تحدث الإمام(علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة بصورة أعمق عن صفات الملائکة ومقام معرفتهم وعشقهم لله سبحانه و درجات عبادتهم وخضوعهم وخشوعهم. فقد أشار فی الواقع إلى ثلاث من الصفات بعبارات رائعة مختلفة، تعرض فی العبارة الاولى إلى مقام الملائکة الرفیع فی المعرفة وکأنها أسکرت عقولهم وجوارحهم فملأتها حبا وعشقا لله. کما تعرض فی العبارة الثانیة إلى الطاعة المتواصلة بفضلها الولیدة الطبیعیة لهذه المعرفة وأخیراً العبارة الثالثة التی تفید خلو هذه الطاعة المستمرة من الکلل والملل والتعب والفتور والعجب. کأنّ الإمام(علیه السلام)دعا الناس للاقتداء بها واحتذاء طریقتها فی المعرفة والعبودیة والاخلاص. فقال(علیه السلام): «قد ذاقوا حلاوة معرفته، وشربوا بالکأس الرویة(1) من محبته، وتمکنت من سویداء(2) قلوبهم وشیجة(3) خیفته» تفید العبارة: «قد ذاقوا حلاوة معرفته، وشربوا بالکأس الرویة من محبته» أنّ الملائکة قد إنفتحت على معرفة الله وحبّه بکل کیانها حتى نفذ إلى سویداء قلوبها، کما تفید مفردة تمکنت أنّ خوف الله قد تجذر فی أعماق قلوبها بحیث وظّف هذا الخوف والرجاء کل قواها فی سبیل طاعة الله; وذلک لأنّ الحب والأمل دون الخوف یسوق الإنسان إلى الغفلة والغرور، کما أن الخوف دون الحب والأمل یقوده إلى الیأس والقنوط. من هنا قال الإمام(علیه السلام)عقب تلک الصفات: «فحنو(4) بطول الطاعة اعتدال ظهورهم» فهم دائما على أتم الخضوع وکمال التسلیم لله. مع ذلک فان رغبتهم المتفاقمة فی عبادته وکثرتها لم تسلبهم حالة التضرع والخشوع (فلم یتطرق الیها التعب والارهاق) «ولم ینفذ طول الرغبة إلیه مادة تضرعهم» لا کالأفراد من عدیمی المعرفة الخالین من معانی الحب والعشق والخوف والرجاء الذین تتعبهم أدنى عبادة وتسلبهم الرغبة والاقبال علیها. ثم أشار(علیه السلام) إلى نقطة مهمّة اُخرى: «ولا أطلق عنهم عظیم الزلفة(5) ربق(6) خشوعهم، ولم یتولهم الاعجاب فیستکثروا ما سلف منهم ولا ترکت لهم استکانة(7) الاجلال نصیبا فی تعظیم حسناتهم»، فهناک نقطة لطیفة کامنة فی هذه العبارة أشار إلیها بعض شرّاح نهج البلاغة وهى أنّ من یقترب من الملوک والسلاطین والشخصیات التی تبدو رفیعة وعظیمة سرعان ما یکتشف أن قدرتهم و شوکتهم قاصرة زائلة مهما بدت کبیرة، وبامکان مقربیهم أن یبلغوا هذه القدرة یوماً ما، بل حتى أعظم منها. وهذا ما یؤدی بدوره إلى الحد من تواضع الآخرین وخضوعهم وطاعتهم لهم، فانّ اضطروا إلى تعظیمهم ظاهراً، لم یروا لهم مثل هذه العظمة باطناً. أمّا الملائکة فعلى العکس کلما اقتربت فی مسیرتها من الله تکشفت لها حقائق جدیدة عن عظمته المطلقة، فیروا فیه ملامح جدیدة من صفات الجمال والجلال. من هنا یزدادون له خضوعاً وخشوعاً وتواضعاً کل یوم، فلا یبقى أمامهم من مجال للاعجاب بالحسنات وإکبارها، بل یرون أنفسهم مقصرین على الداوم تجاهه. ثم واصل الإمام(علیه السلام)کلامه باماطة اللثام عن هذه الحقیقة وهى عدم کلل الملائکة عن عبادته، ولیس للفتور من سبیل إلیها، کما لیس هناک ما یصدها عن مواصلة مسیرتها العبادیة، بل هى دؤوبة على العبادة بدافع من عشقها وإرادتها وعزمها، على غرار الإنسان الذی لایکل عن استنشاق الهواء الطلق طیلة عمره وإن امتد لالاف السنین. ثم تناول الإمام(علیه السلام) هذه المسألة من مختلف الجوانب بثمان عبارات. فقال فی العبارة الاولى: «ولم تجر الفترات فیهم على طول دؤبهم»(8) کما قال سبحانه وتعالى فی محکم کتابه العزیز واصفاً الملائکة: (یُسَـبِّحُونَ اللَّـیْلَ وَالنَّهارَ لا یَفْتُرُونَ)(9) ثم قال (علیه السلام) فی العبارة الثانیة: «ولم تغض(10)رغباتهم فیخالفوا عن رجاء ربّهم»، وذلک لأنّ عشقهم للکمال دائمی لایتوقف، وعلمهم متزاید بربهم ـ وبناءاً على هذا فلیس هنالک ما یدعو إلى غفلتهم عن العبادة، أو یقلل من أملهم. وقال فی العبارة الثالثة أن طول مناجاتهم لم تجف ألسنتهم وتعجزها عن العبادة: «ولم تجف لطول المناجاة أسلات(11) ألسنتهم»، طبعاً لیس هنالک لساناً وفما للملائکة کما لدینا، بحیث تقل رطوبته بفعل کثرة الذکر والمناجاة فیصیبه الجفاف والیبس، بل العبارة کنایة لطیفة عن عدم ضعفهم وفتورهم فی تسبیحهم وتضرعهم لله سبحانه وتعالى، ثم قال(علیه السلام) فی العبارة الرابعة: «ولاملکتهم الاشغال فتنقطع بهمس(12) الجؤار(13)، إلیه أصواتهم»، فالواقع لیس لهؤلاء من عمل سوى العبادة والطاعة والعبودیة، وهذه الاُمور جزء لایجتزأ من ذواتهم ووجودهم وإیمانهم. ولیس لهذه الاُمور أن تخلق أی تعب أو ملل، کالقلب المعافى الذی لایشعر بالتعب ولو عمل لسنین، وقال(علیه السلام) فی العبارة الخامسة: «ولم تختلف فی مقاوم(14) الطاعة مناکبهم»، ثم أردفه(علیه السلام)بالقول بعدم خلودهم إلى الراحة لیؤدی بهم ذلک إلى التقصیر فی القیام بمهامهم: «ولم یثنو(15) إلى راحة التقصیر فی أمره رقابهم» فهم على أهبة الاستعداد للعبادة على الدوام. ثم اختتم ذلک بقوله(علیه السلام): «ولاتعدوا على عزیمة جدهم بلادة الغفلات، ولاتنتضل(16) فی هممهم خدائع الشهوات»، حقاً أنّ وجودهم خال من أیة شهوة وغفلة، ولهم ایمان وحب لخالقهم على درجة من القوة والرسوخ بحیث لایتسلل إلیهم التعب والملل أبداً فی مسیرتهم العبادیة وطاعتهم لربّهم.