4 ـ عظمة منزلة الإمام فی القرآن الکریم

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات القرآن (الجزء التاسع)
5 ـ فلسفة وجود الإمام اصطلاح «الإمام» فی اللغة والقرآن:

إنّ مسألة الإمامة والقیادة کما سنتطرق إلیها فیما بعد لیست مسألة دینیة وتشریعیة فحسب ، بل إنّ عالم الخلق والتکوین یخضع له ، الله هو إمام عالم الوجود ومکوناته المختلفة ، وهو یهدیها ویدبرها جمیع .

ویعطی القرآن الکریم أهمیّة خاصة للإمامة ویعتبرها آخر مرحلة من مسیرة تکامل الإنسان، لم یصلها إلاّ اُولوا العزم من الأنبیاء ، إذ یقول تعالى : (وَاِذِ ابتَلَى اِبرَاهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِمَات فَاَتَمَّهُنَّ قَالَ اِنِّى جَاعِلُکَ لِلنَّاسِ اِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّیّتَىِ قَالَ لایَنَالُ عَهدِى الظَّالِمِینَ) .(البقرة / 124)

هنالک جدل کثیر بین المفسرین حول هذه الکلمات التی اُشیر إلیها فی مطلع الآیة ، وکما یقول صاحب روح المعانی : لقد ذکروا حولها ثلاثة عشر قول (1).

إلاّ أنّ ما یبدو صحیحاً هو أنّ المراد من هذه الکلمات هو «الأوامر والنواهی» التی تلقی التکالیف الثقیلة والصعبة على کاهل إبراهیم (علیه السلام) ، لیتمحص ـ جیداً ـ فی الابتلاء ، وهی عبارة عن التصدی الشجاع لعبدة الأوثان ، وتحطیم الأصنام ، وإلقائه فی النار ، والاستقامة والثبات فی جمیع هذه المراحل .

وکذلک الاستعداد للتضحیة بفلذة کبده ، والتوجه به إلى مکان الذبح ووضع السکین على رقبته ، ولم ینشغل بعیاله وترکهم فی صحراء مکة القاحلة الرمضاء ، غیر المسکونة، وأخیراً الهجرة من بلاد عبدة الأوثان والتخلی عن الحیاة من أجل أداء رسالته ، وحقاً أنَّ کلاً منها کان اختباراً قاسیاً وصعب ، إلاّ أنّ إبراهیم قد خرج من جمیع تلک الاختبارات ظافراً وذلک بفعل قوة الإیمان والثبات والصبر .

وقد أحصى بعض المفسرین الموارد التی ابتلی بها إبراهیم أنّها بلغت ثلاثین ابتلاءً، ویقولون : إنّ هذه الموارد الثلاثین قد ذُکرت فی ثلاثة آیات من القرآن الکریم ، فقد ذُکرت «عشرة منها» فی الآیة 13 من سورة التوبة، و«عشرة» فی الآیة 35 من سورة الأحزاب ، وذُکرت «عشرة منها» فی الآیات 1 إلى 9 من سورة «المؤمنون» إذ یصبح مجموعها ثلاثین وصفاً أو ثلاثین مادة امتحانیة (2) ولکن نظراً إلى أنّ جانباً مهماً من هذه الصفات قد تکرر ذکره وأنّ عددها لا یصل إلى الثلاثین ، فإنّ هذا الکلام لا یحظى بالقبول نوعاً م .

على أیّة حال فقد خرج إبراهیم بطل تحطیم الأصنام، والنبی المخلص والمضحی ظافراً من جمیع تلک الابتلاءات القاسیة والصعبة فاستحق ارتداء جلباب الإمامة ، وشرفه الله بهذا الخطاب المفعم بالفخر : (اِنِّى جَاعِلُکَ لِلنَّاسِ اِمَامَاً) .

ما هو هذا المقام الذی ناله إبراهیم فی آخر عمره بعد نیله مقام النبوة والرسالة ، وبعد ذلک الجهاد الطویل ؟

من المسلم به أنّه کان أسمى وأرفع منها جمیعاً، فمن اجتاز ذلک الاختبار الصعب یستحق هذه المکرمة الإلهیّة.

لقد کان للمفسرین جدالٌ طویل فی تفسیر معنى الإمامة ، وحیث إنّ بعضهم لم یستطع بلوغ أسرار المعنى السامی لهذه الکلمة ، فقد وقعوا فی متاهات عجیبة .

والأعجب من ذلک هو أنّ طائفة من مشاهیر المفسرین قد فسّروها بمعنى النبوة ، بینما من المسلم به أنّ إبراهیم (علیه السلام) کان نبیاً وقتذاک ، وقد فاتت سنوات على نبوته ورسالته ، وأصبح ذا ذریة ، وفی سیاق الآیة یطلب الإمامة لأبنائه وذریته أیض .

یرى الکثیر من المفسرین أنّ الکلمات التی ابتلى الله تعالى بها إبراهیم (علیه السلام) کانت عبارة عن مجموعة من التعالیم والأوامر التی أمره بها الله تعالى ، کمقارعة عبدة الأوثان وبناء الکعبة وذبح ابنه ، إلاّ أنّهم والحالة هذه قد فسّروا الإمامة بالنبوة، مع العلم أنّ هذه الأوامر وهذه التضحیات کانت بعد بلوغ إبراهیم (علیه السلام) مقام النبوة ، وأنّ عبارة : (اِنِّى جَاعِلُکَ لِلَّناسِ اِمَامَا)غامضة تماماً فی تفسیرهم .

والمعنى الآخر الذی قالوه بصدد الإمامة هو وجوب الطاعة ، ولا یخفى أنّ إطاعة کل نبی واجبة ولا حاجة له إلى نیل مقام آخر (3).

وقد ذکر البعض تفسیراً ثالثاً لها وقالو : المراد هو الرئاسة فی اُمور الدین والدنی ، أو بتعبیر آخر : زعامة الحکم .

إنّ هذا التفسیر وإن کان أفضل من سابقیه إلاّ أنّه لم یدخل إلى عمق معنى الإمامة .

وحسب اعتقادنا واستناداً إلى سائر آیات القرآن التی تبحث فی مجال الإمامة ، فإنّ المقصود بالإمامة هنا أنّها مقام أسمى وأرفع من هذا کله، وهو تطبیق الأحکام، وتنفیذ الحدود الإلهیّة، وتربیة وتهذیب ظاهر وباطن الإنسان.

وللتوضیح أکثر أنّ الهدف من بعثة الأنبیاء وارسال الرسل هو هدایة المجتمع البشری ، وهذه الهدایة تتخذ بعدین ، الأول : الهدایة التی تعنی «اراءة الطریق» أی ما کلف به أیُّ نبیٍّ من الأنبیاء ، والثانی : «الایصال إلى المطلوب» وهو یتفرع إلى فرعین :

الفرع الأول: الهدایة التشریعیة ، وتطبیق الأحکام الدینیة ، سواء عن طریق إقامة الحکم وتطبیق الحدود والأحکام الإلهیّة والعدالة الاجتماعیة ، أو عن طریق تربیة وتعلیم النفوس بشکل عملی ، وکلاهما یؤدّی إلى تحقیق اهداف الأنبیاء ، ویحتاج إلى مخطط مرهق وصعب للغایة، وإلى مواصفات کثیرة کالعلم والتقوى والشجاعة والإدارة .

الفرع الثانی : الهدایة التکوینیة والهدایة إلى المطلوب من خلال التأثیر والنفوذ المعنوی والروحی وتوجیه شعاع الهدایة إلى افئدة ذوی الاستعداد من الناس ، وهذا یتطلب من أیّ نبیّ أو إمام أن یکون حسن السیرتین، الظاهریة والباطنیة وهی التی کانت للأنبیاء والأئمّة ازاء أتباعهم، ومن المسلم به أنّ مثل هذا الأمر یتطلب المزید من المواصفات والمزایا والقابلیات .

فمجموع هذین المخططین یحقق أهداف الدین والرسالات الإلهیّة ، ویوصل ذوی الاستعداد من البشر إلى التکامل المادی والمعنوی ، الظاهری والباطنی ، وهذا هو المراد من الإمامة فی الآیة المذکورة ، ولم ینل إبراهیم (علیه السلام) هذا المقام من دون أن یؤدّی الامتحان لنیل تلک المؤهلات والصفات .

ویستفاد ممّا تقدم أنّ مقام «الإمامة» یشترک مع مقام «النبوة» فی الکثیر من الحالات ، وبإمکان نبیّ من اُولی العزم کإبراهیم أن یبلغ مقام الإمامة أیض ، والأکثر وضوحاً من ذلک هو أنّ اجتماع مقام «النبوة» و«الرسالة» و«الإمامة» فی خاتم الأنبیاء (صلى الله علیه وآله) متحقق فعلاً.

ویمکن أن ینفصل مقام الإمامة عن مقام النبوة والرسالة ، کما فی الأئمّة المعصومین (علیهم السلام)الذین یعلمون مسؤولیة الإمامة فقط ، من دون أن ینزل علیهم الوحی ویکونوا «رسلاً» أو «أنبیاء».

على أیّة حال ، فمن خلال مطلع هذه الآیة تتضح جیداً عظمة مقام الإمامة، وأن تعیین الإمام من قبل الله تعالى : (قَالَ اِنِّىِ جَاعِلُکَ لِلنَّاسِ اِمَاماً) .

وذیل هذه الآیة یوکّد کثیراً على هذا الموضوع ، فهو یقول : إنّ إبراهیم (علیه السلام) لما أُعطی هذا المقام قال : (ومن ذرّیتی) .

فجاءه الخطاب قائلاً : (لا ینال عهدی الظالمین)، أی أن النفر من ذرّیتک الذین لم یظلمو ، وکانوا معصومین ومطهرین هم المؤهلون لهذا المنصب فقط .

لا شک فی أنّ الظلم فی هذه العبارة لیس ظلم الآخرین فحسب ، بل الظلم بالمعنى الشامل الذی یقابل العدالة ، و«العدالة» بمفهومها الواسع تعنی وضع الشیء فی محله ، والظلم یعنی وضعه فی المحل الذی لا یناسبه ، لذا ینقل القرآن الکریم عن لسان لقمان حیث یقول لابنه : (یَا بُنَىَّ لاَ تُشْرِکْ بِاللَّهِ اِنَّ الشِّرکَ لَظُلْمٌ عَظِیمٌ). (لقمان / 13)

کما یتضح أنّ العدالة هنا تعنی العدالة التامة ، أو بتعبیر آخر مقام العصمة الذی یتناسب والإمامة بمفهومها الشامل ، وإلاّ فالعدالة القابلة للنقص والاقتران بالذنب لا تتلائم مع مقام الإمامة بمعناها الرفیع أبد .

وبناءً على ذلک یمکن الاستدلال بالآیة أعلاه لإثبات عصمة الإمام أیضاً، بَیدَ أنّ الکلام فی الصفات هل یکون مقروناً بالعدالة وترک جمیع أشکال الذنب مدى الحیاة، أم أثناء التصدی للإمامة ؟فالبعض واستناداً إلى البحث الاُصولی المشهور من أنّ فی المشتق الحقیقی «من تلبس بالمبدأ» هو فی حال النسبة ـ أی حینما ننسب صفة من الصفات لأحد یجب أن یمتلک تلک الصفة فی حال نسبتها إلیه ، فمثلاً تطلق کلمة القائم على الذی یتمتع بصفة القیام أثناء نسبة هذه الصفة إلیه، ولا تطلق على الذی کان قائماً وقد جلس الآن ـ یعتقد أنّ مفهوم الآیة هو عدم تمتعه بصفة الظلم أثناء تولیه الإمامة ، لا بشرک ولا بذنب ، ولیس ملوثاً بأی معصیة اُخرى ، وعلیه فالعدالة والعصمة لا تشمل بدایة الحیاة.

إلاّ أننا نقرأ فی الروایات أنّ أئمّة أهل البیت (علیهم السلام) واتباعاً لرسول الله (صلى الله علیه وآله) قد استدلوا بهذه الآیة على العدالة فی جمیع مراحل العمر : إذ ینقل عبد الله بن مسعود عن رسول الله (صلى الله علیه وآله)أنّ الله تعالى قال لإبراهیم (علیه السلام) : «لا اُعطیک عهداً للظالم من ذریتک ، قال : یاربّ ومن الظالم من ذرّیتی الذی لا ینال عهدک ؟ قال من سجد لصنم من دونی لا اجعله إماماً أبداً ولا یصلح أن یکون إمام »(4).

وقد نقل هذا المعنى ابن المغاربی عالم أهل السّنة المعروف فی کتاب «المناقب» عن ابن مسعود عن النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) مع قلیل من الاختلاف ، إذ یقول : قال رسول الله (صلى الله علیه وآله) فی تفسیر هذه الآیة : قال الله تعالى لإبراهیم (علیه السلام) ما معناه : «مَنْ سَجدَ لصنم من دونی لا اجعله إماماً» . ثم أضاف (صلى الله علیه وآله): «وانتهت الدعوة إلیَّ وإلى أخی علی ، لم یسجد أحدنا لصنم قط»(5).

وقد نقلت روایات اُخرى عن طریق ائمة أهل البیت (علیهم السلام) فی الکتب المعتبرة بهذا الصدد أیض ، وتضم مجموعة هذه الروایات هذه النکتة وهی : إنّ النبی إبراهیم (علیه السلام) کان أعلم وأذکى من أن یسأل الله الإمامة للذین کانوا مشرکین أو ظالمین ، ولم تکن هنالک حاجة للرد علیه بأنّ الظالمین لا تشملهم هذه الهبة، لأنّ الأمر واضح.

فعلى هذا الأساس ، لو سأل الله شیئاً فمن المسلم به أنّه کان للذین کانوا ظالمین أو مشرکین فی وقت ما ثم تابوا واصلحوا، وفی هذا المجال سمع الجواب بأنّ عهد الإمامة لا یشمل مثل هؤلاء ، أی أن لا یکونوا ذوی سابقة فی الظلم والشرک .

یقول المفسر الشهیر العلاّمة الطباطبائی فی «المیزان» : «سأل بعض أساتذتنا عن تقریب دلالة الآیة على عصمة الإمام ، فأجاب : إنّ الناس بحسب القسمة العقلیة على أربعة أقسام :

1 ـ من کان ظالماً فی جمیع عمره .

2 ـ من لم یکن ظالماً فی جمیع عمره .

3 ـ من هو ظالم فی أول عمره دون آخره .

4 ـ ومن هو بالعکس .

وإن إبراهیم (علیه السلام) أجلُّ شأناً من أنْ یسأل الإمامة للقسم الأول والرابع من ذرّیته ، فبقی قسمان، وقد نفى الله أحدهم ( وهو الذی یکون ظالماً فی أول عمره دون آخره ، فبقی الآخر ) وهو الذی یکون غیر ظالم فی جمیع عمره ..(تأملوا جیدا)» (6).

وقد اعترف الفخر الرازی فی تفسیره بأنّ الآیة دلیل على عصمة الأنبیاء ، واللطیف هو «إنّه یثبت هذا الأمر من خلال وجوب عصمة الإمام وأنّ کل نبی إمام» (تأملوا جیداً أیضاً) (7).

وبطبیعة الحال یستفاد من هذه الآیة مطالب اُخرى بشأن الإمامة ووجوب عصمة الإمام ، وتنصیبه من قبل الله وغیر ذلک مما لا یسع المقام لبحثه.

والآن وعلى ضوء ما مرّ تتضح عظمة وجلالة الإمامة فی نظر القرآن الکریم ، وقد کان غرضنا هنا بیان هذه النقطة .


1. تفسیر روح المعانی ، ج1، ص 336 .
2. تفسیر روح المعانی ، ج1 ، ص 335 (وقد اضاف علیها بعض المفسرین سورة المعارج وقالوا: إنّها جاءت فی أربع سور من القرآن) .
3. ذکر تفاسیر روح البیان; والکشاف والمراغی; والقرطبی; والمنار; سُنن إبراهیم العشرة المعروفة; والأوامر والنواهی الإلهیّة، ومجموعة هذه التعلیمات .
4. أمالی الشیخ المفید ، (مطابق لنقل تفسیر البرهان ج 1، ص151 ح 13).
5. المناقب لابن المغازلی ، مطابق لنقل تفسیر المیزان ج 1، ص 278 فی ذیل الآیة مورد البحث .
6. تفسیر المیزان ، ج1، ص274 .
7. التفسیر الکبیر، ج4 ، ص43 .

 

5 ـ فلسفة وجود الإمام اصطلاح «الإمام» فی اللغة والقرآن:
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma