ممَّ خُلق الإنسان؟!

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
الأمثل 15
سورة الطّارق / الآیة 11 ـ 17 سورة الطّارق / الآیة 1 ـ 10

تبتدأ السّورة ـ کمثیلاتها من سور الجزء الأخیر من القرآن الکریم ـ بعدّة أقسام بلیغة تبعث على التأمل، وهی مقدمة لبیان أمر مهم.

(والسماء والطارق).. (وما أدراک ما الطارق).. (النجم الثاقب).

«الطارق»: من (الطرق) ـ على زنة برق ـ وهو الضرب، ولهذا قیل (الطریق) لما تطرقه أرض المشاة، و(المطرقة) هی الآلة التی یطرق بها الحدید وغیره.

ویقال للقادم لیلاً (الطارق)، لأنّ البیوت عادةً ما تغلق أبوابها لیلاً، فکلُّ قادم یلزمه والحال هذه طرق الباب.

وعندما جاء المنافق (الأشعث بن قیس) لزیارة أمیر المؤمنین(علیه السلام) لیلاً، جلب معه الحلوى، ظناً منه أنّ هذه الحلوى ستجعل من أمیر المؤمنین(علیه السلام) ظهیراً له فی قضیة معینة.

فذکر الأمیر(علیه السلام) هذه الواقعة متعجباً وذاماً: «وأعجب من ذلک من طرقنا بملفوفة فی وعائها...».(1)

ویفسّر القرآن الکریم «الطارق» بقوله: (النجم الثاقب)، النجم اللامع الذی مع علوّه الشاهق وکأنّه یرید أن یثقب سقف السماء، وکأنّ نوره المتشعشع یرید أن یثقب ستار اللیل الحالک، فیجلب الأنظار بمیزته هذه.

ولکن، أیُّ نجم هو الطارق؟ هل هو الثریا (لبعدها الغائر فی عمق السماء)، زحل، الزهرة، أم الشهب (لما لها من نور جذّاب)، أم کل النجوم؟

ثمّة احتمالات متباینة فی هذا الموضوع، ولکن وجود صفة «الثاقب» لهذا النجم تعطی الإشارة إلى أنّ النجوم المتلألئة التی تثقب أنوارها ظلمة اللیل، وتجذب الأنظار إلیها، هی المرادة ولیس کلّ نجم.

وفسّرت بعض الرّوایات «النجم الثاقب» بکوکب (زحل) من المنظومة الشمسیة لشدّة نوره ولمعانه.

وروی أنّ منجماً سأل الإمام الصادق(علیه السلام)، بقوله: فما یعنی بالثاقب؟ قال: «لأنّ مطلعه فی السماء السابعة، وأنّه ثقب بضوءه حتى أضاء السماء الدنیا، فمن ثمّ سمّاه اللّه النجم الثاقب».(2)

ویعتبر (زحل) من أبعد النجوم أو الکواکب فی مجموعتنا الشمسیة التی یمکن رؤیتها بالعین المجرّدة، ویقع فی المدار السابع للشمس، ولذا عبّر عنه الإمام(علیه السلام) بأنّه فی السماء السابعة.

وما لهذا الکوکب من خصائص تؤهله لأن یُقسم به، فهو أبعد ما یمکن رؤیته من منظومتنا الشمسیة، لذا فالعرب یشبهون کلّ عال به، ویطلقون علیه أحیاناً (شیخ النجوم)(3)، وله حلقات رائعة تحیط به، وله أیضاً ثمانیة أقمار، وتعتبر من حلقاته من أعجب ظواهر السماء.

ومع کلّ ما توصل إلیه علماء الفلک بخصوصه، فثمّة أسرار لم یکشف عنها الستار بعد.

وقیل: إنّ لزحل عشرة أقمار، یمکن رؤیة ثمانیة منها بالناظور العادی (تلسکوب)، ولا یمکن رؤیة الآخرین إلاّ بالنواظیر الکبیرة(4).

وممّا لا شک فیه، إنّ هذه الحقائق ما کانت مکتشفة فی عصر نزول الآیة المبارکة، وتوصل إلیها بعد قرون من نزولها.

وعلى أیة حال، فیمکن تفسیر: (النجم الثاقب) بکوکب زحل، على اعتبار کونه أحد مصادیقه الواضحة، ولا ینافی تفسیره بأیة نجوم اُخرى عالیة ووضاءة، فالتّفسیر المصداقی کثیر الاستعمال فی روایاتنا.

وفی الآیة 10 من سورة الصافات: (إلاّ من خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب)، فوصف «الشهاب» بأنّه «ثاقب» یحمل الإشارة لاحتمال أنّ تکون الظاهرة السماویة المذکورة هی ظاهرة «الشهب»، لتکون أحد تفاسیر الآیة المبحوثة، ویؤید ذلک أیضاً بعض ما ذکر فی شأن نزول الآیة.(5)

ولنرى لأی شیء کان هذا القسم: (إن کلّ نفس لمّا علیها حافظ)(6).

یحفظ علیه أعماله، وتسجل کل أفعاله، لیوم الحساب.

کما جاء فی الآیات 10 ـ 12 من سورة الإنفطار: (وإنّ علیکم لحافظین * کراماً کاتبین * یعلمون ما تفعلون).

فلا تظنوا بأنّکم بعیدون عن الأنظار، بل أینما تکونوا فثمّة علیکم ملائکة مأمورین یسجلون کلّ ما یبدر منکم.. وهذا ما له الأثر البالغ فی عملیة إصلاح وتربیة الإنسان. مع أنّ الآیة لم تحدد هویة «الحافظ»، ولکن الآیات الاُخرى تبیّن بأن «الحفظة» هم الملائکة وأنّ «المحفوظ» هو أعمال الإنسان من الطاعات والمعاصی.

وقیل: یراد بها حفظ الإنسان من الحوادث والمهالک، ولولا ذلک لما خرج الإنسان من الدنیا بالموت الطبیعی، والأطفال بالخصوص.

أو المراد هو: حفظ الإنسان من وساوس الشیطان، ولولا هذا الحفظ لما سلم أحد من وساوس شیاطین الجنّ والأنس.

وبلحاظ ما تتطرق إلیه الآیات التالیة (حول المعاد والحساب الإلهی)، یکون التّفسیر الأول أقرب من غیره وأنسب، ولو أنّ الجمع بین هذه التفاسیر الثلاثة غیر بعید عن مراد الآیة.

والعلاقة ما بین المقسوم به وما اُقسم له وثیقة، حیث إنّ السماء العالیة والنجوم التی تتحرک فی مسارات منظمة، دلیل على وجود النظم والحساب الدقیق فی عالم الوجود، فکیف یمکن أنّ نتصور بأنّ أعمال الإنسان دون باقی الأشیاء لا تخضع لهذه السُّنة، لتبقى سائبة بلا ضبط وتسجیل ولیس علیها من حافظ؟!!...

ثمّ یستدل القرآن الکریم على المعاد فی مقابل من یقول باستحالة المعاد: (فلینظر الإنسان ممّ خلق).

وبهذا... أخذ القرآن الکریم بأیدی الجمیع وأرجعهم إلى أول خلقهم، مستفهماً عمّا خلق منه الإنسان.

وبدون أن ینتظر الجواب من أحد یجیب القرآن على استفهامه: (خلق من ماء دافق)، وهو ماء الرجل الذی تسبح فیه الحیامن، ویخرج بدفق.

ویستمر فی تقریب المراد: (یخرج من بین الصلب والترائب).

«الصلب»: الظهر: و«الترائب»: جمع (تریبة)، وهی ـ على ما هو مشهور بین علماء اللغة ـ عظام الصدر العلیا وضلوعه.

وکما یقول ابن منظور فی لسان العرب: قال أهل اللغة أجمعون: الترائب موضع القلادة من الصدر.

وذکرت معان اُخرى للترائب، منها: إنّها القسم الأمامی للإنسان (فی قبال الصلب، الذی هو ظهر الإنسان)، إنّها الیدان والرجلان والعینان، إنّها عظام الصدر، أو ما یلی الترقوتین منه، وقیل: أربعة أضلاع من یمین الصدر وأربعة من یساره.

وأدناه، نذکر بعض الآراء الکثیرة للمفسّرین بخصوص المراد من «الصلب والترائب» الواردة فی الآیة المبارکة.

1ـ «الصلب» إشارة إلى الرجال، و«الترائب» إشارة إلى النساء، لأنّ فی الرجال مظهر الصلابة، وفی النساء مظهر الرقة واللطافة.

وعلیه، فالآیة بصدد ذکر حیمن الرجل وبویضة المرأة، ومنهما تتشکل نطفة خلق الإنسان.

2ـ «الصلب» إشارة إلى ظهر الرجل، و«الترائب» إشارة إلى صدره، فیکون مراد الآیة نطفة الرجل التی تقع ما بین ظهره وصدره.

إرادة، خروج الجنین من رحم اُمّه، لأنّه یکون بین ظهرها والجزء الأمامی لبدنها.

قیل: إنّ فی الآیتین سرّاً من أسرار التنزیل، ووجهاً من وجوه الأعجاز، إذ فیهما معرفة حقائق علمیّة لم تکن معروفة حینذاک وقد کشف عنها العلم أخیراً.

وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا فی منشأ خصیّة الرجل ومبیض المرأة ما یفسر لنا هذه الآیات، التی حیرت الألباب، فقد ثبت أنّ خصیّة الرجل ومبیض المرأة فی بدایة ظهورهما فی الجنین یقعان فی مجاورة کلیة الجنین، أی بین وسط الفقرات (الصلب) والاضلاع السفلى للصدر (الترائب) ثمّ مع نمو الجنین ینتقلان تدریجیاً إلى الأسفل، وبما أن تکون الإنسان یمثل ترکیباً من نطفة الرجل والمرأة والمحل الأصلی لجهاز تولید النطفة فیهما هو بین الصلب والترائب، أختار القرآن لذلک هذا التعبیر. وهذا ما لم یکن معروفاً حینذاک.

وبعبارة اُخرى: إنّ کلّ من الخصیّة والمبیض فی بدء تکوینهما یجاور الکلى ویقع بین الصلب والترائب، أی ما بین منتصف العمود الفقری تقریباً ومقابل أسفل الضلوع.(7)

ویشکل على هذا التّفسیر بأنّ القرآن إنّما یقول: (ماء دافق یخرج من بین الصلب والترائب)، فهو یمرّ من بینهما حال الخروج، فی حین لا یقول التّفسیر المذکور ذلک، ویشیر إلى محل تولیده بینهما أثناء النمو الجنینی، بالإضافة إلى أنّ تفسیر «الترائب» بأسفل الضلوع لا یخلو من نقاش.

مراد الآیة، هو المنی، لأنّه فی الحقیقة مأخوذ من جمیع أجزاء البدن، ولذا عندما یقذف إلى الخارج فإنّه یقترن مع انفعال وهیجان البدن کلّه وبعده فتور البدن بأجمعه، فیکون مقصود «الصلب» و«الترائب» فی هذه الحال تمام قسمی بدن الإنسان، الإمامی والخلفی.

وقیل أیضاً: إنّ المصدر الأساس لتکوین المنی هو النخاع الشوکی الواقع فی ظهر الإنسان، ثمّ القلب والکبد، فالأوّل یقع تحت أضلاع الصدر، والآخر بین المکانین المذکورین، وعلى هذا الأساس قالت الآیة: (من بین الصلب والترائب).

ویکفینا الرجوع إلى الآیات المبحوثة لدفع الغموض الحاصل، فالآیات تشیر إلى ماء الرجل دون المرأة، بقرینة «ماء دافق»، وهذا لا یصدق إلاّ على الرجل، وعلیه یعود الضمیر فی «یخرج».

وعلیه، فینبغی إخراج المرأة من هذه الدائرة، لیکون البحث منصباً على الرجل فقط، وهو المشار إلیه فی الآیة.

و«الصلب والترائب» هما ظهر الرجل وقسمه الأمامی، لأنّ ماء الرجل إنّما یخرج من هاتین المنطقتین(8).

وهذا التّفسیر واضح، خال من أیّ تکلف، ینسجم مع ما ورد فی کتب اللغة بخصوص المصطلحین.

کما ویمکن أن تکون الآیة قد أشارت إلى حقیقة علمیة مهمّة لم یتوصل إلى اکتشافها بعد، وربّما المستقبل سیکشف ما لم یکن بالحسبان.

ونصل مع القرآن إلى نتیجة ما تقدم من الذکر الحکیم: (إنّه على رجعه لقادر).

فالإنسان تراباً قبل أن یکون نطفة، ثمّ مرّ بمراحل عدیدة مدهشة حتى أصبح إنساناً کاملاً، ولیس من الصعوبة بحال على الخالق أن یعید حیاة الإنسان بعد أن نخرت عظامه وصار تراباً، فالذی خلقه من التراب أوّل مرّة قادر على إعادته مرّة اُخرى.

وقد ورد هذا المعنى فی الآیة 5 من سورة الحج: (یا أیّها النّاس إن کنتم فی ریب من البعث فإنّا خلقناکم من تراب ثمّ من نطفة)، بالإضافة إلى الآیة 67 من سورة مریم: (أو لا یذکر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم یک شیئ).

وتصف لنا الآیة التالیة ذلک الیوم الذی سیرجع فیه الإنسان: (یوم تبلى السرائر).(9)

«تبلى»: من (البلوى)، بمعنى الاختبار والامتحان، وهو هنا الظهور والبروز، لأنّ الامتحان یکشف عن حقیقة الأشیاء ویظهرها.

«السرائر»: جمع (سریرة)، وهی صفات ونوایا الإنسان الداخلیة.

نعم، فأسرار الإنسان الدفینة ستظهر فی ذلک الیوم، «یوم البروز» و«یوم الظهور»، فسیظهر على الطبیعة کلّ من: الإیمان، الکفر، النفاق، نیّة الخیر، نیّة الشر، الإخلاص، الریاء...

وسیکون ذلک الظهور مدعاة فخر ومزید نعمة للمؤمنین، ومدعاة ذلّة ومهانة وحسرة للمجرمین...

وما أشد ما سیلاقی من قضى وطراً من عمره بین النّاس بظاهر حسن ونوایا خبیثة! وما أتعسه حینما تهتک أقنعته المزیفة فیظهر على حقیقته أمام کلّ الخلائق! وربّما ذلک من أشدّ عذاب جهنم علیه...

وتصف لنا الآیة 41 من سورة الرحمن هیئتهم بالقول: (یعرف المجرمون بسیماهم)، وکذا الآیات 38 ـ 41 من سورة عبس: (وجوه یومئذ مسفرة * ضاحکة مستبشرة * ووجوه یومئذ علیها غبرة * ترهقها قترة).

نعم، فکما إنّ «الطارق» والنجوم الاُخرى تظهر من خفائها لیلاً على صفحة السماء، فکذا حال الإنسان فی عرصة یوم القیامة، فالحفظة والمراقبین الإلهیین المکلفین لتسجیل أعمال الإنسان سیظهرون کلّ شیء، کظهور ضوء النجم فی اللیل الداج.

عن معاذ بن جبل أنّه قال، سألت رسول اللّه(صلى الله علیه وآله): وما هذه السرائر التی تبلى بها العباد فی الآخرة؟

فقال: «سرائرکم هی أعمالکم من الصلاة والصیام والزکاة والوضوء والغسل من الجنابة وکلّ مفروض، لأنّ الأعمال کلّها سرائر خفیّة، فإن شاء الرجل قال صلیت ولم یصل، وإنّ شاء قال توضیت ولم یتوضأ، فذلک قوله تعالى یوم تبلى السرائر»(10).

ولکن أشدّ صعاب ذلک الیوم على الإنسان: (فما له من قوة ولا ناصر).

فلا یملک تلک القوّة التی تخفی أعماله ونیاته، ولیس له ذلک الظهیر الذی یعینه عن الخلاص من عذاب اللّه سبحانه وتعالى.

وقد ورد هذا المعنى فی آیات قرآنیة اُخرى، ففی ذلک الیوم: لا ناصر ولا معین، ولا یقبل فداء، ولا رجعة، ولیس من وسیلة للفرار من قبضة العدل حینها، إلاّ وسیلة واحدة للنجاة وهی «الإیمان والعمل الصالح» فقط.


1. نهج البلاغة، الخطبة 224.
2. تفسیر نورالثقلین، ج 5، ص 550، ح 4.
3. دائرة المعارف دهخدا مادة (زحل).
4. المصدر السابق.
5. تفسیر روح البیان، ج 10، ص 397.
6.«إنْ» فی الآیة نافیة، و«لمّا» بمعنى (إل).
7. تفسیر المراغی، ج30، ص113.
8. عندما تتحدث الآیات القرآنیة الاُخرى عن خلق الإنسان، فإنّها غالباً ما تشیر إلى نطفة الرجل، باعتبارها أمراً محسوساً (راجع الآیة 46 من سورة النجم، والآیة 37 من سورة القیامة).
9. «یوم» ظرف زمان متعلق بالرجع فی الآیة السابقة.
10. تفسیر مجمع البیان، ج 10، ص 472. ومثله فی تفسیر الدرّالمنثور، ج 6، ص 336.
سورة الطّارق / الآیة 11 ـ 17 سورة الطّارق / الآیة 1 ـ 10
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma