فلسفة وجود النّار

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات القرآن (الجزء السادس)
تمهید أوصاف جهنّم

یسأل الکثیر عن مدى ضرورة وجود النّار ، فالله تعالى لا یحب الانتقام وأنّ العقوبات توضع لکی لایرتکب الناس الاخطاء ثانیة أو حتى تکون عبرة للآخرین ، بینما نعلم أن لا عودة لهذا العالم بعد هذه الحیاة ، ولا وجود هناک للتکلیف والطاعة والذنب، وعلى هذ ، ما المفهوم الذی ستحمله عقوبة باهضة کدخول النّار ؟ هذا من جانب .

ومن جانب آخر فإنّ الهدف من جمیع التعالیم الدینیة هو تربیة وتهذیب وتکامل الإنسان ، وإن لم یقبل بذلک بعض الناس فستکون عقوبتهم الحرمان من بلوغ الدرجات الرفیعة .

فما هی الضرورة لوجود جهنّم ، ومرکز الغضب والعقاب الصارم ؟

وللاجابة عن هذه التساؤلات ینبغی الالتفات إلى نقطتین:

1 ـ قلنا مراراً إنّ العقوبات الإلهیّة سواء فی هذا العالم أوفی عالم الآخرة هی نتیجة لأعمال الناس أنفسهم ، وإنّما تنسب إلى الله جلّ شأنه باعتباره مسبب الأسباب، فالکثیر من نعم الجنّة هی تجسید لأعمال الإنسان الصالحة ، والکثیر من عذاب جهنّم تجسید لأعماله السیّئة ، ونحن نعلم أنّ نتائج العمل وآثاره لیست بالأمر الهیّن الذی یمکن التساهل فیه .

فمثل ، الشخص الذی یتناول المشروبات الروحیة والمخدّرات ، لیقضی فترات من الراحة وهدوء البال حسبَ تصوره ـ فی ظل هاتین المادّتین المخدّرتین ، ولینتشی باللذة المتأتّیة من نسیان الدنیا، یُحذَّر بأنّ هاتین المادتین المخدّرتین هما من عوامل الافساد والتحلل وستؤدّیان فی النهایة إلى القضاء علیه ، فالمشروبات الکحولیة تسبب له أمراض القلب والشرایین والاعصاب والکبد ، والمخدّرات تدمر أعصابه بل وتُنهی کل کیاته.

فاذا لم یُصغ إلى هذا الانذار وتمادى فی ممارسته الخاطئة فانّه سیواجه عقوبته وجزاءه وهذا لا یحتاج إلى فلسفة ودلیل سوى قانون العلّیة ، وهی النتیجة الطبیعیة لعمل کل إنسان وغالباً ماتکون الذنوب على هذه الشاکلة ، وتعقبها نتائج فی هذه الدنی ، وفی الآخرة فهی تتجسد على صورة العذاب فی جهنّم .

ولهذا یُلحظ هذا التعبیر الذی یتکرر کثیراً فی الآیات الشریفة والذی یقول : إنّکم تجزون ما کنتم تعملون فنقرأ فی قوله تعالى: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّیِّئَةِ فَکُبَّت وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَل تُجزَونَ إِلاَّ مَاکُنْتُمْ تَعمَلُونَ ) . (النمل / 90)

ونقرأ أیضاً: (یَاأَیُّهَا الَّذِینَ کَفَرُوا لاَتَعتَذِرُوا الْیَوْمَ اِنَّمَا تُجْزَونَ مَاکُنْتُمْ تَعمَلُونَ ) . (التحریم / 7)

فالمعذرة نافعة حین لا تکون القضیة متعلّقة بالعلة والمعلول والنتیجة للأعمال .

و الآیات التی تتحدث مثلاً عن تجسید الأعمال وتشبّه أکل مال الیتیم بأکل النّار تدل بأجمعها على هذا المعنى ، وکذلک الروایات التی تقول إنّ الطباع الحیوانیة فی الإنسان ، تظهر من داخله یوم القیامة وترتسم على خارجه ، فتغدو صور الأشخاص شبیهة بالحیوانات المتمیّزة بتلک الطباع .

و خلاصة القول : إنّ هذه الدنیا مزرعة ، والآخرة أوان وزمان الحصاد ، فإن کان الإنسان قد زرع بذور الورد ، فمحصوله أغصان طیبة وطریة ومعطّرة من الورد ، وإن کان قد بذر الشوک فلا یجنی سواه .

جاء فی حدیث عن النبی (صلى الله علیه وآله) : «جاء رجل إلى النبی (صلى الله علیه وآله) فقال: یا رسول الله أوصنی فقال: احفظ لسانک، قال: یا رسول الله أوصنی، قال: احفظ لسانک، قال: یارسول الله أوصنی، قال: احفظ لسانک ویحک وهل یکب الناس على مناخرهم فی النّار إلاّ حصائد ألسنتهم»(1).

2 ـ لا شک فی أنّ التبشیر والتحذیر یعتبران دعامتین أساسیتین فی إجراء البرامج التربویة ، فکما أنّ التبشیر بالجزاء الأوفر الذی یحظى به الإنسان فی الجنّة یُعَدُّ عاملاً فاعلاً فی الدعوة إلى طاعة الله وترک معصیته ، فکذلک التحذیر والوعید بالعذاب الصارم فی جهنّم یُعتبر هو الآخر مؤثّراً قویّاً فی هذا الجانب ، لا بل ثبت بالتجربة أنّ للعقوبات تأثیراً أقوى .

ولهذا فإنّ جمیع القوانین التی تسنّها مراکز التشریع القانونی فی العالم تضمن عقوبات للمخالفین وهو ما یصطلح علیه علماء الحقوق باسم الضمانة التنفیذیة ، وتحظى هذه الضمانة بقدر کبیر من الأهمیّة بحیث تُعتبر واحدة من العناصر الأساسیة التی یبنى علیها القانون ، ولو أنّ قانوناً اُستُنَّ ولم یتضمن أی عقاب للمخالفین ( کالسجن والجلْد والغرامة المالیة والحرمان من بعض الحقوق الاجتماعیة) فلا یمکن أن یطلق علیه قانون .

فکیف تکون القوانین الإلهیّة والحالة هذه ـ خالیة من الضمانة التنفیذیة ؟ ! فهی عندئذ تفقد قیمتها القانونیة، ولایرى المخالفون لها والمتخلفون عنها أی دافع أو وازع لإطاعتها والالتزام به ، ویبقى هدف القانون عقیم .

صحیح أنّ الآثار الوضعیة والطبیعیة لعدم الالتزام قد تکون رادعاً للذین یقومون بمخالفات شرعیة، إلاّ أنّها غیر کافیة لوحده ، ولهذا فقد أدرج سبحانه وتعالى سلسلة من العقوبات لمن یتخلف عن الالتزام به ، فکما یهدد أقواماً بالعقوبة الدنیویة (وأمثلة ذلک کثیرة وقد تحققت فی الوجود الخارجی وأشار إلیها القرآن فی تبیانه لحیاة الأقوام السالفة) فهو جلّ شأنه ـ قد وضع أیضاً العقوبات فی الآخرة لمن یتوانى عن التقیّد به .

ومن الواضح کذلک أنّه کلما اشتّدت لهجة الترغیب والترهیب ، کلّما کان التأثیر أقوى وأکثر .

وهذا الأمر یوضّح أحد الأبعاد الأساسیة لفلسفة وجود الجنّة والنّار .

وربّما یقال هنا إنّ جمیع الآثار التی عُرضت إنّما تترتب على الوعید بالعقاب والجزاء ، وعلى هذ ، فما المانع من أن یکون سبحانه وتعالى قد عرض کل هذه التهدیدات والتحذیرات ، إلاّ أنّها لا تتحقق فی القیامة ، لعدم وجود ضرورة له ، وذلک لخلو ذلک العالم من دروس العبرة للآخرین وانعدام تکرار الذنب من قبل المجرمین ؟

إنّ هذا الکلام یستلزم أن یرتکب الله عزّ وجلّ، القبیح وأنّه والعیاذ بالله ـ یکذب ویتخلف عن وعده فهو یوعد بالعقاب للمتخّلفین وحتّى أنّه یُقسم بتنفیذ وعیده ، وکیف لا یطبق ذلک فعلی ؟ ! من البدیهی أنّ هذا الفعل قبیح لا یلیق بذاته المقدّسة بل ولا یفعله الإنسان المهذب الحکیم .

والنتیجة: أنّ وجوب التهدید والوعید بالعقاب والجزاء ضمانة تنفیذیة ، هذا من جهة ، ومن جهة اُخرى، لابدّ من تطبیق تلک الوعود والتهدیدات لدفع القبح عن ذاته المقدّسة .

و هذه هی فلسفة وجود جهنّم وعقوباته .

ومن أجل هذا نصّت الآیة الکریمة بالقول: (فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ اِنَّ اللهَ عَزِیزٌ ذُو انْتِقَام ). (إبراهیم / 47)

ثم یشرح فی أعقاب هذه الآیة بعضاً من عذاب یوم القیامة.


1. اصول الکافی، ج 2، ص 115 ، ح 14 .

 

تمهید أوصاف جهنّم
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma