بها تلک الحالات التی یمرّ بها الإنسان منذ کونه نطفةً حتى یموت، (وقد عدّها البعض 37 حالة).

یقصد بها تلک الحالات التی یعیشها الإنسان فی حیاته من: سلامة ومرض، سرور وغم، الیسر والعسر، السلم والحرب...الخ.

یقصد بها تلک الحالات الصعبة التی ستواجه الإنسان یوم القیامة حتى یفرغ من حسابه، ویتجه إلى مصیره (الجنّة أو النّار).

یقصد بها تلک الحالات التی مرّت بها الأقوام السالفة بحلاوتها ومرّها، وکذلک الإشارة إلى ألوان التکذیب والإنکار الذی یقع فی هذه الاُمّة، وهذا المعنى قد ورد فی حدیث ما روی عن الإمام الصادق(علیه السلام).

ولا یمنع من اعتبار کلّ ما جاء فی التفاسیر أعلاه مصادیق لمعنى الآیة.

وقیل: إنّ شخص النّبی(صلى الله علیه وآله) هو المخاطب فی الآیة، والآیة تشیر إلى طبقات السماء التی طواهنّ رسول اللّه(صلى الله علیه وآله) فی معراجه.

ولکن، بلحاظ وجود الضم على «الباء» فی «لترکَبُنَّ»، یتّضح لنا أنّ المخاطب جمع ولیس فرد هذا من جهة، ولو رجعنا إلى الآیات السابقة لرأینا النداء موجه إلى النّاس کافة من جهة اُخرى، وعلیه، فهذا التّفسیر بعید عن مرام الآیة.

وعلى آیة حال، فعدم استقرار الإنسان على حال ثابتة یدلل على فقر الإنسان واحتیاجه، لأنّ کلّ متغیّر حادث، وکلّ حادث له محدث، کما وإنّ عدم استقرار هذا العالم علامة على حرکة الإنسان المستمرة نحو اللّه والمعاد، وکما قالت الآیة: (یا أیّها الإنسان إنّک کادح إلى ربّک کدحاً فملاقیه).

ومن کلّ ما سبق... یخرج القرآن الکریم بنتیجة: (فما لهم لا یؤمنون).

فمع وضوح أدلة الحق، مثل أدلة: التوحید، معرفة اللّه، المعاد، بالإضافة إلى ما من الآفاق فی آیات مثل: خلق اللیل والنهار، الشمس والقمر، النور والظلمة، شروق الشمس وغروبها، الشفق، ظلمة اللیل، اکتمال القمر بدراً، وکذلک الآیات التی فی نفس الإنسان منذ أن یکون نطفة فی رحم اُمّه، وما یطویه من مراحل حتى یکتمل جنیناً، مروراً بما یمرّ به من حالات فی حیاته الدنیا، حتى یدرکه الموت.. فمع وجود کل هذه الأدلة والآیات لِمَ لا یؤمنون؟!...

وینتقل بنا العرض القرآنی من کتاب (التکوین) إلى کتاب (التدوین)، فیقول: (وإذا قریء علیهم القرآن لا یسجدون).

القرآن کالشمس یحمل دلیل صدقه بنفسه، وتتلألأ أنوار الإعجاز من بین جنباته، ویشهد محتواه على أنّه من الوحی الإلهی وکل منصف یدرک جیداً لدى قراءته له أنّه فوق نتاجات عقول البشر ولا یمکن أن یصدر من إنسان مهما کان عالماً، فکیف بإنسان لم یتلق تعلیماً قط وقد نشأ فی بیئة جاهلیة موبوءة بالخرافات!...

ویراد بـ «السجود» هنا: الخضوع والتسلیم والطاعة(5)، أمّا السجود المتبادر إلى الذهن بوضع الجبین على الأرض، فهو أحد مصادیق مفهوم السجود، ولعل هذا هو ما ورد فی الرّوایات من سجود النّبی(صلى الله علیه وآله) عند قراءته لهذه الآیة.

والسجود فی هذه الآیة مستحب عند فتاوى فقهاء أهل البیت(علیهم السلام)، فیما یوجب ذلک فقهاء المذاهب الاربع، إلاّ (مالک)، فإنّه یقول بالسجود عند الانتهاء من تلاوة السّورة(6).

وتأتی الآیة التالیة لتقول: (بل الذین کفروا یکذّبون).

والتعبیر عن ممارسة تکذیب الکافرین فی الآیة بصیغة المضارع المستمر، للإشارة إلى تکذیبهم المتعنت المستمر واصرارهم ولجاجتهم ولیس تکذیبهم بسبب ضعف أدلة الحق، بل من أجل روح التعصب الأعمى للأسلاف والدنیا والمصالح المادیة والحاکمة على قلوبهم المریضة، وأهوائهم الشیطانیة.

وببیان جدّی وتهدید جدّی، تقول الآیة التالیة: (واللّه أعلم بما یوعون).

فاللّه تعالى أعلم بدافع ونیّة وهدف ذلک التکذیب، ومهما تستروا على ما فعلوا فلا یجزون إلاّ بما کسبت أیدیهم.

«یوعون»: من (الوعاء) وهو الظرف، کما هو مستقى من قول أمیر المؤمنین(علیه السلام) فی نهج البلاغة: «إنّ هذه القلوب أوعیة فخیرها أوعاها».(7)

ثمّ...: (فبشرهم بعذاب ألیم).

عادةً ما تستعمل «البشارة» للأخبار السارة، وجاءت هنا لتنم عن نوع من الطعن والتوبیخ.

والحال، إنّ البشارة الحقّة للمؤمنین خالصة بما ینتظرهم من نعیم، وما للکاذبین إلاّ الغرق فی بحر من الحسرة والندم، وما هم إلاّ فی عذاب جهنم یخلدون.

ویستثنی المؤمنون من تلک البشرى المخزیة: (إلاّ الذین آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غیر ممنون).

«ممنون»: من (المنّ)، وهو القطع والنقصان، (ومنه «المنون» بمعنى الموت).

وإذا ما جمعنا کلّ هذه المعانی، فستکون النعم الاُخرویة على عکس الدنیویة الناقصة والمنقطعة والمقترنة بمنّة هذا وذاک، حیث إنّها لا تنقطع ولا تنقص ولیس فیها منّة.

أمّا الاستثناء الذی ورد فی الآیة السابقة، ففیه بحث: هل أنّه «متصل» أو «منقطع»؟

قال بعض المفسّرین: إنّة منقطع، أی: إنّ القرآن الکریم انتقل بالآیة من الحدیث حول الکفّار الذی عرض فی الآیات السابقة، إلى الحدیث عن المؤمنین وما ینتظرهم من أجر وثواب.

والأقرب لسیاق الآیات أن یکون الاستثناء متصلاً، وفی هذه الحال یکون هدفه فتح الطریق أمام الکفار للعودة وتشجیعهم على ذلک، لأنّ الآیة تقول: إنّ العذاب الألیم المذکور فی الآیة السابقة سوف لا یصیب مَن یؤمن منهم ویعمل صالحاً وعلاوة على ذلک، سیکون له أجر غیر ممنون.


1. مفردات الراغب.
2. راجع إلى تفسیرنا هذا، ذیل الآیات 71 ـ 73 من سورة القصص.
3.«ما» موصولة، واحتمال کونها (مصدریة) ضعیف، ضمیرها محذوف، والتقدیر: (وما وسقه).
4. وجاء «الوسق»، أیضاً بمعنى حمل بعیر، أو ستین صاعاً (وکل صاع یقرب من ثلاثة کیلوات)، وهو مأخوذ من الاجتماع أیضاً.
5. ومن الشواهد على هذا المعنى، بالاضافة إلى شهادة الآیات السابقة واللاحقة، إنّ السجود بمعنى وضع الجبین على الأرض عند تلاوة القرآن إنّما یجب فی مواضع محدودة جدّاً ویستحب فی مواضع اُخرى، وفی مواضع اُخرى لا هو بالواجب ولا بالمستحب ـ وحینما تقول الآیة: (وإذا قریء القرآن لا یسجدون) فقد أطلقت القول، والإطلاق والحال هذه یراد به التسلیم للقرآن.
6. تفسیر روح البیان، ج 1، ص 1382.
7. نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 147.
بحثسورة الإنشقاق / الآیة 16 ـ 25
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma