2 ـ القرآن والعلوم الأخرى للأنبیاء (علیهم السلام)

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات القرآن (الجزء السابع)
مصادر علم الأنبیاء (علیهم السلام) 1 ـ حدود علم الأنبیاء (علیهم السلام)

ومن جهة أخرى فلا یمکن إنکار هذه الحقیقة وهی ارتفاع الحجب عن قلوب الأنبیاء، بسبب سمو نفوسهم وتهذیبهم الکامل للنفس وتصفیة قلوبهم من الشوائب، وأنّ هذه المعرفة وان لم تکن ضمن شروط النبوّة لکنّها تعتبر ضروریة فی سلّم الکمال کما لا یخفى.

وبعبارة أخرى، فان مسألة نقض الغرض شیء، ومسألة قدرة نفوس وعقول الأنبیاء یمثل شیئاً آخر، ولو أنّنا عجزنا عن إثبات ما زاد عمّا له علاقة بعالم الشریعة والتربیة وإدارة المجتمع الإنسانی، فبالإمکان إثباته بالطریق الثانی.

ویمکن لآیات القرأن أن تکون دلیلا حسناً على هذه المسألة أیضاً، إذ قد تمّت الإشارة فی القرآن، بالإضافة إلى مسألة الأسماء التی وهبت لآدم والتی اتّسع نطاقها بما یفوق الحدّ ـ کما علمنا ـ إلى موارد أخرى من علوم مختلف الأنبیاء الإلهیین، والتی لا تبدو حسب الظاهر لازمة لمسألة التشریع وبیان أحکام الدین، لکنّها تعدّ الأساس لکمالها. لاحظ الآیات الآتیة المرتبطة بهذا الموضوع.

1 ـ نقرأ عن داود (علیه السلام) :(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوس لَکُمْ لِتُحْصِنَکُمْ مِنْ بَأْسِکُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاکِرُونَ). (الأنبیاء / 80)

الـ «لبوس» یعنی فی الأصل کلّ أنواع الألبسة، لکنّه استعمل هنا فی خصـوص ملابس المعرکة کالدرع مثلا، ولکن بعض أرباب اللغة کابن منظور فی لسان العرب وبعض المفسّرین کالمرحوم الطبرسی فی مجمع البیان قالوا فی ذیل هذه الآیة: کلّ أنواع السلاح (الأسلحة الهجومیة والدفاعیة)، إذ إنّه یصدق بحقّها استعمالها للدفاع فی الحروب التی اشیر إلیها فی الآیة وإن کانت ظاهرة فی الدرع کما هو واضح.

ذکر بعض المفسّرین أنّهم وقبل داود (علیه السلام) کانوا یربطون بأبدانهم صفحات حدیدیة رقیقة لوقایة أنفسهم من ضربات الأعداء، (وأنّ هذا العمل کان شاقّاً وصعباً للغایة، وأنّ أوّل من صنع الدرع من الحلقات الصغیرة المرتبطة ببعضها البعض هو نبی الله داود الذی خطر على باله هذا الشیء بإلهام إلهی(1).

وقد ورد نفس هذا المعنى بتعبیر أشمل فی موضع آخر إذ یقول تعالى: (وَأَلَنَّـا لَـهُ الْحَدِیدَ * أَنِ اعْمَـلْ سَابِغَات وَقَـدِّرْ فِى السَّـرْدِ وَاعْمَلُـوا صَالِحـاً). (سبأ / 10 ـ 11)

«السابغات» جمع «سابغ» الذی یعنی الدرع الکامل العریض بالضبط، کما أنّ «إسباغ النعمة» یعنی وفورها و «إسباغ الوضوء» یعنی کثرة ماء الوضوء.

«السرد» یعنی فی الأصل غزل الأشیاء الخشنة، وقد ورد فی جملة «وقدّر فی السرد» الأمر برعایة الأحجام الملائمة لحلقات الدرع وکیفیة غزلها.

وبهذا تبیّن أنّ الله قد ألآن له الحدید بالإضافة إلى تعلیمه لفنون غزل الدرع الکامل.

هل کان الحدید یلین فی ید داود کالشمع؟ أم أنّ الله قد علّمه طریقة إذابة الحدید وصناعة القضبان الحدیدیة الدقیقة والمتینة؟ وبعبارة أخرى هل یمکن أن یکون لین الحدید فی یده معجزة إلهیة، أم أنّ الله علّمه الأسلوب الخاصّ لإذابة الحدیـد، والذی لم یکن معروفاً حینذاک؟ أیّـاً کان فقد علّـم الله داود کیفیة صناعة القضبان المناسبة واستبدالها بحلقات الدرع القویّة ونسجها، وکانت نتیجة ذلک هی صناعة ثوب یسهل ارتداؤه مع مرونة حرکته، طبقاً لحرکات بدن الإنسان وأعضائه، لا کصفحات الحدید القویّة التی یتعذر تطویعها والتی تقیّد المقاتلین فتجعلهم وکأنّهم فی قفص.

وهنا ملاحظة لابدّ وأن تؤخذ بنظر الإعتبار وهی أنّ داود (علیه السلام) حینما کان یلین الحدید بیدیه کان یرجّح صناعة المعدّات الدفاعیة على الهجومیة کالسیف مثلا.

على أیّة حال فمع أنّ عدم الإلمام بصناعة آلیة دفاعیة مهمّة ومصیریة، فی حروب ذلک الزمان لم یکن بتلک الأهمیّة، بحیث یحدث خللا فی دعوة النبی الدینیة، لکن الله علّمه هذه الصنعة وبقیت رائجة بین الناس.

2 ـ نقرأ فیما یتعلّق بسلیمان (علیه السلام): (وَقَالَ یَا أَیُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّیْرِ وَأُوتِینَا مِنْ کُلِّ شَىْء إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِینُ). (النمل / 16)

هذا فی الواقع جزء من العلم العظیم الذی وهبه الله لداود وسلیمان، والذی جاء فی الآیة السابقة: (وَلَقَدْ آتَیْنَا دَاوُدَ وَسُلَیْمانَ عِلْماً).

بـدیهی أنّ الإطّلاع علـى منطق الطیر (محاورات الطیور) بأی معنىً کان لیس من شروط النبوّة، وفی نفس الوقت فالقرآن یصرّح بأنّ الله تعـالى کان قد وهب سلیمـان (علیه السلام)علماً کهذا، بل أشار أیضاً فی آیتین لاحقتـین إلى معرفة سلیمان بمنطق النمل: (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ الَّنمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ یَا أَیُّهَا الَّنمْلُ ادْخُلُوا مَسَاکِنَکُمْ لاَ یَحْطِمَنَّکُمْ سُلَیْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ یَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِکاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْکُرَ نِعْمَتَکَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِکَ فِى عِبَادِکَ الصَّالِحِینَ). (النمل / 18 ـ 19)

وکما نقرأ حوار سلیمان مع الهدهد فی الآیات اللاحقة کذلک:(وَتَفَقَّدَ الطَّیْرَ فَقَالَ مَا لِىَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ ...). (النمل / 20 ـ 28)

مع أنّ هناک أبحاثاً کثیرة تبحث فی تفسیر هذه الآیات، أنّه هل لهذه الطیور کالهدهد والحشرات کالنمل ذلک المستوى من العقل والشعور، بحیث تدرک مفاهیم الکلمات والجمل وتتحدّث بشکل منطقی؟ وهل أنّ اسلوب محاوراتها یتمّ بالألفاظ أم من خلال حرکات تعکس المراد؟ (ذکرنا ذلک مفصّلا فی التفسیر الأمثل)(2).

لکن تفسیر هذه الآیات أیّاً کان فلن یؤثّر على الهدف الذی نبغیه هنا، لأنّ المراد هو وجود سلسلة من المعلومات التی تخرق العادة عند الأنبیاء، وعدم وجودها عند الناس العادیین، مع عدم کونها من شروط النبوّة فی نفس الوقت.

3 ـ وحول یوسف (علیه السلام) جاء فی العدید من الآیات أنّ له علماً خارقاً للعادة فی تفسیر الأحلام.

ففی أحد المواضع یبشّره أبوه یعقوب(علیه السلام) بأنّ الله سیختارک ویعلّمک من تفسیر الأحلام: (وَکَذَلِکَ یَجْتَبِیکَ رَبُّکَ وَیُعَلِّمُکَ مِنْ تَأْوِیلِ الاَْحَادِیثِ). (یوسف / 6)

وفی موضع آخر حینما یدور الحدیث حول مجیء یوسف (علیه السلام) إلى قصر عزیز مصر یقول القرآن الکریم: (وَکَذَلِکَ مَکَّنَّا لِیُوسُفَ فِى الاَْرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِیلِ الاَْحَادِیثِ). (یوسف / 21)

ویتحدّث فی موضع آخر عن تفسیر یوسف (علیه السلام) لرؤیا السجینین، وقوله لهما: (ذَلِکُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى). (یوسف / 37)

وأخیراً حینما یدور الحدیث عن ابتهال یوسف (علیه السلام) ومناجاته لخالقه بعد تصدّیه لمقام الحکومة، ولقائه بأبیه واُمّه واُخوته، یقول القرآن الکریم على لسان یوسف (علیه السلام): (رَبِّ قَـدْ آتَیْتَنِـى مِنَ الْمُـلْکِ وَعَلَّمْتَنِـى مِنْ تَأْوِیـلِ الاَْحَـادِیثِ). (یوسف / 101)

مع أنّ البعض من المفسّرین قد ذکروا احتمالا آخر غیر تفسیر الأحلام فیما یتعلّق بعبارة (تَأْوِیلِ الاَْحَادِیثِ) وقالوا: إنّ المراد هو تعلیمه أسرار الکتب الإلهیّة ودقائق سنن الأنبیاء(علیهم السلام)(3)، لکن ومع الأخذ بنظر الإعتبار مجموع الآیات الأربع أعلاه ولفظة «التأویل» التی تتلاءم کثیراً مع تفسیر الأحلام، بالإضافة إلى قرائن اخرى یکون المراد هو نفس علم تفسیر الأحلام وهو مختار الکثیر من المفسّرین أیض(4).

ومـع أنّ علم تفسیر الأحلام لم یحض بتلک الأهمیّة عند البعض، لکنّه یعدّ من الحقـائق، وذلک للشـواهد والقرائن العینیـة الکثیرة التی تحفّ بهذا الموضوع، کما أنّ بإمکانه کشف اللثام عن بعض الغوامض لمـن له إلمـام به. وقد تناولنـا هذا الموضـوع بالشرح والتفصیل فی التفسـیر الأمثل ذیل الآیة السادسة سورة یوسف (علیه السلام).

کمـا أنّ القرآن قد أیّد صحّة ذلک أیضاً وذکر لذلک مثالا عجیبـاً، وبیّن أنّ مستقبل بلاد کبیرة کمصر قد تغیّر عن طریق تفسیر یوسف (علیه السلام) للرؤیا بصورة دقیقة، کما أنّ نفس هذا التغیّر قد ترک أثره فی مستقبل یوسف (علیه السلام) أیضاً وأوصله إلى أرفع المناصب الحکومیة فی مصر.

و لا شکّ أنّ علم تفسیر الأحلام بنظر المنطق العقلی لیس بذلک الشیء الذی ترتکز علیه اُسس الرسالة، لکن مع ذلک فقد وهب الله قسطاً وافراً منه لیوسف (علیه السلام).

4 ـ وحول موسى (علیه السلام) أیضاً یشاهد هذا المعنى بوضوح فی القرآن، حیث أن قصّة «الخضر» و «موسى» وبذلک التفصیل الرائع والبلیغ، الذی جاء فی سورة الکهف (وان لم یصرّح القرآن باسم الخضر) تبیّن وجود علوم لدى الخضر کانت غائبة عن ذهن موسى، وأنّه جاء إلى «الخضر» لیتعلّم قسماً منها.

هذه العلوم لیست اُموراً مرتبطة بالشریعة وأصول الدین وفروعه، بل هی حقائق مرتبطة بتکوین الإنسان وحیاته، مثل تلک السفینة التی کانت لفریق من المستضعفین، والتی خرقها الخضر لیحول دون غصبها من قبل الملک الظالم، أو الشاب الذی قتله الخضر لأنّه سوف یکون سبباً فی انحراف أبویه المؤمنین مستقبلا، أو الجدار الذی کاد ینقضّ حیث قام الخضر بترمیمه حفاظاً على کنز الأیتام الموجود تحته.

فـالخضر کان یسعى دائماً بأسلوبه الخاصّ لمساعدة المظلومین والمؤمنین، فی حین کان تصرّفه هذا بنظر موسى خاطئاً وغیر مطابق للموازین الشرعیة، وذلک بسبب عدم اطلاعه على بعض الحقائق التی کانت محجوبة عنه، ولـذا کان یـغضب کثیراً حتّى أنّه نسی أکثر من مرّة عهده الذی أعطاه للخضر، بعدم الإعتراض على ما یفعله قبل بیانها واعترض علیه بشدّة، ثمّ اعتذر منه بعد التفاته إلى ذلک.

هذه القصّة بکلّ نکاتها اللطیفة تؤکّد على حقیقة أنّ موسى(علیه السلام) کان بصدد تعلّم مثل هذه العلوم من الخضر(علیه السلام) بأمر من الله، فی حین أنّ هذه العلوم لم یکن لها دخل فی مسألة إبلاغ النبوّة، بل تعتبر سبباً فی تکاملها لأنّها تعنی التعمّق فی المسائل بشکل أکبر.

ولو اعتبرنا الخضر نبیّاً (نظراً لوجود الخلاف بین المفسّرین والمحدّثین حول نبوّته) فسنصل إلى هذه النتیجة أیضاً وهی أنّ هناک علوماً لدى الخضر وراء علوم الشریعة، وبدیهی أنّ اطّلاع الأنبیاء(علیهم السلام) على هذه الحقائق یعنی أنّ الله تعالى قد جهّزهم بعلوم کثیرة، لتکون لهم قدرة أکبر على هدایة الخلق ورسم الطریق لنیل المطلوب، وإن کانت هذه العلوم بعیدة کلّ البعد عن الشروط القطعیة للنبوّة.


1. تفسیر روح المعانی، ج 11، ص 21; و تفسیر فی ظلال القرآن، ج 5، ص 552.
2. راجع التفسیر الأمثل، ذیل الآیات مورد البحث.
3. تفسیر روح المعانی ج 12، ص 186، نقـل هذا التفسـیر عن البعض مـن المفسّرین کما أنّ المفسّر الکبیر الطبرسی ذکر ذلک کأحد الأقـوال فی ج 5، ص 210، ذیـل الآیة السادسة من سورة یوسف.
4. تفسیر مجمع البیان ذیل الآیة101; وتفسیر روح المعانی ذیل الآیة21; وتفسیر القرطبی ذیل الآیة 6; وتفسیر روح البیان ذیل الآیة 6; وأخیراً تفسیر فی ظلال القرآن ذیل الآیة 101 من سورة یوسف.

 

مصادر علم الأنبیاء (علیهم السلام) 1 ـ حدود علم الأنبیاء (علیهم السلام)
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma