خاطب الإمام(علیه السلام) ثانیة کافة عباداللّه، محذرا إیاهم من عدم فقدان الفرص قبل حلول الأجل وانتهاء العمر، فقال: «الاْن عباد اللّه والخناق( 1) مهملٌ، والرّوح مرسلٌ، فی فینة(2)الإرشاد، وراحة الأجْساد، وباحة(3) الاحتشاد،(4) ومهل البقیّة، وأنف المشیّة، وإن ظارالتّوبة ، وانفساح الحوبة،(5) قبل الضّنک(6) والمضیق، والرّوع الزّهوق،(7) وقبل قدوم الغائب المنتظر، وإخذة العزیز المقتدر» فقد أشار الإمام(علیه السلام) إلى مختلف جوانب الفرص السانحة للإنسان من قبیل: باقی العمر وسکینة الروح وراحة الجسم وإمکانیة نیل الکمال وسهولة الاستشارة وبقاء الفرصة اللازمة للعزم والإرادة والقدرة على التوبة والاقلاع عن الذنب. فکل أمر من هذه الاُمور یشکل جزءا من الفرص العظیمة الثمینة التی منحها الإنسان والتی یمکن من خلالها فعل کل شئ ونیل الخیر والسعادة; والحال یمکن أن یفقد الإنسان جمیع هذه الفرص فیقضی على سعادته بنفسه، ویالهم من بؤساء اُولئک الذین لم یلتفقوا إلى هذه الحقیقة، فیمارسون حیاتهم کقطیع الغنم الذی ینهمک بأکله وشربه فی مرعاه دون أن تلتفت إلى الذنب الذی ینهشها الواحد تلو الآخرة.
قال المرحوم السید الرضی (ره) فی آخر هذه الخطبة: «وفی الخبر: أنّه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود، وبکت العیون، ورجفت القلوب. ومن الناس من یسمی هذه الخطبة الغراء»
وقد قال ابن أبی الحدید: واعلم أننا لایخالجنا الشکّ فی أنّه علیه السلام أفصحُ من کلّ ناطق بلغة العرب من الأولین والآخرین، إلاّ من کلام اللّه سبحانه، وکلام رسول اللّه صلى اللّه علیه وآله; وذلک لأنّ فضیلَة الخطیب والکاتب فی خطابته وتکاتبه تعتمد على أمرین; هما: مفردات الألفاظ ومرکَّباتها.
أمّا المفردات فأنْ تکون سهلةً سِلسة غیرَ وحشیّة ولا معقّدة، وألفاظه علیه السلام کلها کذلک; فأمّا المرکّبات فَحُسْنُ المعنى وسرعة وصوله إلى الأفهام، واشتماله على الصفات التی باعتبارها فُضِّل بعضُ الکلام على بعض، وتلک الصفات هى الصناعة التى سَمّاها المتأخرون البدیع، من المقابلة، والمطابقة، وحسن التقسیم، وردّ آخر الکلام على صَدْره، والتّرصیع، والتسهیم، والتوشیح، والمماثلة، والاستعارة، ولطافة استعمال المجاز، والموازنة، والتکافؤ، والتَّسْمیط والمشاکلة.
ولا شبهةَ أنّ هذه الصفات کلَّها موجودة فی خُطَبِه وکتبه، مبثوثة متفرقة فی فُرش کلامه علیه السلام، ولیس یوجد هذان الأمران فی کلامِ أحد غیرِه فإن کان قد تعمَّلها وأفْکَر فیها، وأعمَل رویتَه فی رَصْفها ونثرها، فلقد أتى بالعجب العُجاب، ووجبَ أن یکون إمام الناس کلِّهم فی ذلک; لأنّه ابتکره ولم یعرف من قبله وإن کان اقتضبها ابتداء، وفاضت على لسانه مرتجلة، وجاش بها طبْعه بدیهةً، ومن غیر رویَّة ولا اعتمال، فأعجب وأعجب!
وعلى کلا الأمرین فلقد جاء مجلِّیاً والفصحاء تنقطع أنفاسهم على أثره. وبحقّ ماقال معاویة لمحقن الضّبّی، لمّا قال له: جئتک من عند أعیا الناس: یابن اللخناء، ألعلیّ تقول هذا؟ وهل سنَّ الفصاحة لقریش غیره!
واعلم أن تکلّف الاستدلال على أنّ الشمس مضیئة یتعب، وصاحبه منسوب إلى السَّفَه، ولیس جاحد الأمور المعلومة علماً ضروریَّا بأشدّ سفهاً ممّن رام الاستدلال بالأدلة النظریة علیها.(8)