یعود الإمام(علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة من الآخرة إلى الدنیا لیشرح أوضاع وأحوال الناس فیها، لیعلموا لم خلقوا واین یتجهوا، وما هى الوسائل والإمکانات التی زودوا بها لینجوا یوم المعاد وکیف ینبغی لهم أن یستفیدوا من هذه الإمکانات. ویشتمل کلامه(علیه السلام) على ثلاث عشرة عبارة، خمس منها فی خلق الإنسان وموته وتبدل جسده إلى تراب، وثلاث فی کیفیة بعث الخلائق، وخمس أخر فی إتمام الحجة الإلهیة والقرص التی زود بها الإنسان فی هذا العالم. فقال(علیه السلام): «عباد مخلوقون اقتدارا، ومربوبون اقتساراً،( 1) ومقبوضون احتضاراً، ومضمنون أجداثاً،(2) وکائنون رفات»(3). لاشک أن الإنسان مختار حر فی أفعاله، ولکن لیس له مثل هذا الاختیار فی الخلق والموت. فلا أحد یعین تأریخ ولادته، ولا أحد یختار زمان موته الطبیعی برغبته، فالحیاة والموت خارجة عن دائرة إرادتنا إلى جانب تعفن البدن وصیرورته تراباً، وهذا ما حدا بالبعض لتفسیر عبارة الأمر بین الأمرین بهذا المعنى. على کل حال فانّ مسیرة الحیاة والموت جاریة علینا على حنوء الإرادة الإلهیة والقوانین المرسومة شئنا أم أبینا; الواقع الذی تقود الغفلة عنه إلى جهل الإنسان بنفسه وبخالقه، بینما یمده الالتفات إلیه بعناصر العلم والمعرفة والتأهب. ثم تطرق الإمام(علیه السلام) فی العبارات الثلاث اللاحقة إلى عملیة بعث الناس الخلارجة هى الاُخرى عن الإرادة البشریة فقال «ومبعوثون أفراداً، ومدینون جزاءً، وممیزون حساب» لاشک أنّ کل فرد سیخرج من قبره وحیداً، ولایتنافى هذا والتقسیم اللاحق للناس إلى طوائف تبعاً لعقائدهم وأعمالهم، کما عبرت عن ذلک الخطبة فی البحث الماضی بالرعیل، ونعتها القرآن بالافواج.(4) ولعل العبارة «ممیزون حساب» إشارة لما ورد فی الآیة الکریمة: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(5). نعم لیس هنالک من یحمل وزر غیره ویعاقب علیه، ولکل حسابه على ضوء أفعاله، وان کان الرضى بأعمال الآخرین والتقصیر فی وظیفة الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر یؤدى إلى نوع من الحساب المشترک. أمّا العبارات الخمس الأخیرة فقد أشار فیها الإمام(علیه السلام) ـ کما ذکرنا ذلک آنفا ـ إلى الفرص واتمام الحجة التی تتضمن أبعادا مختلفة، فقال(علیه السلام): «قد أمهلوا فی طلب المخرج، وهُدوا سبیل المنهج، وعمروا مهل المستعتب،(6) وکشفت عنهم سدف(7) الریب، وخلوا لمضمار الجیاد،(8) ورویة الارتیاد،(9)وأناة(10) المقتبس المرتاد، فی مدّة الأجل، ومضطرب المهل» تضمنت هذه العبارات الأبعاد المختلفة لاتمام الحجة الإلهیة وانّ الناس یمتلکون المهلة الکافیة للفوز بالرضوان الإلهی أولاً، وثانیاً: تمهدت أمامهم السبل المؤدیة للنجاة بواسطة الکتب السماویة وإرشادات الأنبیاء والأولیاء وهدایة العقل، ثالثاً: وجود القدرة والمهلة للتوبة من الذنوب وتدارک ما مضى ونیل رضى اللّه، رابعاً: ان حجب الظلام التی تغطی قلب الإنسان بفعل الوساوس الشیطانیة والشکوک والشبهات، إنّما تنجلى بنور اللّه وهدایته سبحانه، خامساً: أن أبواب التوفیق الإلهی لریاضة النفس والاستعانة بالفکر والاستضاءة بنور المعرفة الربانیة إنّما فتحت بوجه الناس لما یکفیهم من المدة. ونخلص من کل هذا إلى أنّ الإنسان الذی یضل الهدف ویوغل فی الذنب ویقع فی مخالب الشیطان ووساوسه لاینبغی أن یلوم إلاّ نفسه التی حالت دونه ودون هذه السعادة والفلاح. وعلیه فلم یعد هنالک ما یدعو إلى التعجب والدهشة حین ینادون یوم القیامة: (أَوَ لَمْ نُعُـمِّرْکُمْ ما یَتَذَکَّـرُ فِـیهِ مَنْ تَذَکَّـرَ وَجاءَکُمُ النَّـذِیرُ فَـذُوقُوا فَما لِلظّالِمِـینَ مِنْ نَصِـیر).(11)