إنّ الله لا یظلم أحداً

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات القرآن ( الجزء الرابع)
ما الله بظلاّمشرح المفردات

الجدیر بالانتباه هو استعمال القرآن الکریم کلمة (العدل) فی المواضع المتعلّقة بوظیفة العباد، وعدم استعماله هذه الکلمة بخصوص الباری تعالى، وبالمقابل یلاحظ تعبیر (نفی الظلم) عن الله بکثرة، وتعبیر إقامة الله القسط لیس بقلیل أیضاً.

وأمّا ترک استعمال کلمة (عدل) بخصوص الذات الإلهیّة المقدّسة فیُحتملُ أن یکون سببه هو ما أشرنا إلیه سابقاً وهو کون کلمة (العدل) قد تُعطی معنى (الشرک) أحیاناً، (أی اتخاذ الکفوء والند لله تعالى)، فما أراد سبحانه أن یُستعملَ هذا اللفظ المشترک بخصوص ذاته المقدّسة!

وعلى أیّة حال فقد قال تعالى فی الآیة الأولى من البحث: (إِنَّ اللهَ لاَ یَظْلِمُ النَّاسَ شَیئاً وَلَکِنَّ النَّاسَ اَنْفُسَهُم یَظلِمُونَ).

یُمکن أن یکون هذا التعبیر إشارة إلى الکلام الذی ورد فی الآیات التی سبقتها، من قوله تعالى: (وَمِنهُم مَّنْ یَسْتَمِعُونَ إِلَیکَ أَفَأَنتَ تُسمِعُ الصُّمَّ وَلَو کَانُوا لاَ یَعقِلُونَ * وَمِنهُم مَّنْ یَنظُرُ إِلَیکَ أَفَأَنتَ تَهدِى العُمْىَ وَلَو کَانُوا لاَ یُبصِرُونَ * إِنَّ اللهَ لاَ یَظلِمُ النَّاسَ شَیئاً وَلَکِنَّ النَّاسَ اَنفُسَهُم یَظلِمُونَ).

وبتعبیر آخر: إنّها سنّةٌ إلهیّة أن لو لم تُستعمل الأبصار والأسماع السلیمة فی الأتجاه المخلوقة من أجله لفقدت قدراتها، لذا فلو لم ینتبه أحدٌ إلى مثل هذه الحالة لکان قد ظلم نفسه بنفسه، لا مظلوماً من قبل الله تعالى.

وقد أیدّ الکثیر من المفسّرین هذا التفسیر، ولکن العجب من ترک البعض الآخر منهم (کالفخر الرازی) هذا المطلب الواضح وانصیاعهم لعصبیّتهم المذهبیة فی مسألة العدالة، فقالوا: (لأنّ کل ما فی الوجود ملکٌ له، فکل ما یعمله لیس بظلم).

فی حین أنّ الآیة تشیر بدقّة إلى خلاف هذا المطلب، فظاهر الآیة یُفهم منه انتفاء تصوُّر الظلم بشأنه جلّ وعلا، بل إنّه لن یظلم أحداً فی نفس الوقت الذی یقدر فیه على ذلک.

ومن قبیل هذا التعبیر کثیر، فلو قیل: إِنّ الطبیب الفلانی، لم یُعالج المریض الفلانی فإنّه یعنی، أَنّه کان قادراً على علاجه، لکنّه لم یفعل، فلا یُقال أبداً: إِنّ الأُمىّ الفلانی لم یُعالج فلاناً من الناس.

أمّا الآیة الثانیة فقد أشارت إلى هذا المعنى بتعبیر آخر، حیث قالت: (وَلاَ یَظْلِمُ رَبِّکَ أَحَداً) ویُمکن أن یکون ذکر تعبیر (رب) إشارة إلى رعایته تعالى للإنسان بالتربیة والتکامل، لا الظلم والجور الذی یؤدّی إلى النقصان والتخلُّف (الذی هو خلاف اصول الربوبیّة).

وقد ذکرت هذه الجملة بعد بیان حال المجرمین فی القیامة، عندما یرون کُتبهم فیقولون: (یَاوَیْلَتَنَا مَال هَذَا الکِتَابِ لاَ یُغَادِرُ صَغِیرَةً وَلاَ کَبِیرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَ وَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً). (الکهف / 41)

لذا فإنّهم هم الذین ظلموا أنفسهم لا الله سبحانه وتعالى، وتتضح مسألة انتفاء الظلم عن الله سبحانه وتعالى نهائیاً من خلال تصریحِهِ تعالى فی القرآن بتجسُّم أعمالهم هناک (أی یوم القیامة).

وأشارت الآیة الثالثة إلى العذاب الدنیوی الذی أصابَ ستةً من الأقوام السالفة بسبب طغیانهم وظُلمهم وعنادهم(1)، قال تعالى: (فَمَا کَانَ اللهُ لِیَظلِمَهُمْ وَلَکِن کَانُوا اَنفُسَهُمْ یَظلِمُونَ).

لقد منَّ الله علیهم بالعقل والفهم والمعرفة، وأرسل إلیهم الأنبیاء والکتب السماویّة الواحد تلوَ الآخر، وحذّرهم مِراراً، فعندما لم ینفع معهم أی واحد من هذه الأمور، أنزل علیهم العذاب وأهلکهم، فمنهم من أغرقه بالماء، ومنهم بالریح العاصفة، ومنهم بالزلزلة، ومنهم من أخذته الصیحة.

وهذا الکلام تحذیرٌ ضمنیٌّ للأقوام الحالیّة، والطغاة، والمتمردین العصاة، لیکونوا على وجل لئلاّ یحطّموا أنفسهم بأیدیهم ویُحرقوا حاصل حیاتهم بنار أعمالهم.

وجملة: (فَمَا کَانَ اللهُ لِیَظْلِمَهُمْ)، التی اجتمع فیها الفعل الماضی (کان) والمضارع (لیظلمهم)، تشیر إلى نفی ظلم الله لأی أحد وفی أیٍّ من الأزمنة الماضیة، واستمرار هذه الصفة والسُّنة الإلهیّة وثباتها وعدم کونها أمراً مقطعیّاً مؤقتاً وعابراً.

أمّا الآیة الرابعة فقد أشارت إلى الجزاء الأخرویّ وأحوال یوم القیامة، حیث قال تعالى: (فَالیَومَ لاَ تُظلَمُ نَفسٌ شَیئاً وَلاَ تُجزَونَ إِلاَّ مَا کُنتُم تَعمَلُونَ).

مع أنّ فعل (تُظلَمُ) فی هذه الآیة قد ذُکِرَ بصیغة المجهول، لکنّه من الواضح أنّ الحاکم الوحید فی محکمة القیامة هو الله سبحانه وتعالى، إذن یُعتبر نفی الظُّلم فی هذه الآیة نفیاً للظلم عن ساحة قُدسه تعالى، وعلیه فإنّه لا یرتضی الظُّلم لأحد لا فی الدنیا ولا فی الآخرة، إنّها أعمال الناس التی سوف تتجسّم أمامهم هناک وترافقهم، فإن کانت صالحة منحتهم اللّذة والنشاط والبهجة، وإن کانت طالحة صارت سبب عذابهم وأذاهم، لذا قال سبحانه: (وَلاَ تُجزَونَ إِلاَّ مَا کُنتُم تَعمَلُونَ).

وقالت الآیة الخامسة بصراحة ـ والتی وردت بخصوص حالة خاصّة وهی الأنِفاق ـ (وَمَا تُنفِقُوا مِن خَیر... یُوَفَّ اِلَیکُمْ وَاَنتُم لاَ تُظلَمُونَ).

فسّر جماعة من المفسّرین (الظلم) هنا بمعنى النقصان، (أی لا تُنقَصون)، ولکن یبدو بأنّ (الظلم) هنا له نفس ذلک المعنى الواسع على الرغم من کون مصداقه هنا النقصان الکمّی أو الکیفی.

والملفت للإنتباه هو أنّ ـ کما لوّح به صدر الآیة، وصرّح به شأن النزول ـ هذه الآیة نزلت بخصوص الإنفاق حتى على فقراء الکفّار، فشوّق القرآن جمیع المسلمین لینفقوا علیهم أیضاً عند حاجتهم، إنّهم غیر مسؤولین عن إیمان الکفّار، فهدایتهم وتوفیقهم للإسلام بید الله، فلیطمئن المسلمون بأنّ کل انفاق خالص لمساعدة الفقراء الحقیقیین سیوفّى إلى المُنفقین یوماً ما ویعود إلى حوزتهم.

أمّا فی الدنیا فلأنّه (أی الإنفاق) یؤمّنُ ویحفظ أموالهم، حیث عندما یضغط الفقر على طائفة من المجتمع فستسودهُ الفوضى، وینعدم الأمن فی المجتمع، وستتعرض الأموال للتلف لیست لوحدها فقط، بل الأرواح أیضاً.

أمّا فی الآخرة فانهم سیحصلون على أضعافه المضاعفة من الرحمة الإلهیّة والثواب العظیم.

وبالمناسبة إنّ هذا التعبیر یُعَدُّ ترغیباً للمُنفقین لإنفاق أفضل مقدار ونوع من أموالهم فی سبیل الله، لأنّه سیوفَّى إلیهم، فهل یُحبّ أحدٌ أن یسترجع ثیاباً رثّةً أو أموالا غثة؟ إذن یجب أن لا یکون سعیه الوحید هو إنفاق أمواله الحقیرة فی سبیل الله.

وتحدثت الآیة السادسة عن الذین کانوا یزکّون أنفسهم ویعتقدون بأفضلیتهم على من سواهم، کالیهود الذین قالوا: نحن أبناء الله، وکانوا یعتقدون بأنّ الله یغفر فی اللیل ما یرتکبونه من الخطایا فی النهار، ویغفر فی النهار ما یرتکبونه من الخطایا فی اللیل! أو النصارى الذین کانوا یعتقدون لأنفسهم من قبیل هذه الأمور (حول شأن نزول هذه الآیة، أشار الکثیر من المفسّرین إلى إدعاءات هاتین الفئتین).

فالقرآن یقول (إنّ هذه التزکیة الناشئة من التعصُّب والعُجب والغرور، لا قیمة لها، إنّما القیمة فی تزکیة الله من یشاء من عباده)، قال تعالى: (بِلِ اللهُ یُزَکِّى مَنْ یَشَاءُ وَلاَ یُظلَمُونَ فَتِیلا).

أجَل، إنّ علمه بجمیع وجود الإنسان، ظاهره وباطنه، خلقه وطبعه، أعماله السریّة والعلنیة، یؤدّی إلى أن تکون تزکیته لفرد ما حقانیة، أی لا أقل ولا أکثر من اللازم، فی حین أنّ تزکیة الآخرین مشوبة بالجهل فی أبعاد مختلفة، ومصحوبة بأنواع الحب والبغض والغفلة والغرور.

وعلیه فانَّ الکلام فی هذه الآیة یدور فقط حول الظلم وتجاوز الحد بالنسبة إلى تزکیة الأشخاص من قِبلِ الله سبحانه وتعالى، ولکن یُحتمل أیضاً أن تکون هذه الجملة إشارة إلى الذنب الکبیر الذی کان یرتکبه المزکّون أنفسهم بسبب عجبهم، لأنّهم کانوا یعتقدون بخصوصیّتهم عن غیرهم واستحقاقهم لکل ألوان الکرم الإلهی.

فالقرآن یقول: إنّ من وراء هذا الکلام عقوبة ثقیلة ولکن لا ظُلم فیها.

ولکن یبدو أنّ التفسیر الأول أقرب إلى المعنى.

أمّا مادّة (فتْل) على وزن (قتل) فهی تعنی البرم، لذا فإنّ (فتیل) یعنی الحبل المبروم، وتُطلق عادةً على ذلک (الخیط) الرقیق الموجود فی شق نواة التمر، وهو کنایة عن الشیء القلیل جدّاً.

ویُلاحظ فی الآیة السابعة نفس هذا المعنى بتعبیر جدید، فإن کانت الآیات الاُخرى قد نفت ظلم الله لعباده، فهذه الآیة نفت ظلمه للعالمین جمیعاً، فلیس فقط لا یظلم، بل حتى لا تتعلق إرادته بالظلم، قال سبحانه: (وَمَا اللهُ یُرِیدُ ظُلماً لِّلعَالَمِینَ).

ولو اعتبرنا کلمة (عالمین) جمع عاقل، لشملت جمیع الموجودات العاقلة فی الوجود، من الناس، والجن والملائکة، وإن حملناها على (التغلیب) لشملت جمیع موجودات عالم الوجود، من العاقلة وغیر العاقلة، ومن الحیّة وغیر الحیّة (الجمادات)، ولأثبتت العدل الإلهی بخصوصها جمیعاً (أی وضع کل شیء فی محلّه المناسب).

والتعبیر بکلمة (ظُلماً) وبصیغة المفرد النکرة وسبقه بالنفی، إنّما هو من أجل التعمیم، ویشمل أدنى وأقلَّ ظُلم وجَور.

وقد ورد فی تفسیر المیزان أَنّ التعبیر بکلمة (العالمین) یُشیر إلى هذه الحقیقة، وهو: انعکاس أثر الظلم فی جمیع العالم بأی مقدار کان ومن أی إنسان صَدَر. (لأنّ العالم وحدة مترابطة)( 2).

والجدیر بالإلتفات هو أنّ جماعةً من العلماء توسّلوا بهذه الآیة لإبطال مذهب الجبر وما یتفرع منه، فقالوا: إذا کانت أعمال العباد من فعل الله وصادرة من ذاته المقدّسة، لا ستوجب أن یکون ظلمهم بعضهم أو أنفسهم من فعله تعالى، ولکن الآیة المذکورة أعلاه عندما نفت أی ظُلم من قبل الله للعالمین فإنّها تدلّ على انتفاء کون هذه المظالم من فعله تعالى، بل هی من أنفسهم، لأنّها لو کانت من فِعله لتعلقت بها الإرادة الإلهیّة، وقوله: (وَمَا اللهُ یُرِیدُ ظُلماً)یدّل على نزاهة ذاته المقدّسة عن هذه المظالم.

والعجیب هو أنّ الفخر الرازی قد نقل هذا الکلام فی تفسیره من دون أن یکون له جواب عنه، على الرغم من تعارُضه مع عقیدته حول الجبر والتفویض(3).

وعلى أیّة حال، إنّ هذه الآیة لها صیغة تعمیمیة من ثلاث جهات: (العالمین) و(الظلم) و(الإرادة) وتُعَدُّ من أجمع آیات نفی الظلم عن الله تعالى.

أمّا الآیة الثامنة فعلى خلاف الآیات السابقة، التی کانت تتحدث عن نفی الظلم، أکّدت إثبات القِسط والعدل کسُنّة دائمیّة وأبدیّة، قال تعالى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِکَةُ وَأُولُوا العِلمِ قَائِماً بِالقِسطِ).

والجدیر بالإنتباه هو کون العدالة الإلهیّة من أحد شروط (الشهادة)، وعدالته شرطٌ لمنع عباده عن أی انحراف عن طریق الحق، وتمّ التأکید هنا على عدالة الله لتکمیل شهادته، وهذه العدالة تثبت بوضوح بنظرة عمیقة واحدة إلى عالم الوجود، لأننا نرى کُلّ شیء فی محلّه، ونشاهد منتهى الدقة والإستحکام فی النظام الموجود فی الوجود، وإذا لاحظنا وجود بعض العیوب فی بعض حوادث وأشیاء العالم، فإنّها تتضح لنا شیئاً فشیئاً بزیادة التدقیق والتطور العلمی، وإن بقیت حالات نادرة فی قید الإبهام، فإننا وبأخذنا بنظر الاعتبار الحوادث المکتشَفة فی العالَم، سنعلم بأنّ سبب بقاء إبهامها هو جهلنا وقلّة علمنا.

ومن جهة اُخرى، إنّ عدالة الله دلیل أیضاً على وحدانیته، لأنّه لو کان هنالک خالقٌ وحاکمٌ فی الوجود سواه لأدّى إلى حدوث اختلاف فی التدبیر والفساد بالنتیجة، وعلیه فإنّ النظم الموجودة، ووحدة التدبیر خیرُ دلیل على وحدانیتة.

وبهذا فإنّ وحدانیته تدل على عدله، وعدله یدل على وحدانیته، وهذا مطلب ظریف یُستحصَلُ من الآیة أعلاه(4).

والظریف (هو استدلال الزمخشری فی الکشاف بهذه الآیة على نفی الجبر، لأنّ الجبر یتنافى مع عدالة الله).

وهذا مطلب واضح سنتطرق إلیه فی البحوث القادمة إن شاء الله، فأی ظُلم أکبر من أن یجبر شخصٌ أحداً على فعل معین ثم یؤاخذه علیه ویعاقبه؟

لکن الفخر الرازی، وانطلاقاً من تعصُّبه الخاص حول هذه المسألة، تهجمّ بشّدة على صاحب الکشّاف ووصفه عدّة مرّات بالمسکین أو بغیر المحیط بجمیع رموز العلم، وتوسّل بالإشکال الشهیر المعروف (بعلم الله) فی مسألة الجبر، وهو إن لم یعصِ المذنبون ولم یرتکبوا الذنوب الموجودة فی علم الله منذ الأزل، لصار علم الله جهلا!(5)

فی حین أنّ الرد على هذا الإشکال من البساطة والوضوح بحیث یعلمه جمیع من لهم أدنى اطلاع حول مسألة الجبر والتفویض، وسیأتی شرحه فی البحوث القادمة إن شاء الله تعالى.

وأمّا الآیة التاسعة فقد أشارت أیضاً إلى مسألة عدالة الله فی القیامة فی مسألة الثواب والعقاب، وأکّدت على کلمة (القِسط)، قال تعالى: (إِنَّهُ یَبدَؤُا الخَلقَ ثُمَّ یُعِیدُهُ لِیَجزِىَ الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالقِسطِ).

وهذه الآیة بالواقع تشیر إلى کُلٍّ من الدلیل العقلی على إمکان المعاد، ودلیل وقوعه، أمّا إمکانه فلأنّ مَنْ بدَء الخلق قادر قطعاً على إعادته وإحیائه من جدید.

أمّا وقوعه، فلو لم یکُن (المعاد) لما تحقق القسط والعدل، فهنالک الکثیر من المحسنین ممن لم یحصلوا فی هذه الدنیا على ثواب عملهم، ومن المسیئین الذین لم یذوقوا ـ فی هذه الحیاة الدنیا ـ قصاص أعمالهم، فلولا المعاد لما تحقق العدل والقِسْط.

والجدیر بالإنتباه هو أَنّ الآیة قد أشارت فی نهایتها إلى العذاب الألیم الذی سیلقاه الکافرون فی الآخرة: (وَالَّذِینَ کَفَرُوا لَهُم شَرَابٌ مِّن حَمِیم وَعَذَابٌ أَلِیمٌ بِمَا کَانُوا یَکفُرُونَ).(یونس / 4)

دون أن تتطرّق إلى مسألة القسط والعدل، والسبب فی هذا هو أنّ إجراء القسط والعدل فی جزاء الکافرین واضح من قرینة بدایة الآیة، علاوةً على کون جملة: (بما کانوا یکفرون)دلیلا واضحاً على کون ما یلقونه من العذاب جزاء ولقاء ما کانوا یعملون، وکأنّ المقصود من ذکر (القسط) بعد جزاء الصالحین هو بیان کونه الهدف الأصلی للخلق والإیجاد، وما یوم القیامة والحساب إلاّ لأجلهم وله حالة تبعیّة تخصّ الآخرین.

واحتمل بعض المفسّرین حول تفسیر هذه الآیة أنّ القسط هنا یخص أعمال المؤمنین، أی: إنّ الله سیجزی المؤمنین فی یوم القیامة لقیامهم بالعدل والقسط الذی یقتضیه الإیمان(6).

لکن المفسّر هذا لم ینتبه إلى هذه الحقیقة وهی کون (العمل الصالح) یتماشى مع أُسس العدالة، ولا تحتاج إلى قید أو شرط، إلاّ أن یکون ذا حالة تأکیدیّة، ونحن نعلم بأنّ حمل الکلام على التأکید خلاف الظاهر ویحتاج إلى قرینة.

وأشارت الآیة العاشرة إلى نفس هذا المعنى مع وجود هذا التفاوت، وهو بَیانها القسط والعدل کصفتین لموازین الأعمال، ونحن نعلم بأنّ مُقیم هذه الموازین هو الله العادل، إذن لابدّ من التسلیم بأنّها من صفات ذاته المقدّسة.

والتفاوت الآخر فی هذه الآیة عن الآیة السابقة هو کون مفهوم هذه الآیة عامّاً، ویشمل کلا من المؤمن والکافر، لأنّ (میزان القسط) لا یزن إلاّ قِسْطاً وعدلا، ولا یظلمُ أحداً. قال تعالى: (وَنَضَعُ المَوَازِینَ القِسطَ لِیَومِ القِیَامَةِ فَلاَ تُظلَمُ نَفسٌ شَیئاً).

والظریف هو وصفه تعالى هذه الموازین (بالقسط) ـ (العدل بالمعنى المصدری) ـ وقوله: إنّ هذه الموازین عین العدل، ممّا یعکس نهایة التأکید کقولنا: (زیدٌ عدلٌ)، أی أنّه عین العدل، فعلیه لا حاجة فی هذه الآیة إلى التقدیر.

وسیأتی هذا المطلب فی المجلد الخامس من هذا التفسیر فی بحوث المعاد إن شاء الله، وهو کون المقصود من (المیزان) هنا شیئاً مماثلا للموازین المادیّة لیصیر مجالا لطرح هذا الإشکال، وهو کون أعمال الإنسان لیست ذات وزن یُذکَرُ، فکیف یمکن وزنها بهذه الموازین؟ فنضطر إلى القول کما قال الفخر الرازی: إنّ المقصود منها وزن کتب الأعمال!

أو الحسنات تتجسّم بشکل جواهر بیضاء نورانیة! والسیئات تتجسّم بشکل جواهر سوداء ظلمانیة!(7)

بل المقصود من (الموازین) هو وسیلة القیاس، وکما نعلم أنّ وسیلة قیاس کل شیء تتناسب مع ماهیة ذلک الشیء، کقیاس الوزن، قیاس الحرارة، وقیاس ضغط الدم، و...، لذا فإنّ وسیلة قیاس الأعمال أیضاً هی تلک المعاییر الخاصّة التی تُقاس بواسطتها، کما ورد فی زیارة أمیر المؤمنین(علیه السلام): «السلام على میزان الأعمال!».

أجل، إنّ الإنسان الکامل میزان قیاس أعمال مختلَف الأفراد، لأنّ وزن کُل انسان یُعادل نظیره!

والظریف هو ما ورد فی بعض التفاسیر بأَنّ داود(علیه السلام) طلب من الله أن یُریه (میزان الأعمال)، فعندما رآه صُعِقَ! فلمّا أفاق قال: إلهی میزانٌ بهذه العظمة!؟ مَنْ ذا الذی یقدر أن یملأ کفّته بالحسنات؟ فقال سبحانه وتعالى مخاطباً إیّاه: «یا داود إِذَا رَضِیتُ عَن عَبدِی مَلأَتها بِتَمرة!».

(أجل إنّ المعیار هناک هو نوعیّة العمل لا کمیّته)(8).


1. قوم نوح وعاد وثمودَ وقوم ابراهیم وقوم شعیب وقوم لوط.
2. تفسیر المیزان، ج 3، ص 1414 (مع شیء من الإقتباس).
3. تفسیر الکبیر، ج 8، ص 174.
4. تفسیر المیزان، ج 3، ص 119 (مع شیء من الأقتباس).
5. تفسیر الکبیر، 7، ص 206.
6. تفسیر المنار، ج 11، ص 299.
7. تفسیر الکبیر، ج 22، ص 176. 8. تفسیر الکبیر، ج 22، ص 176.  
ما الله بظلاّمشرح المفردات
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma