تطرق الإمام(علیه السلام) إلى سائر أصناف الملائکة بعد أن فرغ من صفة ملائکة الوحی، فقال(علیه السلام): «ومنهم من هو فی خلق الغمام الدلح(1) فی عظم الجبال الشمخ(2)، وفی قترة(3) الظلام الأیهم(4)»، الدلح جمع دالح تعنی السحاب المثقل بالماء، وشمخ جمع شامخ بمعنى المرتفع، وقترة تعنی هنا الخفاء والبطون، وأیهم بمعنى اللیالی الدامسة التی لایهتدى فیها. فالذی یبدو أن مراد الإمام(علیه السلام)الملائکة الموکلة بالسحب الممطرة والجبال المرتفعة والظلمات، حیث لکل منها سهم فی تدبیر هذا العالم، وهو ما أشار إلیه القرآن الکریم فی الآیة الخامسة من سورة النازعات، حیث عبر عن هذه الملائکة بالقول (فَالْـمُدَبِّراتِ أَمْر)، کما احتمل أن یکون لهذا الصنف من الملائکة دور فی ایجاد تلک السحب والجبال والظلمات ـ على کل حال فانّ مأموریة هذا الصنف من الملائکة هى مأموریة تکوینیة ـ على الخلاف من ملائکة الوحی حیث لهم مأموریة تشریعیة. ثم تطرق(علیه السلام) إلى صنف آخر من الملائکة فقال(علیه السلام): «ومنهم من قد خرفت أقدامهم تخوم(5) الأرض السفلى، فهى کرایات بیض قد نفذت فی مخارق(6) الهواء، وتحتها ریح هفافة(7)، تحبسها على حیث من انتهت من الحدود المتناهیة» وتشبه هذه العبارة ما أورده الإمام(علیه السلام) فی الخطبة الاولى من نهج البلاغة التی قال فیه: «ومنهم الثابتة فی الأرضین السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العلیا أعناقهم»، طبعاً هذه العبارات إنّما تشیر على سبیل الکنایة إلى رفعة هذا الصنف من الملائکة وسمو مکانته، واننا لاندرک سوى شبح عنها، وذلک لأننا لانمتلک المعلومات الکافیة عن خلقها. ولا یتسنى إدراک حقیقة هذه التعبیرات بصورة تامة سوى لعلی(علیه السلام)وسائر المعصومین(علیهم السلام) الذین رفعت عنهم الحجب، وما علینا إلاّ القناعة والاکتفاء بهذا العلم الإجمالی. ثم واصل الإمام(علیه السلام) کلامه فی وصف هؤلاء الملائکة فقال(علیه السلام): «قد استفرغتهم أشغال عبادته، ووصلت حقائق الإیمان بینهم وبین معرفته، وقطعهم الایقان به إلى الوله(8) إلیه، ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غیره»، فالعبارات الأربع مرتبطة مع بعضها البعض الآخر قطعا، فالاشتغال بالعبادة سبب لتقویة الإیمان ورسوخه، کما أنّ قوة الإیمان تنتهی إلى الحب والعشق، فاذا ملأحبّه کیان الإنسان أو الملک، لم یدعه یفکر فی غیره ولایطمع إلى ما عند سواه. فقد ورد فی الخبر عن الإمام الصادق(علیه السلام)أنّ النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله)قال: «أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها، وأحبّها بقلیه، وباشرها ؟، وتفرغ لها; فهو لایبالی على ما أصبح من الدنیا على عسر، أم على یسر»(9)، وواضح أن عبادة الملائکة لاتصدهم عن مأموریتهم فی تدبیر شؤون العالم ـ بأمر الله ـ ولاعبادة أولیاء الله تصدهم عن تدبیر دینهم و دنیاهم و وظائفهم الفردیة و الإجتماعیة فکل أمورهم إنّما تنعبث من حبهم وعشقهم الحق سبحانه وتعالى و السیر على طاعته.