وحدة المسیر لدى الأنبیاء جمیعاً:

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات القرآن (الجزء السابع)
ثمرة البحث:تمهید:

1 ـ الکلام فی أوّل آیة هو عن الأمر الذی أصدره الله إلى المسلمین کافةً بالقول لمخالفیهم: إنّنا آمنا بالله وما أنزل إلینا وما اُنزل إلى الأنبیاء السابقین، کإبراهیم وإسماعیل وإسحاق ویعقوب وموسى وعیسى (لاَ نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَد مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) وورد نفس هذا المضمون فی آیتین اُخریین من القرآن الکریم: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَیْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ کُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِکَتِهِ وَکُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَیْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَکَ رَبَّنَا وَإِلَیْکَ الْمَصِیرُ). (البقرة / 285)

وقوله تعالى:(وَالَّذِینَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ یُفَرِّقُوا بَیْنَ أَحَد مِنْهُمْ أُوْلَئِکَ سَوْفَ یُؤْتِیهِمْ أُجُورَهُمْ وَکَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِیماً). (النساء / 152)

وبهذا فهی تؤکّد على أنّ المؤمنین الحقیقیین هم الذین لا یفرّقون بین الأنبیاء الإلهیین، ویؤمنون بکلّ تعالیمهم، وهذا خیر دلیل على اتّحاد الاُصول العامّة لتعالیمهم.

ولِمَ لا یکونون کذلک وقد بعثوا کلّهم من قبل الله، وتساوت أدوارهم، کما أنّ اُصول المعارف الإلهیّة وسعادة البشریة واحدة فی کلّ مکان، إذ لیست بذلک الشیء الذی یتغیّر بتغیّر جزئیاته على مرّ الأیّام.

بالضبط کحاجة الإنسان إلى الطعام والملبس والمسکن والصحّة والنظافة والتربیة والتعلیم، إذ إنّ اُصول هذه الاُمور ثابتة لا تقبل التغییر، فی حین أنّ جزئیاتها هی فی تحوّل وتغیّر، أی، إنّ فی حالة تکامل بعبارة اُخرى.

لابدّ من القول: إنّ هذه الآیة وطبقاً لسبب نزولها کانت ردّاً على الیهود والنصارى، حیث کان ینفی أحدهما الآخر ویعتبر نبیّه هو الأفضل وکتابه هو الأقدس (مع إهمالهم للآخرین)، فجاء دور المسلمین للتعبیر بصراحة باستحالة التفریق بین أنبیاء الله.

على أیّة حال فهذا یعدّ توضیحاً مجملا لوحدة الاُصول العامّة لدعوة الأنبیاء، والآن نعود إلى بقیّة الآیات التی تؤکّد على کلّ واحد من هذه الاُصول.

2 ـ مسألة الوحی هی واحدة من هذه الاُصول والتی عرضت فی ثانی آیة من الآیـات مورد البحث، یقـول تعـالى: (إِنَّـا أَوْحَیْنَـا إِلَیْـکَ کَمَا أَوْحَیْنَـا إِلَى نُوح وَالنَّبِیِّینَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَیْنَا إِلَى إِبْرَاهِیمَ وَإِسْمَاعِیلَ وَإِسْحَاقَ وَیَعْقُوبَ وَالاَْسْبَـاطِ ( أنبیاء بنی إسرائیل ) وَعِیسَى وَأَیُّـوبَ وَیُـونُسَ وَهَـارُونَ وَسُلَیْمانَ وَآتَیْنَا دَاوُدَ زَبُوراً * رُسُلا مُبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ لِئَلاّ یَکُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

وعلى هذا فالکلّ یشیر إلى الوحی والإرتباط بعالم الغیب، والکلّ یخطو فی مسیرة إبلاغ الدعوة الإلهیّة وإتمام الحجّة على الناس، لم یقل أحد منهم شیئاً من عنده، والهدف النهائی للکلّ واحد.

3 ـ أصل التوحید ونفی الشرک هو أحد أهمّ اُصول دعوة الأنبیاء، وبشهادة آیات مختلفة من القرآن، فالتوحید هو کلامهم الأوّل حین بعثتهم، التوحید فی کافّة الأبعاد خصوصاً فی العبادة.

و الآیة الثالثة من البحث تدور حول هذا الموضوع باعتباره أصلا عاماً فی دعوة الأنبیاء، یقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِکَ مِنْ رَّسُول إِلاَّ نُوحِى إِلَیْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ).

وورد هـذا المعنى بتـأکید أکبر فی قوله تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَـا فِى کُلِّ أُمَّة رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ). (النحل/36)

وعلى هذا فمقاومة الطواغیت وتخصیص العبادة لله کانا یتصدّران قائمة تعالیم کلّ الأنبیاء، باعتبار کون الإنسان أسیراً ما دام فی عبادة الطاغوت، وحرّاً حیث ما یعبد الله وحده، الله الذی هو مصدر کلّ القیم السامیة وصاحب الأسماء والصفات الحسنى.

الملفت للنظر هو أنّ (الطّاغُوتَ) صیغة مبالغة للطغیان الذی یعنی التعدّی وتجاوز الحدّ، ومن هنا تطلق لفظة الطاغوت على الشیطان والوثن والحاکم الجبّار والمتکبّر والمستکبر، وکلّ طریق ینتهی إلى غیر الحقّ، هذه المفردة وعلى حدّ قول الراغب فی المفردات التی تستعمل فی المفرد والجمع کلیهما (کما وتجمع فی نفس الوقت على صیغة «طواغیت». وفسّر لسان العرب لفظة الـ «طاغوت» بمعنى الشیطان وأئمّة الضلال والإنحراف(1).

على أیّة حال فإحدى علامات الأنبیاء الحقیقیین هی الدعوة للتوحید، واجتناب کلّ الطواغیت، فی حین أنّ المدعین کذباً یدعون الناس للشرک وعبادة الأوثان، بل وحتّى إلى عبادتهم أحیاناً کفرعون، هذا النحو من النظرة السلبیة للطاغوت ـ کما قیل فی محلّه ـ له أثره فی کافّة شؤون الإنسان، خاصّة فی فکّ یدیه ورجلیه من قیود الرقّ والعبودیة ودعوته للإتّحاد والعزّة والتحرّر.

4 ـ التـأکید على نظـام الکون للتعرّف من خـلاله على الله هـو أحد الاُصـول العامّة لدعوة هؤلاء الرجال الإلهیین، کما نقرأ فی الآیة الرابعة من آیات بحثنا: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللهِ شَکٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ (مع کلّ هذه العظمة والنظام فی الکون والأسرار الکامنة) یَدْعُوکُمْ لِیَغْفِرَ لَکُمْ مِنْ ذُنُوبِکُمْ وَیُؤَخِّرَکُمْ إِلَى أَجَل مُسَمّىً)(لتطووا طریق معرفة الله وتبلغوا الکمال اللازم).

أی هل یبقى هناک مجال للشکّ فی وجود الله مع الأخذ بنظر الاعتبار کلّ أسرار خلق السماوات والأرض، وأنواع الابداعات التی تحتویها والأسرار التی یتمّ کشفها یوماً بعد آخر نتیجة تطوّر العلوم والمعارف؟

صحیح أنّ معرفة الإنسان بأسرار خلق السماوات والأرض کانت فی قدیم الزمان بسیطة، لکن نفس ذلک النظام البسیط الحاصل للإنسان بدقّة متواضعة یکفی لإثبات وجود الخالق، أمّا الیوم حیث تمّ فلق الخلیّة وانشطار الذرّة والجزیء، والوقوف على الکثیر من أسرارها فالتأمّل فی إحدى الذرّات کاف لیبعث نور معرفة الله فی القلوب، ویتحقّق هذا فی البیت الشعری المعروف باللغة الفارسیة والذی مضمونه:

قلب کلّ ذرّة حین فتحه *** تجد نوره یشعّ فیه

وقریب من هذا المعنى نجده فی البیت الشعری المعروف والمنسوب للإمام علی(علیه السلام):

أتزعم أنّک جرم صغیر *** وفیک انطوى العالم الأکبر

5 ـ التأکید على مسألة المعاد باعتباره أصل آخر من اُصول دعوتهم کما یقول تعالى فی الآیة الخامسة من آیات بحثنا: (یَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالاِْنسِ أَلَمْ یَأْتِکُمْ رُسُلٌ مِّنْکُمْ یَقُصُّونَ عَلَیْکُمْ آیَاتِى وَیُنذِرُونَکُمْ لِقَاءَ یَوْمِکُمْ هَذَا).

هـذا الکلام سواء کان صادراً من الله أم الملائکة فلا فرق فی ذلک، إذ المهـمّ أنّه یعکس قیام کلّ الأنبیاء والمرسلین بتحذیر الناس من هول یوم القیامة واشتراکهم فی هذا الأصل الأساسی.

وهل یاترى أرسل إلیهم رسُلاً من «الجنّ» (کما یبدو من کلمة «منکم») أم أنّ کلّ الرسل الإلهیین کانوا من الإنس؟ هناک نقاش بین المفسّرین، وإن ذهب معظمهم إلى الاحتمال الثانی باعتبار أنّ ما جاء فی الآیة السابقة إنّما هو من باب التغلیب اصطلاحاً، ومع ذلک لا مانع من قیام الأنبیاء والرسل الإلهیین بتکلیف رسل ووکلاء لهم من جنسهم لدعوتهم کما یستفاد ذلک من قوله تعالى:

(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَیْکَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ یَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِینَ). (الأحقاف / 29)

6 ـ الدعوة للتقوى: وهی أیضاً من الاُصول العامّة لدعوتهم(علیهم السلام)، وذلک لاستحالة ضمان الهدف النهائی من خلق البشر ونظام حیاته الفردیة والاجتماعیة بدونها، نقرأ فی سادس آیة من البحث: (وَلَقَدْ وَصَّیْنَا الَّذِینَ أُوتُوا الْکِتَابَ مِنْ قَبْلِکُمْ وَإِیَّاکُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ).

وهذا التعبیر إلى حدّ یشمل کلّ الکتب السماویة السابقة، وبناءً على هذا فالوصیّة بالتقوى، أی، حفظ النفس وتجنّب الذنوب وعدم الخروج عن طاعة الله، کـان ولا یـزال من الاُصـول المشترکة للأدیان السماویة.

کـما نعلم أنّ للتقوى فروعـاً کثیرة، التقـوى فی العمل والحـدیث والتفکّر والنیّة والعزم، کما أنّ للتقوى العملیة فروعاً متعدّدة أیضاً، التقوى الأخلاقیة والاجتمـاعیة والسیاسیة، والخلاصة هی أنّ للتقـوى مفهوماً واسعاً یقابل کلّ إهمال وتسیّب فی کافّة الاُمور، ولذا جاء فی تفسیر القرطبی عن بعض الفضلاء العرفاء أنّ هذه الآیة هی بمثابة القطب من الرحى وأنّ کلّ الآیات القرآنیة تدور حوله(2).

7 ـ الدعوة إلى العدالة الاجتماعیة هی أصل آخر من هذه الاُصول الأساسیة، وقد وردت بصراحة فی الآیة السابعة، یقول تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَیِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْکِتَابَ وَالْمِیزَانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).

ولِمَ لمْ یکن کذلک حین یستحیل على المجتمع البشری بلوغ أهدافه النهائیة أی التکامل المعنوی مع غیاب إقامة القسط والعدالة الاجتماعیة؟

الملفت للنظر هو قوله: إنّ الهدف من إرسال الرسل والبیّنات والکتاب والمیزان هو قیام الناس بالقسط والعدل مباشرة مع تنفیذه، لا أن یفرض علیهم ذلک فرضاً، أجل فضمان هذا الهدف مرهون ببلوغ المجتمع البشری مرحلة إقامة القسط والعدل وتنفیذه بذاته.

وحول المراد من «البیّنات والکتاب والمیزان» هناک أبحاث کثیرة للمفسّرین، أقواها کما یبدو أنّ «للبیّنات» معنىً واسعاً شاملا لکلّ المعجزات وأنواع الأدلّة العقلیة التی تقام لإثبات النبوّة، و «الکتاب» إشارة إلى مجموع تعالیمهم، وامّا «المیزان» فیعنی معاییر قیاس الحقّ من الباطل، أو القوانین والمقرّرات التی یصل بها الحقّ إلى أهله.

وهـذه کلّها وسائل لبلوغ العدالة الاجتماعیة وإقامة القسط والتی تکون بدورها مقدّمة لتوفیر الأرضیة المناسبة لتربیة الإنسان وتعلیمه وتکامله(3).

8 ـ أهمیّة «الإیمان» و «العمل الصالح» کقیم أساسیة لإنقاذ البشریة هی أیضاً من الاُصول المشترکة لتعالیم الأنبیاء، نقرأ فی ثامن آیة من البحث:

(إِنَّ الَّذِینَ آمَنُوا وَالَّذِینَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِینَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْیَوْمِ الاْخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلاَ هُمْ یَحْزَنُونَ).

جاء فی أحد التفاسیر المعروفة: إنّ أهل النجاة هم المسلمون الذین آمنوا بنبی الإسلام(صلى الله علیه وآله)، وثبتوا على إیمانهم وعملوا صالحاً وکذا الذین عاشوا قبل ظهور نبی الإسلام(صلى الله علیه وآله) وآمنوا بالأدیان السماویة وعملوا صالحاً.

طبقاً لهذا التفسیر فـ «الإیمان» و «العمل الصالح» کانا کأصلین عامّین فی برامج کلّ الأدیان الإلهیّة لغرض نجاة الإنسان.

وهناک طبعاً تفاسیر اُخرى لهذه الآیة بإمکانک الإطّلاع علیها بالرجوع إلى التفسیر الأمثل ذیل الآیة 62 من سورة البقرة.

9 ـ القضاء على «السنن الخاطئة» التی تتسبّب فی انحراف المجتمعات البشریة وتأخّرها یعدّ أیضاً من الاُصول العامّة لدعوة الأنبیاء.

فی تاسع آیة من البحث وضمن الإشارة إلى مسألة زواج النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) من مطلّقة إبنه بالتبنّی والتی نزلت لازالة إحدى العادات الجاهلیة (حیث کانوا یعتبرون الإبن بالتبنّی کالإبن الحقیقی) یقول تعالى: (مَا کَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَج فِیَما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِینَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَکَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً).

حول ماهیّة هذه السنّة التی کانت جاریة فی الأقوام السابقة والتی عطف الله علیها مسؤولیة النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله)، قال فریق من المفسّرین: المراد بها هو السنّة الإلهیّة فی رفع الموانع من الاستفادة من اللذائذ المحلّلة، أو سُنّة تعدّد الزوجات التی کانت جاریة فی الاُمم السابقة أیض(4).

فی حین أنّ هناک أدلّة واضحة فی الآیات التی تحفّ بهذه الآیة تشهد على أنّ هذه السنّة کانت ترتبط بإبلاغ رسالة إلهیة لا تیسیر اللذائذ المحلّلة، کما نقرأ فی الآیة التی بعدها: (الَّذِینَ (الأنبیاء السابقون) یُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَیَخْشَوْنَهُ وَلاَ یَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ).

لکن أنسبها کما یبدو هو أنّ هذه الرسالة الإلهیّة لیست سوى «القضاء على السنن الخاطئة» فحسب.

کما نقرأ فی الآیات التی قبلها: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)کما یصرّح بعد هذه الآیة: (لِکَىْ لاَ یَکُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ حَرَجٌ فِى أَزْوَاجِ أَدْعِیَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً).(الأحزاب / 37)

هذه القرائن بمجموعها تشهد بوضوح على أنّ المراد من هذه السنّة الخالدة للأنبیاء السابقین هو إزالة السنن الخاطئة والخرافیة تلک.

ولِمَ لا؟! وأحد أهداف بعثة الأنبیاء هو تخلیص الناس من مخالب مثل هذه السنن الباطلة، لتحلّ محلّها السنن الإلهیّة.

10 ـ مقاومة المنافقین بشدّة وعدم الرضوخ لهم هی إحدى الاُصول الاُخرى لتعالیم الأنبیاء الثابتة، کما جاء فی نفس هذه الآیة وبعد الإشارة إلى أعمال المنافقین القبیحة المتعمَّدة فی المجتمع الإسلامی، والتهدید بأنّ هؤلاء المنافقین الکذّابین، والذین فی قلوبهم مرضٌ والذین یشیعون الأباطیل لو لم ینتهوا عن غیّهم ویرجعوا عن مواصلة أعمالهم العدوانیة، لجعلناک تثور علیهم وتطردهم من کلّ مکان وتمزّقهم شرّ ممزّق: (سُنَّةَ اللهِ فِى الَّذِینَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِیلا). (الأحزاب / 62)

صرّح معظم المفسّرین بأنّ المراد من هذه السنّة هی نفس مجاهدة المنافقین والأفراد المضرّین الذین لا ینتهون عن أعمالهم الشنیعة فی المجتمعات البشریة وعن عدائهم للأنبیاء والمؤمنین(5).

11 ـ اُصول العبادات والأعمال الحسنة: کانت أیضاً من ضمن التعالیم المشترکة لهؤلاء القادة الحقیقیین کما یقول تعالى فی الآیة الحادیة عشرة من البحث، وضمن الإشارة إلى فریق من الأنبیاء العظام: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَیْنَا إِلَیْهِمْ فِعْلَ الْخَیْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِیتَاءَ الزَّکَاةِ).

إشارة إلى أنّه وفضلا عن مقام النبوّة والرسالة اللذین یتطلّبان استلام الوحی وإبلاغه للناس، کانت الإمامة أی القیادة الشاملة لکل الابعاد الجسمانیة والروحانیة، الظاهریة والباطنیة للناس ضمن مسؤولیتهم، وکان دورهم فی هذه المرحلة هو «الهدایة بأمر الله» أی الإیصال إلى المطلوب وبلوغ المراد، وضمن هذه المرحلة أوحى الله إلیهم فعل الخیرات والعبادات.

و مع أنّ إقامة الصلاة وإیتاء الزکاة تعدّان من الخیرات والأفعال الحسنة، فقد تمّ التأکید علیهما بالخصوص نظراً لأهمیّتهما.

حول المراد من «الوحی» هنا فی جملة (أَوْحَیْنَا إِلَیْهِمْ فِعْلَ الْخَیْرَاتِ)، فقد اعتبره أکثر المفسّرین بمعنى «الوحی التشریعی»، أی إنَّ أنواع الأعمال الحسنة وضعناها ضمن برامجهم الدینیة(6)، لکن البعض الآخر فسّره بمعنى «الوحی التکوینی» أی انّنا منحناهم التوفیق لأداء هذه الأعمال بلهفة وأیّدناهم بروح القدس لیؤدّوها على أتمّ وجه.

12 ـ حکومة الصالحین: وبشکل عامّ فقد کانت حکومة «العدل الإلهی» مندرجة أیضاً ضمن برامج الأنبیاء، سواء وفّقوا فی إقامتها أم أعاقتهم ظروفهم وأوضاعهم الخاصّة عن ذلک.

فی الآیة الثانیة عشرة من البحث إشارة لطیفة إلى هذا المعنى، یقول تعالى: (وَلَقَدْ کَتَبْنا فِى الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّکْرِ (التوراة) اَنَّ الاَرْضَ یَرِثُها عِبادِىَ الصّالِحُونَ).

المرحوم الطبرسی فی مجمع البیان ذکر ثلاثة أقوال فی تفسیر «الزبور» و «الذکر»:

1 ـ «الزبور» یعنی کلّ کتب الأنبیاء و «الذکر» یعنی اللوح المحفوظ، أی أنّ هذا الحکم جاء أوّلا فی اللوح المحفوظ ثمّ فی کلّ کتب الأنبیاء.

2 ـ «الزبور» یعنی الکتب النازلة بعد التوراة و «الذکر» إشارة إلى التوراة.

3ـ «الزبور» یعنی زبور داود و «الذکر» یعنی التوراة(7).

على أیّة حال فالآیة تبیّن أنّ هذا کان حکماً عامّاً وسنّة إلهیّة دائمة، تقوم بتوجیه تعالیم الأنبیاء نحو تأسیس حکومة الصالحین والطاهرین فی الکرة الأرضیة، وقد وفّق البعض منهم أحیاناً فی تشکیل نموذج لها، وطبقاً للروایات المتواترة فسیتجسّد مصداقها الکامل عند ظهور المهدی (أرواحنا فداه).

ومن البداهة أیضاً أنّ ضمان أهداف أدیان الأنبیاء الإلهیین مرهون بتشکیل مثل هذه الحکومة، إذ أثبتت التجارب أنّ الأحکام الإلهیّة لا یمکن تطبیقها بالکامل عن طریق الوصایا والنصائح والحِکَم فقط، بل لابدّ من استثمار کلّ طاقات الحکومة وفی کافّة الأبعاد، مع وضع الإنسان منذ لحظة ولادته وإلى وفاته تحت إشراف التعالیم السماویة.

التعبیر بـ «عبادی الصالحون» تعبیر جامع وبلیغ جدّاً، شامل لکلّ المؤهلات من حیث «الإیمان» و «العلم» و «التقوى» و «الإدارة والتدبیر»، أجل، فمثل هؤلاء الأشخاص یمکنهم أن یکونوا وارثی حکومة السماء فی الأرض.

13 ـ الدعوة إلى الوحدة: الاختلاف أکبر عامل لفساد المجتمع وضیاع الطاقات المادیّة والمعنویة لکلّ قوم وشعب، ومن هنا فأحد الأهداف الرئیسیّة للأنبیاء وبرامجهم العامّة هو محاربة الاختلافات، کما نقرأ فی الآیة الثالثة عشرة من البحث حیث یقول تعالى:

(کَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً (ثمّ ظهر الاختلاف فیما بینهم) فَبَعَثَ اللهُ النَّبِیِّینَ مُبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْکِتَابَ بِالْحَقِّ لِیَحْکُمَ بَیْنَ النَّاسِ فِیَما اخْتَلَفُوا فِیهِ)(و لیقضوا على تلک الخلافات).

ومع هذا فقـد أشعل فریق نار الفتنة وشقّ الکلمـة، بل اختلفوا حتّى فی الحقائق النازلة فی الکتب السماویة: (وَمَا اخْتَلَفَ فِیهِ إِلاَّ الَّذِینَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَیِّنَاتُ بَغْیاً بَیْنَهُمْ).

لکن: (فَهَدَى اللهُ الَّذِینَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِیهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ یَهْدِى مَنْ یَشَاءُ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِیم).

وبناءً على هذا فقد ظهر هنالک نوعان من الاختلاف بین الاُمم، الاختلاف الأوّل قبل ظهور الأنبیاء والناشیء من اختلاط العلوم البشریة بأنواع الأخطاء والجهل والإشتباه فی تشخیص الحقائق، ففرّق الأنبیاء بین الحقّ والباطل ووضعوا نهایة لتلک الخلافات مدعومین بالوحی.

الاختلاف الذی کان بعد ظهور الأنبیاء، والناشیء من البغی والظلم والحسد وعبادة النفس، حیث قام فریق بتفسیر ثمرة تعالیم الأنبیاء طبقاً لمیولهم ومصالحهم وحرّفوا الحقائق وفقاً لأهوائهم، فلم ینج من عاقبة هذه الاختلافات سوى المؤمنین الحقیقیین نظراً لعدم إمکان إزالة هذه الاختلافات إلاّ فی ظلّ الإیمان والتقوى.

ومن هنا یتّضح الجواب عن سؤال یثار حول هذه الآیة وهو أنّه: لو کان مجیء الأنبیاء هو من أجل حلّ الخلافات العقائدیة والفکریة والاجتماعیة، فلماذا واصلت هذه الاختلافات مسیرها بعدهم أیضاً؟

الآیة المذکورة تقول بوجود التفاوت بین هذین الاختلافین، فالأوّل نابع من الجهل والغفلة وعدم الإطّلاع وقد زال ببعثة الأنبیاء، امّا الآخر فقد کان متضمّناً لدوافع کالبغی والظلم والعناد والغرور حتّى دفع بالبعض إلى مواصلة طریق الفرقة عن قصد، حتّى بعد أن تبیّن لهم الحقّ، وفی الواقع فقد کان الاختلاف الأوّل نابعاً من قصور الناس والثانی من تقصیرهم.

علـى أیّة حال یستفـاد من الآیـة الآنفة الذکر أنّ الدعوة إلى الوحدة ومحاربة الاختلاف وفی أبعاد ومجالات مختلفة کانت من بین الاُصول العامّة لمسؤولیة الأنبیاء.

14 ـ الدعوة إلى الإصلاح والنهی عن الفساد: تعدّ أیضاً من البرامج الرئیسیّة لدعوة الأنبیاء، وبعبارة اُخرى فالأدیان الإلهیّة وبالإضافة إلى المسائل الشخصیة، کانت ترقب عن کثب وضع المجتمع أیضاً وتدعو الکلّ للمشارکة فی إصلاحه ومحاربة الفساد.

ولذا تُشَمٌّ من الآیة «الرابعة عشرة» من بحثنا حالة من الإعتراض العامّ على الأقوام السابقة التی ابتلیت بالعذاب الإلهی، حیث یقول تعالى: (فَلَوْلاَ کَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِکُمْ أُوْلُوا بَقِیَّة یَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِى الاَْرْضِ (لم یکن العلماء فی الاُمم التی قبلکم متصدّین للحکم ولذا شاع بینها الفساد واستحقّت عذابنا) إِلاَّ قَلِیلا مِمَّنْ أَنْجَیْنَا مِنْهُمْ).

«اُولوا بقیّة» أی «أصحاب إرث وثبات»، وحیث إنّ الإنسان یدّخر عادة الأشیاء النفیسة ویحتفظ بها، فقد ورد هذا التعبیر بحقّ اُولئک الذین یمتلکون ثروة نفیسة أی أصحاب العلم والشخصیة والقدرة والنفوذ، ومثل هؤلاء هم الذین یتمکّنون من الوقوف بوجه الفساد ویساعدون على بقاء الاُمم.

على أیّة حال یتبیّن من هذا التعبیر أنّ التکلیف بالأمر بالمعروف، ومحاربة الفساد خصوصاً على مستوى العلماء وأصحاب القدرة والنفوذ، کان موجوداً فی کلّ الأدیان الإلهیّة، وأنّ الکثیر من الاُمم قد استحقّ العقاب الإلهی نتیجة الانحراف عن هذه المهمّة.

15 ـ التسلیم لأمر الحقّ تعالى: الأصل الآخر الموجود فی کلّ الأدیان، والحاکم علیها هو أصل التسلیم المطلق لأمر الله، لذا نقرأ فی آخر آیة من البحث: (إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ اللهِ الاِْسْلاَمُ).

أجل فروح وجوهر کلّ الأدیان تعبر عن الحق وعن أمر الخالق وتمثل القوانین الإلهیّة وجمیع الحقائق، ونظراً لکون دین نبی الإسلام (صلى الله علیه وآله) من أفضل الأدیان الإلهیّة فقد اختیر له اسم الإسلام وإلاّ فبالإمکان إطلاقه على کلّ الأدیان السماویة.

وبناءً على هذا فالآیة لا تعنی أنّ دین نبیّنا هو الإسلام (وان کان هذا هو الواقع)، بل المراد أنّ الإسلام کان الدین الحقیقی فی کلّ العصور، لأنّ التسلیم أمام العقیدة الواقعیة فی مقام العمل بالأحکام الإلهیّة کان موجوداً فی کلّ الأدیان الإلهیّة، وبناءً على هذا فالأدیان الإلهیّة وإن کانت قد بدأت بأبسط أشکالها إلى أن انتهت بأکملها إلى دین محمّد (صلى الله علیه وآله)، لکن روحها کلّها واحدة ألا وهی التسلیم المطلق المشار إلیه أعلاه، ولا تباین أبداً بینها من هذه الناحیة.

کما یقول تعالى فی مکان آخر: (وَمَنْ یَبْتَغِ غَیْرَ الاِْسْلاَمِ (والتسلیم لأمر الله) دِیناً فَلَنْ یُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِینَ). (آل عمران / 85)


1. العجیب هو أنّ المرحوم العلاّمة الطباطبائی فی تفسیر المیزان، ج 12، ص 242، قد اعتبر هذه اللفظة مصدراً، مع أنّها تستعمل بالمعنى الوصفی فی کلّ المواضع، خصوصاً الموارد الثمانیة الواردة فی القرآن إذ إنّها أفادت المعنى الوصفی على الأعمّ الأغلب.
2. تفسیر القرطبی، ج 3، ص 1978.
3. لمزید من الإطّلاع حول هذا الموضوع راجع التفسیر الأمثل ذیل الآیة مورد البحث.
4. تفسیر مجمع البیان، ج 7، ص 361; تفسیر الکبیر، ج 25، ص 13; تفسیر القرطبی، ج 8، ص 5277; وتفسیر روح المعانی، ج 22، ص 25.
5. راجع تفاسیر مجمع البیان; والمراغی; والکبیر; والقرطبی; وروح البیان، ذیل الآیات مورد البحث.
6. طبقاً لهذا التفسیر فللآیة محذوف تقدیره: وأوحینا إلیهم الأمر بفعل الخیرات.
7. تفسیر مجمع البیان، ج 7، ص 66، ووردت نفس هذه المعانی الثلاثة فی تفسیر القرطبی.

 

 

ثمرة البحث:تمهید:
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma