حقیقة الدنیا

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات الولایة (شرحٌ عصرىٌّ جامعٌ لنهج البلاغة) / الجزء الثالث
تقلب الدنیا القسم الثالث

یعرض الإمام(علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة بالذم الشدید الدنیا، حیث کان حدیثه عن دار الامتحان والعبرة، فیشرح هنا خصائص هذه الدار بعبارات روعة فی الفصاحة والبلاغة. من جانب آخر خاض الإمام(علیه السلام) فی التقوى، ونعلم أنّ العقبة الکؤود التی تعترض سبیل التقوى إنّما تکمن فی حبّ الدنیا والتعلق بمادیاتها، ومن هنا ذمها الإمام(علیه السلام) لیحط من قدرها لدى الناس ویقوى عندهم حس التقوى. فقد أشار(علیه السلام) إلى ثمان من ممیزات الدنیا فقال(علیه السلام): «فانّ الدنیا رنق( 1) مشربها، ردغ(2) مشرعه» عادة ما یکون مستوى الأنهار التی یستفید الإنسان من میاهها أکثر إرتفاعاً من سطح الأرض المجاورة لها بحیث یصعب التزود منه، ومن هنا یحفر جزء من ساحل النهر لیمکن الوصول إلى ماءه بسهولة، وتصطلح العرب على هذا الجزء الذی یسهل الوصول إلى الماء بالشریعة أو المشرع حیث ینتهى إلى الماء یطلق علیه المشرب; فاذا تلوث المشرب بالطین والوحل أو تلوث الماء بحیث یتعذر التزود منه یعمد إلى إحداث شریعة بصورة مناسبة، أو یجعل علیه قنطرة لحل تلک المشاکل. الغرض هو أن الإمام(علیه السلام) شبه نعم الدنیا بالماء، إلاّ أن المؤسف له هو أنّ الوصول إلى الماء یمر عبر الوحل ونقطة بلوغ الماء کانت موضعاً یلوث الماء، ومن هنا فانّ هذا الماء یدعو إلیه العطاش من بعید، إلاّ أنّهم حین یصلوه یرون أنفسهم أمام سیل من المشاکل، فلا یتمکنوا من الحصول على الماء العذب، والحق أنّ هذا هو حال متع الدنیا کالمال والمقام وما إلى ذلک; وذلک لأنّ نیل الدنیا یحتم على الإنسان الاغماض عن الکثیر من الفضائل الأخلاقیة واعتیاد الکذب والغدر والخیانة والذل، وکل من هذه الرذائل مستنقع یکمن فی طریق الوصول، فاذا وصل اصطدم بأنواع الحسد والطمع; الأمر الذی یعکر صفو الماء. ثم قال(علیه السلام) «یونق(3) منظرها، ویوبق(4) مخبره» لقد ورد هذا التناقض لظاهر الدنیا وباطنها بعدّة صور فی عبارات أئمة العصمة، ومن ذلک ما ورد عن أمیرالمؤمنین علی(علیه السلام): «فإنّما مثل الدنیا مثل الحیة: لین مسها، وقاتل سمه»(5)ویشبهونها أحیاناً بالمرأة الجمیلة التی تقتل أزواجها الواحد تلو الآخر. وبالطبع فأنّ أوصاف الدنیا لیست بالخافیة على الإنسان اللبیب، فظاهرها أنیق ساحر وباطنها خطر قاتل. ثم قال(علیه السلام): «غرور حائل(6)، وضوء آفل،(7) وظل زائل، وسناد(8) مائل» ممّا لاشک فیه أنّ الدنیا تنطوی على عناصر الجمال والخداع، إلاّ أنّها تنتهی لمجرد أن یرید الإنسان التمتع بها، ومن هنا عبر عنها الإمام(علیه السلام) بالغرور الحائل، لأنّ الغرور بالضم من لوازم الجمال الظاهری، أمّا الغرور بالفتح تعنى الشخص الخادع ومن هنا اُطلق الغرور على الشیطان. ولما کانت أمتعة الدنیا براقة فقد عبرعنها الإمام(علیه السلام)بالضوء، إلاّ أنّ هذا البریق لیس له دوام وسرعان ما یخفت، الأمر الذی جعل الإمام(علیه السلام) ینعت ذلک الضوء بالآفل. وتتصف بظلها الوداع المؤقت کظل شعاع الشمس على الأشجار الذی سرعان ما ینقشع ویزول، ومن هنا فان الظل الزائل الذی تمثله أمتعة الدنیا یمکن أن یکون رکنا یوثق به، غیر أنّه رکن خاو، ولذلک عبر عنه(علیه السلام) بالسناد المائل. ثم أشار(علیه السلام) إلى سائر خصائص الدنیا، وبعبارة أخرى فانّه تعرض للصفات المذکورة بتشبیهات وتعبیرات جدیدة فقال(علیه السلام): «حتى اذا أنس نفارها، واطمان ناکرها، قمصت(9)بأرجلها، وقنصت(10) بأحبله(11)، وأقصدت بأسهمه(12)» فقد صور الإمام(علیه السلام) الدنیا ووضعها بثلاثة تشبیهات: الأول شبه الدنیا بمرکب طیب الظاهر، إلاّ أنّه سرعان ما یجمع ویطرح راکبه أرضاً. ثم شبهها بالصیاد الذی یرمی بشباکه وینثر فیها حبوب فخه فاذا إقترب صیده لم یجدله من سبیل إلى الهرب، وأخیراً شبهها بالصیاد الذی یکمن فی الطریق فاذا شاهد صیده صوب إلیه سهامه.

والجدیر بالذکر فی العبارة «حتى إذا أنس نافرها...» انها تشیر إلى حقیقة وهى أنّ خداع الدنیا لیس بالشئ إلهین الذی یمکن تجاوزه بسهولة، بل تجر إلیها أحیاناً حتى الزهاد والعباد لتلقی بهم فی حبائلها وشباکها، ومن هنا ینبغی أن یلتفت الجمیع إلى مدى خطورة هذه الدنیا الغرارة والمداومة على هذا الذکر: «اللّهم لاتکلنی إلى نفسی طرفة عین أبد». ثم أشار(علیه السلام) إلى عاقبة أمر الإنسان فقال: «وأعلقت المرء أوهاق(13) المنیة قائدة له إلى ضنک المضجع(14)، ووحشة المرجع، ومعاینة المحل، وثواب العمل» لاشک أنّ طلاب الدنیا أهلها لیسوا مستعدین للتخلی عنها، إلاّ أنّها تلقی بحبل الموت بکل قسوة على أعناقهم، فتخرجهم بالقوة من قصورهم الفارقة ودورهم العامرة لتوردهم تلک الحفر المظلمة الموحشة التی تملأه خوفاً واضطراباً، والأنکى من ذلک زوال الحجب عن عینیه ورؤیته لموضعه الذی سیحله، فان کان مستحقاً للعذاب، رأى بأم عینیه نار جهنم فیزداد خشیة لمفارقته لدنیا بما فیها من مال ومقام وزوجة وولد. ثم یختتم کلامه(علیه السلام) بالإشارة إلى هذه الحقیقة وهى أنّ ما أورده الإمام بشأن الدنیا وأبناءها لایختص بالماضیین أو بطائفة معینة من الناس، بل یشمل الجمیع الذین لابدّ لهم أن یشهدوا هذا الامتحان ویذوقوا الموت فما من خلود وبقاء سوى للّه سبحانه، حیث قال(علیه السلام) «وکذلک الخلف بعقب السلف، لاتقلع المنیة اخترام(15) ولا یرعوی(16) الباقون اجترام(17)». نعم فهم یعملون على غرار من سبقهم ویحذون حذوهم «یحتذون(18) مثالاً، ویمضون أرسالاً،(19) إلى غایة الانتهاء، وصیور(20) الفناء». فقد تضمنت العبارة الاشارة إلى أمرین: الأول الحذار من أن یتصور البعض أنه مستثنى من هذا القانون العام فیظنون أنّهم مخلدون فی الدنیا باقون فیها. والثانی الاعتبار بالماضیین من خلال النظر إلى آثارهم لیروا أین حلوا، وکیف کانوا:

من کان لایطأ التراب برجله *** یطأه الیوم بصفحة الخد

ومن کان بینک وبینه شبران *** فهو الیوم فی غایة البعد

أمّا التعبیر بالاخترام وبالالتفات إلى معنى هذه المفردة الذی یفید القطع والقص (ولذلک فسرّ بعض شرّاح نهج البلاغة الموت المحزوم بالموت الذی یطیل الإنسان قبل مدته الطبیعیه)(21)کأنّه یشیر إلى حقیقة وهى أنّ إحدى مشاکل الحیاة الدنیا فی أنّه قلّما یفارق أحد الدنیا بموت طبیعی; أی أنّه یوظف کافة طاقاته من أجل البقاء بینما یأتیه الموت، بل غالباً ما یخرق عمره بفعل مختلف العوامل سواءاً الداخلیة أو الخارجیة، الجسمیة أو النفسیة وأخیرا الحوادث الفردیة أو الاجتماعیة، ومن هنا لایسع أی فرد أن یؤمل العیش ولو لیوم أو ساعة. والسؤال المطروح لم رغم کل هذه الاُمور والحال «لایرعوی الباقون اجترام»؟ لیس هنالک من جواب سوى الغفلة والجهل ووساوس النفس الامارة والشیاطین الذین یحکمون سیطرتهم على الإنسان ویحجبون أبصارهم وبصائرهم عن رؤیة الحقائق. فهو بالضبط کالطیر الذی یرى الحبوب دون أن یرى المصیدة التی نصبها له الصیاد.


1. «رنق» صفة مشبهة بمعنى الکدر. وعلیه فانّ العبارة (رنق مشربها) إشارة إلى کدر شرب الدنیا، أمّا رونق فتعنی الجمال، وذلک لأنّ اللغة العربیة تتضمن أحیاناً مادة واحدة لمعنیین متضادین.
2. «ردغ» من مادة «ردغ» على وزن فتق کثیر الطین والوحل. وفی التشبیة الذی ورد أعلاه فی الخطبة حیث وصفت الدنیا بمثابة نهر کبیر ینتهی جریانه بماء مملوء بالطین والوحل.
3. «یونق» من مادة «آنق» على وزن شفق یعجب، وقوله(علیه السلام) «یونق منظرها» إشارة إلى المنظر العجیب للدنیا.
4. «یوبق» من مادة «وبوق» یهلک «وموبق» بمعنى مهلک.
5. نهج البلاغة، الرسالة 68.
6. «حائل» من مادة «حال» بمعنى التحول والانتقال واطلاق «الحول» على السنة لتحولها. وعلیه فالحائل المتغیر.
7. «آفل» من مادة «افول» بمعنى الغیاب ومنه اُفول الشمس والقمر غروبهما.
8. «سناد» بالکسر ما یستند إلیه وهو الدعامة، ولما کانت الدنیا دعامة معوجة ولا یمکن الاستناد إلیها عبرت عنها خطبة «سناد مائل».
9. «قمصت» من مادة «قمص» على وزن شمس بمعنى رفع الیدین وطرحهما معاً ومنه قمص الفرس، کما تستعمل هذه المفردة کنایة عن الذل بعد العز.
10. «قنصت» من مادة «قنص» بمعنى الصید والقانص الصیاد.
11. «أحبل» جمع حبل.
12. «أسمهم» جمع سهم وجمعه الآخر سهام.
13. «أوهاق» جمع «وهق» على وزن شفق بمعنى الحبل الذی یربط به عنق الإنسان أو الحیوان .
14. «ضنک المضجع»، ضنک یعنی ضیق ومضجع الموضع الذی یضع الإنسان علیه ضلعه، والمراد به فی العبارة القبر.
15. «إخترام» من مادة «خرم» بمعنى الشق وهى تشیر هنا إلى الحوادث التی تستأصل عمر الإنسان.
16. «یرعوى» من مادة «رعوة» على وزن سهو بمعنى الرجوع والعودة من الجهل إلى العلم واصلاح النفس والجملة أعلاه «لایرعوی الباقون احتراماً» اشارة إلى أن البعض لا یعتبرون من دروس العبرة التی تمربهم ولا یتراجعون ولا یتوبون من الذنوب التی اقترفوها وبالاخیر فانهم لا یقدمون على اصلاح انفسهم.
17. «إجترام» من مادة «جرم» الذنب واقتراف السیئات.
18. «یحتذون» من مادة «حذو» على وزن حذف بمعنى القیام بالأعمال المشابهة، ومن هنا وردت بمعنى الاقتداء فی الأعمال، ورید بها فی العبارة یشاکلون بأعمالهم صور أعمال من سبقهم ویقتدون بهم.
19. «ارسال» جمع «رسل» على وزن عسل القطیع من الابل والغنم والخیل ، اُرید بها فی العبارة من یتبع الآخرین دون أدنى فکر ومطالعة .
20. «صیور» على وزن قیوم من مادة «صیر» على وزن سیل بمعنى الانتقال من حالة إلى اُخرى، وهى هنا صیغة مبالغة اُرید بها مصیره وما یؤول إلیه أمره.
21. شرح نهج البلاغة لابن میثم البحرانی 2/236. 

 

تقلب الدنیا القسم الثالث
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma