تأملوا الماضی قلیلاً

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات الولایة (شرحٌ عصرىٌّ جامعٌ لنهج البلاغة) / الجزء الخامس
القسم الخامسالقسم الرابع

واصل الإمام (علیه السلام) الخطبة التی أوردها فی ذم الدنیا وسرعة زوالها وخداعها وغرورها مصطحباً مخاطبیه هذه المرة لیغوص فی أعماق تاریخ الاُمم السالفة، لیصور من خلالها حیاة أصحاب السلطة والقدرة ممن ملأ صیتهم الأرجاء وکانت تقوم الدنیا وتقعد بین أیدیهم، وکذلک أصحاب الثروة والمال لیتساءل (علیه السلام) ألستم تحلون محلّ من کان قبلکم وتسکنون مساکنهم، ممن عمروا کثیراً وترکوا آثاراً وکانت لهم أمنیاتهم وآمالهم ورغباتهم، وکانت لهم جنودهم وحماتهم: «أَلَسْتُمْ فِی مَسَاکِنِ منْ کَانَ قَبْلَکُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً، وَأَبْقَى آثَاراً، وَأَبْعَدَ آمَالاً، وَأَعَدَّ عَدِید(1)، وَأَکْثَفَ(2) جُنُوداً!».

فقد أشار الإمام (علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة إلى خمس خصائص إمتازت بها الأقوام السابقة وهى: طول العمر، وبقاء الآثار والمخلفات، وطول الآمال، وکثرة السکان، وکثرة الجنود، فهى خصائص منحتهم التفوق على سائر من سواهم، وإلاّ أنّ أی من هذه الامتیازات لم یحل دون زحف العدم والفناء لقصورهم وأدیتهم، فکان مصیرهم أن تلاشوا وتساقطوا رکوعاً للموت تساقط أوراق الشجر فی فصل الخریف.

ثم أضاف (علیه السلام) مواصلاً کلامه بهذا الشأن: «تَعَبَّدُوا لِلدُّنْیَا أَیَّ تَعَبُّد، وَآثَرُوهَا أَیَّ إِیثَار. ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَیْرِ زَاد مُبَلِّغ وَلاَ ظَهْر قَاطِع».

نعم، فرغم کلّ سعیهم وجهدهم فی سبیل عبادة الدنیا والذوبان فیها وتجنید کافة قواهم وطاقاتهم فی هذا الاتجاه، إلاّ أنّهم لم یصیبوا أی شیء منها، ثم مشوا إلى حتوفهم وقد خلت جعبهم من الزاد والمتاع ودون حمل الورع والتقوى التی لا یجدی غیرها نفعاً هناک، فطریق الآخرة شاق طویل لا یجتازه إلاّ أهل الورع والتقى.

ثم خاطب (علیه السلام) صحبه: هل بلغکم أنّ الدنیا قدمت لأحدهم فدیة لتنجیه من الموت أو سکراته؟ أم هل أعانتهم بشیء فی هذا السبیل؟ أم هل کانت على الأقل صاحباً حسناً لهم: «فَهَلْ بَلَغَکُمْ أَنَّ الدُّنْیَا سَخَتْ(3) لَهُمْ نَفْساً بِفِدْیَة، أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَة، أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً!».

نعم، لم تقدم لهم أی عون ولم تنجیهم عن المکاره والأهاویل، أفلا یکون ذلک عبرة لم اعتبر من أبناء الدنیاأ!

ثمّ واصل الإمام (علیه السلام) کلامه بهذا الخصوص قائلاً: «بَلْ أَرْهَقَتْهُم(4) بِالْقَوَادِحِ(5)، وَأَوْهَقَتْهُمْ(6) بِالْقَوَارِعِ(7)، وَضَعْضَعَتْهُمْ(8) بِالنَّوَائِبِ، وَعَفَّرَتْهُمْ(9) لِلْمَنَاخِرِ، وَوَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ(10)، وَأَعَانَتْ عَلَیْهِمْ رَیْبَ الْمَنُونِ(11)».

فهذه العبارة المؤثرة تشیر إلى أنّ الدنیا لیس فقط لم تقدم العون والمساعدة لعبادها وأصحابها، بل سارعت بکل ما أوتیت من وقوّة لتوجیه ضرباتها الماحقة إلیهم بغیة إبادتهم، وإستئصال شوکتهم، حتى جندت جمیع قواها وطاقاتها ضدهم.

والطریف فی بیان الإمام (علیه السلام) هو أنّه بدأ من المراحل الکبرى نزولاً إلى الصغرى فی إطار تصویره لإعانة الدنیا وما یمکنها أن تقدمه من نصرة ومساعدة، بینما تدرج فی أضرارها التی تصیب من تعلق بها من المراحل السفلى إلى المراحل العلیا المتمثلة بالانقضاض علیهم وإزالتهم من صحفة الوجود، ولعمری هذه قمة الفصاحة والبلاغة فی بیان الحقائق المریرة والألیمة ویکشف النقاب عن مدى وضاعة الدنیا وانحطاطها وتنکرها لمن أخلد إلیها واطمأن بها.

ثم خلص(علیه السلام) إلى نتیجة ممّا سبق مفادها تنکر الدنیا لأصحابها ممن آثرها على کلّ شیء وهو الأمر الذی رأوه بأم أعینهم (أو لعلهم طالعوه بشأن الاُمم التی سبقتهم) فقد سلمتهم للأقدار وساقتهم نحو الموت دون أن یعدّوا الزاد والمتاع لتلک الدار الآخرة: «رَأَیْتُمْ تَنَکُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا، وَآثَرَهَا وَأَخْلَدَ(12) لَهَا، حِینَ ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ الاَْبَدِ».

فهل أمدتهم هذه الدنیا بشیء سوى الجوع والفقر؟ وهل عرضتهم سوى للتعب والارهاق والضنک؟ وهل وهبتهم إلاّ الظلمة التی لیس معها نور؟ (أبداً، بل أودعتهم حفراً مظلمة موحشة تفیض رعباً وخشیة)، وهل بقی لدیهم من شیء سوى الحسرة والندم: «وَهَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلاَّ السَّغَبَ، أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلاَّ الضَّنْکَ(13)، أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلاَّ الظُّلْمَةَ، أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلاَّ النَّدَامَةَ!».

فکیف الوثوق بهذه الدنیا التی لا تضمر لمن تعلق بها سوى البؤس والشقاء والهزیمة والفشل والظلمة، ولا تعقبه سوى الندم؟! أم کیف له التضحیة بالغالی والنفیس فی سبیل الحصول على بعض حطام الدنیا وجعلها هدفاً فی حیاته؟!

ومن هنا تساءل الإمام (علیه السلام) مستنکراً: «أَفَهذِهِ تُؤْثِرُونَ، أَمْ إِلَیْهَا تَطْمَئِنُّونَ؟ أَمْ عَلَیْهَا تَحْرِصُونَ؟ فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ یَتَّهِمْهَا، وَلَمْ یَکُنْ فِیهَا عَلَى وَجَل مِنْهَا!».

حقاً، لیست هناک من عبارات أوضح وأفصح من هذه العبارات التی وردت بشأن تفاهة الدنیا والمصیر والعاقبة المریرة التی تنتظر من تعلق بها وسکن إلیها، وهدف الإمام (علیه السلام) من هذه التأکیدات المتواصلة والعبارات المنبهة الشدیدة إلى الوقوف بوجه الریح الدنیویة العاتیة، وما إنطوت علیه من نعم جمّة أفرزتها قضیة الفتوحات الإسلامیة والتی إستهوت قطاعات واسعة من المسلمین لتقذف بهم فی أتون الرفاهیة والراحة والدعة بما ینسیهم القیم والمثل والمبادىء السماویة الخالدة، ویجعلهم یغطّون فی سبات الغفلة، علّهم یفیقون إلى أنفسهم ویعودون إلى رشدهم فیهبوا لإحیاء القیم الإسلامیة المغیبة، إلى جانب محاولة الإمام (علیه السلام)إعادة الاُمّة ـ لا سیما أولئک الأفراد الذین تکالبوا على الدنیا وثرواتها إبان عهد عثمان ـ إلى المسار الإسلامی الصحیح.

وما أورع هذه المواعظ والنصائح البلیغة الواضحة للمتکالبین على الدنیا من أبناء عصرنا الراهن حیث یشهدون ذات الظروف، بل أسوأ منها والتی عصفت بالمجتمع وجعلته یتعلق بالدنیا، والحق لو لم یلتفتوا إلى هذا الأمر ویفکروا فی علاج وضعهم فلا من دین ولا دنیا معقولة یمکنهم أن یظفروا بها ویحصلوا علیها.

والعبارات تنسجم تماماً وما صرحت به الأحادیث النبویة الشریفة وروایات وکلمات المعصومین(علیهم السلام)وبالتالی الآیات القرآنیة، فققد صرّحت الآیة 9، من سورة الروم:

(أَوَلَمْ یَسِیرُوا فِی الاَْرْضِ فَیَنظُرُوا کَیْفَ کَانَ عَاقِبَةُ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ کَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الاَْرْضَ وَعَمَرُوهَا أَکْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَیِّنَاتِ فَمَا کَانَ اللهُ لِیَظْلِمَهُمْ وَلَکِنْ کَانُوا أَنفُسَهُمْ یَظْلِمُونَ).

کما صرّحت الآیة 7 ـ 8 من سورة یونس:

(إِنَّ الَّذِینَ لاَ یَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَیَاةِ الدُّنْیَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِینَ هُمْ عَنْ آیَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِکَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا کَانُوا یَکْسِبُونَ)

وورد فی الحدیث عن الإمام الصادق(علیه السلام) أنّه قال: «مَنْ زَهِدَ فِی الدُّنیـا أَثبَتَ اللهُ الحِکمَةَ فِی قَلْبِهِ وَأَنْطَقَ بِهـا لِسَانَهُ وَبَصَّرَهُ عُیُوبَ الدُّنیـا دَاءَهـا وَدَواءَها وَأَخرَجَهُ مِنَ الدُّنیـا سـالَِماً إلى دارِ السَّلامِ»(14).

کما ورد عنه (علیه السلام) أنّه قال: «مَن أَصبَحَ وَأَمسَى وَالدُّنیـا أَکْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ تَعالى الفَقرَ بَینَ عَینَیهِ وَشَتَّتَ أَمَرَهُ، وَلَم یَنَلْ مِنَ الدُّنیـا إلاّ مـا قَسَّمَ اللهُ لَهُ، مَن أَصبَحَ وَأَمسَى وَالآخِرَةُ أَکْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ الغِنى فِی قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ أَمرَهُ».(15)


1. «عدید»: بمعنى «العدد»، کما ورد بمعنى الشبیه والمثیل وأرید بها المعنى الأول فی عبارة الخطبة.
2. «أکثف»: تفضیل «کثیف» بمعنى الکثیر.
3. «سخت»: من مادة «السخاوة» بمعنى العطاء.
4. «أرهقت»: من مادة «إرهاق» ستر الشیء بالقوّة، أرهقتهم بمعنى غشیتهم.
5. «قوادح»: جمع «قادحة» بمعنى الآفة.
6. «أوهقت»: من مادة «وهق» حلقة توضع على رقبة الحیوان.
7. «قوارع»: جمع «قارعة» بمعنى المحن والدواهى.
8. «ضعضعت»: من مادة «ضعضعة» بمعنى الذلة والهوان، کما تأتی بمعنى الإبادة.
9. «عفرت»: من مادة «التعفیر» کبتهم على مناخرهم فی العفر وهو التراب.
10. «المناسم»: جمع «منسم» یکسر المیم وهو مقدم خف البعیر.
11. «ریب المنون»: الریب الشک الذی یکشف عنه الغطاء آخر لأمر ویبلغ الیقین، والمنون یعنی الموت، وریب المنون الموت المحتمل ویراد بها أحیاناً مکاره الدهر التی تکون فی البدایة مشکوکة ثم یحصل بها الیقین.
12. «أخلد»: من مادة «إخلاد» وأصلها من الخلود، والعبارة أخلد إلیها بمعنى الرکون، أی أنّ أصحاب الدنیا قد أبدوا منتهى الرغبة بالدنیا وکأنّهم التصقوا بها.
13. «ضنک»: بمعنى «الضیق» والشدّة وهى مفردة تستعمل بصیغة المفرد دائماً.
14. اصول الکافی 2/128.
15. المصدر السابق /319.

 

القسم الخامسالقسم الرابع
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma