الدروس المستفادة من قصة ذی القرنین

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
أسئلة قرآنیة
هویة ذی القرنینشرح وتفسیر

سنبحث فیما بعد بإذنه تعالى حول هویة ذی القرنین، وکیف قام بأسفاره إلى شرق الأرض وغربها؟ وأین بنى السدّ؟ وأمثال ذلک.

ولکن بغضِّ النظر عن الأبعاد التاریخیة والتطبیقیة لهذه القصّة فإنّ لها بشکل عام نقاطاً تعلیمیة ودروساً کثیرة، یبنغی الاهتمام بها أکثر من أی شیء آخر فی هذه القصّة وهی فی الحقیقة الهدف الأصلی لذکرها فی القرآن الکریم:

1. إنّ أوّل درس نتعلمه من هذه القصّة أنّه لا یمکن لأی عمل فی الدنیا أن ینجز

دون إعداد الإمکانات اللازمة له، لذا وهب الله عزّ وجلّ لذی القرنین أسباب تقدمه وانتصاره یقول تعالى: (وَآتَیْناهُ مِنْ کُلِّ شَیْء سَبَباً ) وقد استفاد ذو القرنین من هذه الأسباب بشکل جید، یقول تعالى: (فَأَتْبَعَ سَبَباً ) لذا فإنّ من یتوقع النصر بدون إعداد الإمکانات والأسباب اللازمة له، لن ینتصر حتى لو کان ذا القرنین نفسه.

2. إنّ غروب الشمس فی العین الآسنة، کما وردت فی الآیات التی تحکی قصّة ذی القرنین، وإن کان انخداعاً بصریاً ، فإنّه یدلّ على أنّ من الممکن للشمس العظیمة أن تغطّى بواسطة عین آسنة موحلة ،کما أنّ الإنسان العظیم والشخصیة عالیة المقام یمکن أن تسقط سقوطاً کلیاً على أثر زلة صغیرة، آفلة فی مشاهد الغروب.

3. لا یمکن لأیة دولة أن تنتصر بدون أن تقوم بالخطوات اللازمة لتشجیع من یقومون بخدمتها ومعاقبة من یخطئون بحقها، وهذا هو الأصل الذی استفاد منه ذو القرنین، وفی هذا المعنى قال علی (علیه السلام) فی عهده المعروف لمالک الأشتر الذی یعتبر دستور عمل جامع لإدارة الدول:

«وَلاَ یَکُونَنَّ الُْمحْسِنُ وَالْمُسِیءُ عِنْدَکَ بِمَنْزِلَة سَوَاء، فَإِنَّ فِی ذلِکَ تَزْهِیداً لاَِهْلِ الاِْحْسَانِ فِی الاِْحْسَانِ، وَتَدْرِیباً لاَِهْلِ الاِْسَاءَةِ عَلَى الاِْسَاءَةِ! وَأَلْزِمْ کُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ» (1).

4. إنّ التکلیف بما لا یطاق لا یناسب أبداً حکومة العدل الإلهی، لذا فإنّ ذی القرنین بعد أن صرّح بأنّه سوف یعاقب الظالمین ویکافئ المحسنین فإنّه اقترح علیهم برنامجاً سهلاً میَّسراً یستطیعون تطبیقه بدافع من الرغبة والشوق والمحبّة، فقال: (وسنقول له من أمرنا یسراً ).

5. لا یمکن لدولة واسعة أن تغض الطرف عن التنوع الموجود بین مکوناتها القومیة والاختلافات فی طرق الحیاة والظروف التی یمرون بها، ولهذا فإنّ ذا القرنین الذی کان صاحب حکومة إلهیة، أثناء تعامله مع الأقوام المختلفة ممن یتمتعون

بطرق عیش مخصوصة، کان یتصرّف معهم بما یتناسب مع أحوالهم وظروفهم، واستطاع بذلک أن یحویهم جمیعاً ویستوعبهم.

6. إنّ ذا القرنین لم یستخفّ بقوم وصفهم القرآن الکریم بقوله: (لا یَکادُونَ یَفْقَهُونَ قَوْلاً )، بل عمل بکل وسیلة ممکنة أن یستمع إلى حاجاتهم ومطالبهم لیرفعها، واستطاع نتیجة ذلک أن یبنی بینهم وبین أعدائهم الأشداء سداً محکماً، مع أنّه کان من الممکن له أن یعتبر مثل هؤلاء الأقوام المتخلّفین عالة على أیة دولة، إلاّ أنّه عمل على إصلاح أمورهم وشؤونهم بدون أن یتوقع منهم مقابلاً، ففی الحدیث عن الإمام الصادق (علیه السلام) یقول: «إسماعُ الأَصمِّ مِنْ غَیرِ تَضجُّر صَدقةً هَنیئَةً» (2).

7. الأمن أوّل وأهم شرط للحیاة الاجتماعیة السلیمة، ولهذا عمل ذو القرنین على توفیر هذا الأمر للقوم الذین کانوا عرضة للتهدید، وتحمل القیام بأکثر الأعمال صعوبة ومشقة عبر إنشاء واحد من أقوى السدود لردع المفسدین فأصبح مضرب المثل فی التاریخ ورمزاً للاستحکام والدوام والبقاء حیث یقال: (سدّ مثل سد الاسکندر) (وإن کان الاسکندر غیر ذی القرنین؟).

فإذا لم یتمّ الوقوف أمام المفسدین بحزم من خلال السدود القویة المحکمة فلا یمکن للمجتمع أن ینال السعادة، لذا کان أول طلب لإبراهیم (علیه السلام) من الله عزّ وجلّ أثناء بناء الکعبة نعمة الأمن لتلک البقعة المبارکة فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) (3)، ولهذا وضع الفقه الإسلامی أشد العقوبات لأولئک الأشخاص الذین یعرضون أمن المجتمع للخطر (4).

8. إنّ الدرس الآخر الذی یمکن أن یتعلَّمه الإنسان من هذه الحادثة التاریخیة أن من یتعرضون للمصائب والمشاکل یجب أن یساهموا فی رفعها بأنفسهم، لذا عندما

شکا مجموعة من القوم إلى ذی القرنین حملات الأقوام البربریة الوحشیة، فإنّ أوّل ما أمر به أن یحضروا قطع الحدید، ثم أمرهم أن ینقخوا النار فی أطراف السد، لیلتحم بعضه ببعض، ومن ثم أمرهم أن یعدّوا النحاس المذاب لتغطیة ذلک الحدید بطبقة منه.

لأنّ القاعدة تقضی أنّ العمل الذی یقوم به أصحابه لرفع مشکلة یعانون منها سوف یکون مصیره التقدم، کما أنّه یساعدهم على إظهار إمکاناتهم ومواهبهم وطاقاتهم، وهم بالتالی سیقدِّرون نتیجة عملهم الذی قاموا به وسیسعون فی الحفاظ على ثماره وإنجازاته، لما تحملوا فی سبیل ذلک من المصائب والمشقّات.

وبذلک یتضح أنّ أُمّة متخلفة یمکنها بالإدارة والتخطیط السلیمین أن تنجز مثل هذا العمل المهم والمدهش للعقول.

9. ینبغی للقائد الإلهی ألاّ یهتم بالمال والمادیات، وأن یقتنع بما جعله الله عزّ وجلّ بین یدیه، لذا نرى ذا القرنین خلافاً لسیرة الملوک والسلاطین الجبابرة ممن یحرصون ویولعون بکنز الأموال وجمعها من هنا وهناک، یرفض الأموال عندما تعرض علیه ، وهذا نموذج للقادة الإلهیین الذین یقولون کما قال ذو القرنین: (ما مَکَّنِّی فِیهِ رَبِّی خَیْرٌ ).

ونقرأ فی القرآن الکریم مراراً فی قصص الأنبیاء أنّ أحد أهم أدبیاتهم کان یتمثّل بالقول: إنّهم لا یریدون أجراً ومکافأة ومالاً مقابل دعوتهم، حیث تکرّر مثل هذه الحالات فی القرآن الکریم إحدى عشر مرة من رسول الله (صلى الله علیه وآله) والأنبیاء السابقین، وأحیاناً کانوا یعبرون عن ذلک بالقول السابق مضافاً إلیه بأنّ أجرنا على الله فقط.

وأحیاناً نرى فی القرآن الکریم جعل محبّة أهل بیت النبی (علیهم السلام) مقابلاً للدعوة وأجراً علیه، لأنّ هؤلاء سیکونون قاعدة للقیادة المستقبلیة، یقول تعالى: (قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبى ) (5).

10. إتقان العمل درس آخر من هذه القصة، فقد استعمل ذو القرنین فی بناء السد قطعاً من الحدید کبیرة، ونفخ فیها النار حتى تلتحم تلک القطع بعضها ببعض، وتذوب، ثم غّطاها بطبقة من النحاس حتى یزید عمر هذا السد وتطول مدّة صلاحیته، مع ضامن مقاومته لعوامل الریاح والرطوبة والمطر، ویمنع تآکلها وتهالکها.

11. إنّ الإنسان مهما بلغ من القوة والقدرة والتمکن والنفوذ لا ینبغی له أبداً أن یغّتر بنفسه، وهذا هو الدرس الآخر الذی علّمه ذو القرنین للجمیع، إذ بعد إتمامه بناء السد نراه یقول:

(هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّی ) لأنّه کان یستند على تلک القدرة الإلهیّة فی جمیع المواقف.

وعندما اُقترِح علیه دعم مالی ردّ علیهم: (ما مَکَّنِّی فِیهِ رَبِّی خَیْرٌ )، وفی النهایة قبل أن ینهی إنجاز هذا العمل العظیم، فإنّه یتحدّث عن عدم خلود هذا السد فی إشارة إلى أنّ الخلود لله عزّ وجلّ وفی هذا الأمر أیضاً یستند فی کلامه إلى إیمانه وعقیدته بالوعد الإلهی.

12. (کل شیء زائل إلاّ وجهه) ومصیر أقوى الصروح فی هذه الدنیا الاختلال والإنهیار والدمار والزوال، حتى ولو کانت مصفحة بالحدید والفولاذ، وهذا آخر درس یمکن استفادته من هذه القصّة، ذلک الدرس لأولئک الذین یعتبرون هذه الدنیا خالدة بشکل عملی، حیث یسعون فی جمع المال وکسب الجاه بدون قید أو شرط، وبدرجة عالیة من الحرص وکأنّهم لا یؤمنون أن هناک موتاً وفناءً، فإن کانت الشمس العظیمة التی لا یمکن مقارنتها بسد ذی القرنین تفنى وتطفأ وتزول، وکذلک الجبال الراسیات تتلاشى وتذروها الریح، فکیف بالإنسان الضعیف أمام هؤلاء جمیعاً!!

ألا یعتبر التفکیر فی هذه الحقیقة کافیاً لردع المستبدین والاستبداد!


1 . نهج البلاغة، الکتاب 53.
2 . سفینة البحار، ج 2، لفظ «صمم».
3 . سورة إبراهیم، الآیة 35.
4 . انظر التفسیر الأمثل فی تفسیر سورة المائدة، الآیة 33.
5 . سورة الشورى، الآیة 23.

 

هویة ذی القرنینشرح وتفسیر
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma