خامس : ضمانات تنفیذ القوانین القرآنیة

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات القرآن (الجزء الثامن)
سادس : إحیاء القیم الروحیةثالث : احترام حقوق الإنسان

إنّ وجود القوانین الدولیة لا یمثل سوى حبر على ورق، وغایة ماتقوم به من تأثیر ذاتی أنّها تنقل النصیحة والموعظة لکن بدون الاستناد إلى أی دلیل، وبعبارة اُخرى فإنّ القوانین بحد ذاتها لاتنطوی إلاّ على بعد ذهنی وفکری ، وحتى تکتسب قیمة اجتماعیة تحتاج إلى أن تستند إلى قاعدة معینة تلزم أفراد المجتمع باتباعها والانصیاع لها، وهذه القاعدة هی التی یطلقون علیها عنوان «الضامن التنفیذی» أو «الضمانة التنفیذیة» .

یتضح جیداً من هذه المقدّمة أنّ قیمة القانون وصلاحیته متوقفة على مدى قوّة الضمانات لتنفیذ هذه القوانین وقدرته ، فمتى ما کانت الضمانة الإجرائیة لأحد القوانین أقوى وأدق کانت قیمتُهُ الاجتماعیة أعلى وأکثر .

إنّ الکثیر من الضمانات التنفیذیة للقوانین تنطوی على آثار سیئة للغایة ، وتخلق مشاکل ومساویء على صعید المجتمع ; وتؤدّی أحیاناً إلى الاصطدام وانعدام الثقة ، وسوء الظن بین الأفراد ، أو أنّها تعکس القانون بشکل صارم ورهیب وهذه بحد ذاتها تعتبر خسارة کبرى .

ولو کانت الضمانة التنفیذیة تستند إلى مجموعة من المبانی الثقافیة والأخلاقیة والعاطفیة ، لما اشتملت على أیٍّ من هذه المساویء .

إنّ العالم المعاصر ومن أجل تطبیق القوانین الوضعیة یمر فی دوامة قاتلة .

وهذه الدوامة ناشئة من عدم وجود ما یضمن تنفیذ هذه القوانین سوى العقوبات المادیة والتی تشمل العقوبات الجسدیة أو الغرامات المادیة، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى عدم سن القوانین التی تقضی بمعاقبة المجرمین بالإعدام عند ارتکابهم للجرائم والجنایات الفجیعة والتی یستحق فاعلها ذلک.

إنّ عدم وجود الوازع النفسی والوجدانی الذی یضمن تنفیذ القوانین الوضعیة، وکذلک ضعف الضمانات التنفیذیة الخارجیه، أدّى إلى حصول الکثیر من المخالفات القانونیة وقد ترتب على ذلک ابتعاد الناس عن الضوابط والمقررات وتجذر حالة عدم المبالاة یوماً بعد یوم، والدلیل على ذلک هو کثرة المؤسسات القضائیة والسجون فی العالم.

وهذا الوضع هو الذی یمکن أن یطلق علیه عنوان «أزمة الضمانة التنفیذیة» ، وله نتائج وعواقب غیر محمودة، الأمر الذی جعل المجتمعات الإنسانیة بأسرها تدفع ضرائب ثقیلة ، ویمکن الوقوف على شواهد من هذا القبیل فی أرقى الدول الصناعیة فی العالم .

ومن العقبات الاُخرى للضمانات التنفیذیة فی القوانین الدولیة المعاصرة ، هو الاقتصار على الأحکام الجزائیة وفقدان الجانب الإیجابی فی الجزاء أی الاتکاء على العقوبة وترک المکافاة.

إنّ الإنسان یتمتع بقوتین «القوة الجاذبة والدافعة» أو بعبارة اُخرى : المیل للحصول على المنافع ودفع المضار ، ولابدّ من الاستعانة بکلا الجانبین فی إجراء القوانین ، فی حین أنّ عالم الیوم یحصر جلّ اهتمامه على دفع المضار وفی دائرة محدودة أیض ، والدلیل على ذلک واضح ، لأنّ العالم المادی لیس فی جعبته شیء لیجعله بعنوان مکافأة تقدیریة أزاء کل من یعمل ببنود القانون .

وعلى ضوء هذه المقدّمات نعود إلى مسألة «الضمانة التنفیذیة للقوانین القرآنیة» لنرى اشتماله على أقوى الضمانات التنفیذیة وأجمعه ، وهذا الامتیاز ینفرد به دون غیره .

وقد أُخذت بعین الاعتبار ثلاثة أنواع من الضمانات التنفیذیة فی القرآن :

1 ـ الضمانة التنفیذیة المستمدة من الدولة الإسلامیة .

2 ـ الضمانة التنفیذیة المستندة إلى الرقابة العامة .

3 ـ الضمانة الذاتیة الداخلیة أو بتعبیر آخر ، الضمانة الناشئة من الإیمان والاعتقاد بمبادیء الإسلام والقیم الأخلاقیة والعاطفیة .

ففی المورد الأول تقع على عاتق الدولة الإسلامیة مسؤولیة الوقوف بصورة حدّیة بوجه أی شکل من أشکال المخالفة القانونیة ، فالخطوة الاُولى التی أقدم علیها نبی الإسلام (صلى الله علیه وآله)بعد هجرته إلى المدینة ، وبعد التغلب على المشاکل العالقة ، هی إرساء دعائم الدولة الإسلامیة ، وبیان معالم القوانین الإسلامیة ، وملاحقة أی نوع من أنواع الانحراف والشذوذ باعتباره من الذنوب التی تدخل فی دائرة (العقوبة الجزائیة) .

لقد اعتبر الإسلام القوانین القرآنیة حدوداً إلهیّة ، ووجه العقوبة إلى کل من یتجاوز هذه الحدود .

فمن جهة یُعرِّف المتخلفین بأنّهم ظالمون یقول تعالى: (وَمَن یَتَعدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِکَ هُمُ الَّظَالِمُونَ). (البقرة / 229 )

ومن جهة اُخرى یؤکد على محاربة الظالمین .

فحینما یذهب القرآن إلى القول : (لَقَدْ اَرْسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَیِّنَاتِ وَاَنزَلنَا مَعَهُمُ الکِتَابَ وَالمِیزَانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَاَنزَلْنَا الحَدِیدَ فِیهِ بَاَسٌ شَدِیدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِیَعلَمَ اللَّهُ مَن یَنْصُرهُ وَرُسُلَهُ بِالغَیبِ اِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِیزٌ). (الحدید / 25)

فإنّ معناه : إن شَخْصَ نبی الإسلام (صلى الله علیه وآله) الذی هو خاتم الأنبیاء وسیدهم هو الذی تقع على کاهله هذه المسؤولیة قبل أی شخص آخر .

هذا من جانب ، ومن جانب آخر یدعو کل فرد من أفراد الأمة الإسلامیة إلى المراقبة فی اجراء القوانین الإلهیّة ، ووفقاً لمبدأ «الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر» ، یلزم الجمیع بأن لا یتهاونوا ویتخاذلوا فی الوقوف بوجه الانحراف عن القوانین الربانیة .

لذا یقول سبحانه فی أحد المواضع : (وَالمُؤمِنُونَ وَالمؤمِنَاتُ بَعضُهُم اَولِیَاءُ بَعض یَأْمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَیَنهَوْنَ عَنِ المُنکَرِ وَیُقِیمُونَ الصَّلاَةَ وَیُؤْتُونَ الزَّکَاةَ ویُطِیعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). (التوبة / 71)

وتتجلّى الأهمیّة القصوى لهاتین الوظیفتین فی الآیة الکریمة من خلال تقدیم ذکرهما على الصلاة والزکاة وإطاعة الله والرسول ، والسر فی ذلک یقع فی أنّ أرکان الصلاة والزکاة والطاعة لاتستقیم أعمدتها من دون هذه الرقابة العامة على إجراء القوانین .

وفی موضع آخر حینما یعمد تعالى إلى طرح الصفات المختصة بالمجاهدین فی سبیل الله أولئک الذین اشتروا الجنّة من الله تعالى بأموالهم وأنفسهم ، یقول بعد بیان ست صفات من الصفات المتعلقة بهؤلاء المجاهدین : (الآمِرُونَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنکَرِ والحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ). (التوبة / 112)

وممّا یلفت النظر : إنّه نظراً إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر له مراحل مختلفة تبدأ من النصیحة والإرشاد والمواعظ الاخویة ، وتشق طریقها حتى تصل إلى مرحلة التشدد والحزم العملی ، بناءً على ذلک فقد قسمها القرآن إلى قسمین ، جعل القسم الأول فی متناول الجمیع ، أمّا القسم الثانی فقد جعله فی متناول جماعة خاصة تمارس أعمالها تحت إشراف الحکومة الإلهیّة ، ولذا یشیر إلى هذا التقسیم بقوله تعالى: (وَلتَکُن مِّنکُم اُمَّةٌ یَدعُونَ اِلَى الخَیرِ وَیَأْمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَیَنهوَنَ عَنِ المُنکَرِ واُولَئِکَ هُمُ المُفلِحوُنَ) .(آل عمران / 104)

ومن البدیهی إنّ الاُمّة التی تأخذ على عاتقها مسؤولیة الرقابة ، على إجراء القوانین ویشاطرها فی هذا الشعور بالمسؤولیة کافة أفراد المجتمع ، سیکون القانون فی أوساطها معززاً مکرماً وصالحاً للتطبیق فی الوقت المناسب .

وحینما نخرج من دائرة الرقابة العامة یأتی الکلام عن الرقابة الذاتیة ، والروحیة والاعتقادیة والوجدانیة للأفراد على حسن إجراء القوانین وهکذا رقابة تعتبر بحقّ أفضل أنواع الرقابات وذلک لوجود الرادع الذاتی للفرد .

أمّا «الإیمان بالمبدأ» أی بالله عزّ وجلّ الذی هو حاضر فی کل حین وهو أقرب إلى العباد من أنفسهم : (وَنَحنُ اَقرَبُ اِلَیهِ مِن حَبلِ الوَرِیدِ). (ق / 16)

وسبحان الذی: (یَعلَمُ خَائِنَةَ الاَعُینِ وَمَاتُخفِى الصُّدُوُر). (غافر / 19)

والله الذی جعل الأرض والزمان وحتى أعضاء بدن الإنسان رقیباً علیه وشاهداً وشهیداً على أفعاله(1) .

و«الإیمان بمحکمة القیامة الکبرى» بحیث لو کان فی صحیفة أعمال الإنسان مقدار ذرة من عمل الخیر أو الشر لاحضروها أمامه ، ویلاقی حسابه وجزاؤه : (فَمَن یَعملْ مِثَقالَ ذَرَّة خَیراً یَرَهُ * وَمَن یَعملْ مِثَقالَ ذَرَّة شَرّاً یَرَهُ). (الزلزلة / 7 8)

ولیست الأمثلة السابقة هی التی تعکس آثار الإیمان بالمبدأ والمعاد فحسب ، بل لدینا مئات الأمثلة من هذه الآیات فی القرآن الکریم یعدّ الاعتقاد بها من أفضل الضمانات لتنفیذ القوانین الإلهیّة .

وکم هو الفرق بین من یرى نفسه مراقباً من قبل القوى الامنیة والعسکریة التی لا تتجاوز أعدادها الواحد بالالف وبما تمتلک من إمکانیات محدودة ونواقص کثیرة عندما تکون رقیبةً على أعمال الآخرین ، ومع ما تراه لازماً من اتخاذ الاستعدادات الکافیة من أجل الدخول فی الأماکن الهامة والمنازل العامة ، وما أبعد الهوة بین هذا الشخص وبین من یرى نفسه فی کل الأحوال والأمکنة وبدون استثناء خاضعاً لرقابة الله المستمرة والملائکة ، ویعتقد أنّ الموجودات من حوله وحتى أعضاء بدنه ستحتفظ بأعماله وتعلن عنها فی حینه .

إنّ الضمانة التنفیذیة لا أثر لوجودها فی العالم المادی إطلاق ، ولهذا السبب لم تتمکن الضمانات التنفیذیة الاُخرى بأی شکل من الأشکال أن تقف حاجزاً أمام المخالفات الاُخرى ، فی حین تنحسر هذه المخالفات القانونیة فی ظل الأجواء الدینیة الواقعیة التی یکون هذا الضامن التنفیذی فیها فعال ، کما تحقق ذلک فی زمن حیاة النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) ففی ذلک الزمان لم یکن لوجود السجون معنى على الاطلاق ، وقلّما کانت تعقد المحاکم القضائیة، فقد کانت شکاوى الناس تتلخص بمجیء بعض الأشخاص أحیاناً إلى محضر النبی (صلى الله علیه وآله) فی المسجد ویطرحون دعاواهم ، فیستمعون إلى الأجوبة فی المکان نفسه ویخرجون راضین بالحلول العادلة .

وفی الوقت الحاضر أیضاً تصل الجنایات والانحرافات إلى الحد الأدنى فی المجتمعات الدینیة خاصةً فی المناسبات الدینیة (من جملتها مناسبة شهر رمضان المبارک) .


1. الزلزلة ، 4; ویس ، 65; والنور ، 24 .
سادس : إحیاء القیم الروحیةثالث : احترام حقوق الإنسان
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma