ابن النابغة الکاذب

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات الولایة (شرحٌ عصرىٌّ جامعٌ لنهج البلاغة) / الجزء الثالث
1 ـ نسب عمرو بن العاص وطرف من أخباره نظرة إلى الخطبة

استهل الإمام(علیه السلام) کلامه بالحدیث عن کذب عمرو بن العاص وتهمته التی وجهها إلیه إلى جانب تعریفه بهذا الفرد المنحرف. أمّا الفریة التی نسبها إلى الإمام(علیه السلام) فتکمن باتهامه إیّاه بأنّ فیه دعابة وإنّه من أهل المزاح والفکاهة ـ والعیاذ باللّه ـ لیذرع بها من أجل إثبات عدم صلاحیة الإمام(علیه السلام) لأمر الخلافة. فقد قال(علیه السلام): «عجباً لابن النّابغة!( 1) یزعم لأهل الشّام أنّ فیّ دعابةً،(2) وأنّی امرؤٌ تلعابةٌ:(3) أعافس(4) وأمارس!(5)» التعبیر عن عمرو بن بالعاص بابن النابغة إشارة إلى فساد أسرته، لأنّ العرب کانت تنسب الولد لأُمّه إن کانت مشهورة بالشرف والمجد أو بالوضاعة والفساد، کما تعنی مفردة النابغة الظهور والبروز، إلاّ أنّها تشیر إلى الاشتهار بالفساد إذا أطلقت على المرأة، فقد کانت النابغة أم عمرو بن العاص أمّة لرجل من عترة اسمها الأصلی سلمى أو لیلى، وقد واقعها أبوسفیان فولدت عمرو، فاختلف فیه حیث واقعها أمیة بن خلف وهشام بن المغیرة والعاص بن وائل السهمی، حیث ادعاه کلهم، فحکمت اُمّه فیه فقالت: هو من العاص بن وائل، وذلک لأنّ العاص بن ائل کان ینفق علیها کثیراً. وکان أشبه بأبی سفیان الذی قال عنه: أما إنی لا أشک أنّی وضعته فی رحم اُمّه، فأبت إلاّ العاص.(6)

الواقع أنّ الإمام(علیه السلام) قدم بهذه العبارة لما بعدها، بمعنى لاینبغی التعجب من مثل هذا الإنسان الذی یکیل التهم للصالحین ویفتری علیهم الکذب. والمفردة دعابة تفید کثرة المزاح، وتلعابة من یمازح الناس ویهزل معهم، وأعافس وأمارس بمعنى واحد تقریباً وهو معالجة النساء بالمغازلة، ثم اتخذت معنى أوسع لتطلق على کل هزل ومزاح. فالواقع هو أنّ الإمام(علیه السلام)قد اختصر بهذه العبارات کافة التهم التی نسبها عمرو بن العاص للإمام(علیه السلام)زوراً وبهتاناً، لتکون مقدمة للرد علیه. والجدیر بالذکر أنّ أعداء الإمام(علیه السلام) لم یتورعوا عن التشبث بمثل ما ورد فی الکلام المذکور لما عجزوا عن الطعن فی شخصیة الإمام(علیه السلام) ولم یروا فیه أدنى ضعف، فهو المعروف بعلمه وتقواه وزهده وورعه وشجاعته وصبره وحلمه، فرموه بتهمة المزاح بهدف إثبات عدم جدارته بالخلافة; الأمر الذی یثبت صلاحیته وجدارته بها، فهم فی ذلک کالمثل المعروف: «الغریق یتشبث بکل حشیش»، فعمدوا إلى هذه الذریعة الجوفاء. وبالطبع فاننا سنتحدث فی البحث القادم إن شاءاللّه عن المزاح متى یکون مباحاً أو مذموماً. ثم ردّ الإمام(علیه السلام)على کذب بن العاص فی ذلک الاتهام قائل: «لقد قال باطلاً، ونطق آثماً. أما ـ وشرّ القول الکذب»، من یسعه التفکر إلى المزاح اللطیف الذی لایشوبه الباطل والبعید عن کل إفراط وتفریط؟ ومن یستطیع تجاهل جدیة الإمام(علیه السلام) فی خطبه ورسائله وقصار کلماته؟! فقد کان أعظم جدیة ممن سواه، کما کان ذا إرادة جبارة فی زعامته، وان کان یعمد إلى المزاح مع بعض أصحابه بغیة مواساتهم وتخفیف الهم والغم عن قلوبهم; الأمر الذی یشاهد بوضوح فی حیاة إمامه الرسول الاکرم(صلى الله علیه وآله). أما العدو فهذا دیدنه، فهو لایکف عن الکذب والدجل والتشبث بأتفه الذرائع من أجل النیل من الطرف المقابل. ثم واصل الإمام(علیه السلام) کلامه لیذکر ست صفات رذیلة إتصفت بها سیرة عمرو بن العاص: «إنّه لیقول فیکذب، ویعد فیخلف، ویسأل فیبخل، ویسأل فیلحف،(7) ویخون العهد، ویقطع الإلّ(8)» لاشک أنّ کل من یطالع سیرة عمرو بن العاص وسجله الأسود یقف بوضوح على هذه الرذائل فی شخصیته.

والخلاصة فقد کان وضیعاً، لایتورع عن إرتکاب أفظع الرذائل من أجل الدنیا والظفر بحطامها، فهو یعد إذا کانت الاُمور لصالحه، بینما یخلف إذا کانت بضرره. فقد کان یضحی بالغالی والنفیس من أجل الحصول على الدنیا، ولاسیما أمام معاویة الذی کان شدید الحاجة إلیه، وهذا ما کان یدفعه إلى إعطائه ما یصبو إلیه. أمّا نقضه للعهود والمواثیق فحدث ولا حرج، بل کان لایرحم حتى قرابته ومن له صلته به. وأخیراً دوره فی التحکیم لیس بخاف على أحد. قال بعض المؤرخین أنّه عاش تسعین سنة، وذکر الیعقوبی(9) أنّه عاش تسعین سنة ولما حضرته الوفاة قال لابنه: لود أبوک أنّه مات فی غزات ذات السلاسل، إنی قد دخلت فی اُمور لاأدری ما حجّتی عنداللّه فیها. ثم نظر إلى ماله فرأى کثرته فقال: یالیته کان بعراً، یالیتنی مت قبل هذا الیوم بثلاثین سنة، أصلحت لمعاویة دنیاه وأفسدت دینی، آثرت دنیای وترکت آخرتی، عمی علىّ رشدی حتى حضرنی أجلی، کأنی بمعاویة قد حوى مالی وأساء فیکم خلافتی.

على کل حال لیس هنالک من لایعلم بهذه الرذائل التی إنطوت علیها شخصیة عمرو بن العاص. ثم أشار الإمام(علیه السلام) إلى أرذل الأعمال التی ارتکبها عمرو بن العاص فی حیاته، العمل الذی إنعدم مثیله فی التأریخ، وذلک یوم صفین حین رأى نفسه مقتولا بید علی(علیه السلام) فعمد إلى کشف عورته، لأنه کان یعلم بأنّ حیاء الإمام(علیه السلام) لایدعه ینظر إلیه فی تلک الحالة، فاغتنم تلک الفرصة لیهرب من بین یدیه. فشاع هذا الأمر بین العرب آنذاک حتى أخذت الناس تضرب به المثل فی أن عورة عمرو أنجته من الموت. فقد قال الإمام(علیه السلام): «فإذا کان عند الحرب فأیّ زاجر وآمر هو! ما لم تأخذ السّیوف مآخذها، فإذا کان ذلک کان أکبر مکیدته أن یمنح القرم(10)سبّته(11)» فقد قال ابن أبی الحدید: وأما خبر عمرو فی صفین واتقائه حملة علی علیه السلام، بطرح نفسه على الأرض وإبداء سوأته،(12) فقد ذکره کل من صنف فی السیر کتاباً، وخصوصاً الکتب الموضوعة لصفین والقصة کالاتی: قال نصر بن مزاحم فی کتاب صفین قال:

حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبی عمرو، وعن عبد الرحمن بن حاطب، قال کان عمرو بن العاص عدواً للحارث بن نضر الخثعمی، وکان من أصحاب علىّ علیه السلام، وکان علیّ(علیه السلام) قد تهیبته فرسان الشام، وملأ قلوبهم بشجاعته، وامتنع کل منهم من الإقدام علیه. وکان عمرو قلّما جلس مجلساً إلاّ ذکر فیه الحارث بن نضر الخثعمی وعابه.

فشاعت هذه الأبیات حتى بلغت عمراً، فأقسم بالله لیلقین علیّاً ولو مات ألف موتة. فلما اختلطت الصفوف لقیَه فحمل علیه برمحه، فتقدم علىُّ(علیه السلام) وهو مخترط سیفاً معتقلٌ رمحاً، فلما رهقه همز فرسَه لیعلُوَ علیه، فألقى عمرو نفسه عن فرسه إلى الأرض شاغراً برجلیه; کاشفاً عورته، فانصرف عنه لافتا وجهه مستدبِراً له، فعدَّ الناس ذلک من مکارمه وسؤدُده وضرِب بها المثل.(13)

واوردت التواریخ قال معاویة یوماً بعد استقرار الخلافة له لعمرو بن العاص: یا أبا عبد الله، لا أراک إلاّ ویغلِبنُی الضحک; قال: بما ذا؟ قال: أذکر یوم حَمل علیک أبو تراب فی صِفیّن، فأزریت نفسک فَرَقاً من شَبَاً سنانه، وکشفت سوأتک له; فقال عمرو: أنا منک أشدّ ضحکاً; إنّی لأذکرُ یومَ دعاک إلى البِراز فانتفخ سَحْرُک، ورباَ لسانُک فی فمک وغَصِصْتَ بریقک، وارتعَدَتْ فرائصُک، وبدا منک ما أکره ذِکْرَه لک; فقال معاویة: لم یکن هذا کلّه وکیف یکون ودونی عَکّ الأشعرِیون! قال: إنک لتعلم أن الذی وصفتُ دون ما أصابک، وقد نزل ذلک بک ودونک عکّ الأشعریون، فکیف کانت حالک لو جمعکما مأقِطُ الحرب! فقال: یا أبا عبد الله، خُضْ بنا الهزل إلى الجِدّ، إن الجْبن والفرار من علیّ لا عَار على أحد فیهما.(14)

ثم قال(علیه السلام) ردا على إفتراء عمروبن العاص: «أما واللّه إنّی لیم نعنی من اللّعب ذکر الموت» فالإمام(علیه السلام) لایغفل عن الموت طرفة عین، وذلک لأنّ الموت قانون یشمل جمیع الخلائق لایعرف الاستثناء ولم یعنى له وقت، ویعلم الإمام(علیه السلام) على وجه الیقین أن الموت هادم اللذات وأنّ الإنسان یتحول إلى وحش ضاری إذا نسى الموت ومحکمة العدل الإلهی. فهل للإمام(علیه السلام) من فرصة للمزاح واطلاق العنان للهوى وهو ما علیه من الذکر؟ قطعا لایجوز ذلک على الإمام(علیه السلام)، بینما لم یدفع ابن البانغة للتفوه بذلک الکلام سوى نسیان الآخرة والغفلة عن الموت: «و إنّه لیمنعه من قول الحقّ نسیان الاْخرة» نعم إذا کذب أو إفترى ولم یتورع عن القیام بأی عمل من أجل تحقیق مطامعه الدنیویة فذلک معلول لنسیانه الموت والآخرة. وما أسلفنا فان من نسى الآخرة وتجاهل العدل الإلهی أصبح کائنا خطیراً یخشى منه، لأنّه لایتوانى عن ارتکاب أبشع الأعمال دون أن یکترث حتى لشرفه وحیثیته. ثم یستدل(علیه السلام)على ذلک بقوله: «إنّه لم یبایع معاویة حتّى شرط أن یؤتیه أتیّةً،(15) ویرضخ له على ترک الدّین رضیخةً(16)». فقد أشار الإمام(علیه السلام) بهذه العبارة إلى تلک الواقعة المعروفة بین الناس والتی أشرنا إلیها فی الخطبة السادسة والعشرین، والقصة هى: لما نزل علی(علیه السلام) الکوفة بعد فراغه من أمر البصرة، کتب إلى معاویة کتاباً یدعوه إلى البیعة أرسل فیه جریر بن عبداللّه البجلی، فقرأه واغتم بما فیه، وذهبت به أفکاره کل مذهب، وأحب الزیادة فی الاستظهار، فاستشار عمرو بن العاص، فکتب له معاویة کتاباً، فسار حتى قدم على معاویة. فقال له معاویة: إنّی أدعوک إلى جهاد علی بن أبی طالب. قال عمرو: واللّه یا معاویة ما أنت وعلی حملی بعیر، لیس له هجرته ولا سابقته ولاصحبته ولاجهاده ولافقهه ولاعلمه. ثم قال فما تجعل لی إن شایعتک على حربه وأنت تعلم ما فیه من الغرر والخطر؟ قال: حکمک، فقال: مصر طعمة. فتلکا علیه معاویة، وقال: إنی أکره لک أن تتحدث العرب عنک أنّک إفما دخلت فی هذا الأمر لغرض الدنیا، فقال عمرو: دعنی عنک. حتى استجاب له معاویة آخر الأمر.(17) والعجیب أنّ الدنیا لم تف له حیث لم یحکم مصر سوى بضع سنوات ثم ندم ندماً شدیداً أواخر عمره من فعاله، فکان یلعن نفسه، ولم یکن أمامه من مخرج.(18)


1. «نابغة» من مادة «نبوغ» الظهور والشهورة وتصطلح العرب بالنابغة على المرأة المشهورة بالفساد، کما تطلق على الافذاذ من الأفراد.
2. «دعابة» بالضم المزاح واللعب.
3. «تلعابة» بکسر التاء کثیر اللعب الذی یشغل الناس بکلامه وأفعاله.
4. «أعافس» من مادة «معافسة» شدة المزاح.
5. «أمارس» من مادة «ممارسة» الانهماک بالمزاح.
6. ربیع الأبرار للزمخشری، نقلا عن ابن أبی الحدید فی شرحه لنهج البلاغة 6/283.
7. «یلحف» من مادة «الحاف» بمعنى الاصرار والالحاح واصلها من اللحاف وهو الغطاء المعروف، ولما کان الشخص المصر یلف من حوله فقد اطلقت علیه هذ المفردة.
8. «الإل»، العهد، والمیثاق، کما تعنی القرابة، والمراد من قطع الال أن یقطع الرحم.
9. تأریخ الیعقوبی (طبق نقل الغدیر 2/175).
10. «قرم» الذکر من الجنس، کما وردت بمعنى الشخص العظیم والسید، وهذا هو المعنى المراد فی العبارة، لأن عمرو بن العاص کان یعلم اَن أمیرَالمؤمنین علی(علیه السلام) یصرف وجهه عنه اِذا ما کشف عورته.
11. «سبة» من مادة «سب» على وزن شق الشتم وکل شئ یکره ذکره، وهى هنا إشارة إلى العورة.
12. شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 6/312.
13. کتاب «صفین» لنصر بن مزاحم /224 «بحسب ما نقله الغدیر، فی 2/158.
14. روى ابن ابی الحدید ذلک عن المؤرخ المشهور الواقدی (شرح نهج البلاغة لابن ابی الحدید 6 / 317.
15. «الاتیة» بمعنى العطیة من الایتاء بمعنى الاعطاء .
16. «رضیخة» من مادة رضخ، «رضخ» له رضیحة أعطاه قلیلا، والمراد بالعبارة أنّ عمرو بن العاص باع آخرته ودینه بذلک المتاع الزهید من الدنیا، ولاسیما أنّه لم یتمتع بذلک المقام سوى بضع سنوات.
17. شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 2/61 (بتخلیص).
18. هناک کلام بین المؤرخین بشأن موت عمرو، غیر أنّ العلاّمة الأمینی ذکر فی غدیره وابن أبی الحدید فی شرحه 6/321: والصحیح أنّه مات فی سنة ثلاث واربعین، فلم تدم حکومته لمصر أکثر من خمس سنوات. 

 

1 ـ نسب عمرو بن العاص وطرف من أخباره نظرة إلى الخطبة
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma