القرآن ومسألة الشفاعة

القرآن ومسألة الشفاعة


العقاب الإلهي في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا ينزل بساحة الإنسان دون شك من أجل الانتقام، بل إنّ العقوبات الإلهيّة تشكل عنصر الضمان في تنفيذ القوانين، وتؤدي في النتيجة إلى تقدم الإنسان وتكامله‌

قال تعالى: (وَآتَّقُوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَّفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْـًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ).

إن هذه الآية ترفض أوهام اليهود، التي كانوا يتصورون بموجبها أنّ الأنبياء من أسلافها سوف يشفعون لهم، أو أنّهم قادرون على دفع فدية وبدل عن ذنوبهم، كدفعهم الرشوة في هذه الحياة الدنيا. 

الحاكم أو القاضي في تلك المحكمة الإلهيّة، لا يقبل سوى العمل الصالح، كما في الآيتين ( 88 و89) من سورة الشعراء يقول تعالى: (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى آللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).

إنّ الآية المذكورة من سورة البقرة، تشير في الواقع إلى ما يجري من محاولات في هذه الحياة الدنيا لإنقاذ المذنب من العقاب.

ففي الحياة الدنيا قد يتقدم إنسان لدفع غرامة عن إنسان مذنب لانقاذه من العقاب، أمّا في الآخرة فإنّه: (لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَنْ نَّفْسٍ).

وربّما يلجأ المذنب في هذه الحياة إلى الشفعاء لينقذوه ممّا ينتظره من الجزاء ويوم القيامة (... لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ).

وإذا لم توجد الشفاعة، يتقدم الإنسان في الحياة الدنيا بدفع (العدل) وهوبدل الشيء من جنسه، أما في الآخرة فـ(لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ).

وإذا لم تنفع الوسائل المذكورة كلها، يستصرخ أصحابه لينصروه ويخلصوه من الجزاء، وفي الآخرة لا يقوم بإنقاذهم أحد (وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ).

القرآن الكريم يؤكد أنّ الاُصول الحاكمة على قوانين الجزاء يوم القيامة تختلف كليآ عما هو السائد في هذه الحياة، فالسبيل الوحيد للنجاة يوم القيامة، هو الإيمان والتقوى والاستعانة بلطف الباري تعالى.

تاريخ الشرك وتاريخ المنحرفين من أهل الكتاب، مليء بأفكار خرافية تدور حول محور التوسل بمثل الأمور التي ذكرتها الآية الكريمة للفرار من العقاب الاُخروي.

ذكر صاحب تفسير المنار بعض العادات المصرية التي لا تزال يعمل بها باسم الدين وهي من إرث قدماء الوثنيين، كاعطائهم لغاسل الميت شيئآ من النقد يسمونه «اُجرة المعدية» أي اُجرة نقله إلى الجنة.

ثم ذكر المكفرات التي يعتقدها اليهود كقربان الإثم وقربان الخطيئة وقربان السلامة والمحرقة والإكتفاء ممن لم يجد القربان بحمامتين يكفر بهما عن ذنبه.

القرآن ومسألة الشفاعة:[1]  العقاب الإلهي في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، لا ينزل بساحة الإنسان دون شك من أجل الانتقام، بل إنّ العقوبات الإلهيّة تشكل عنصر الضمان في تنفيذ القوانين، وتؤدي في النتيجة إلى تقدم الإنسان وتكامله، من هنا يجب الإحتراز عن أي شيء يضعف من قوة عنصر الضمان هذا، كي لاتنتشر بين الناس الجرأة على ارتكاب المعاصي والذنوب.

من جهة اُخرى، لا يجوز غلق باب العودة والإصلاح بشكل كامل في وجه المذنبين، بل يجب فسح المجال لإصلاح أنفسهم وللعودة إلى الله وإلى الطهر والتقوى.

«الشفاعة» بمعناها الصحيح تستهدف حفظ هذا التعادل. إنّها وسيلة لعودة المذنبين والملوثين بالخطايا، وبمعناها الخاطئ تشجع على ارتكاب الذنوب.

اُولئك الذين لم يفرقوا بين المعنى الصحيح والخاطيء لمسألة الشفاعة، أنكروا هذه المسألة بشكل كامل، واعتبروها شبيهة بالوساطات التي تقدم إلى السلاطين والحكام الظالمين.             

وثمة جماعة كالوهابيين استندوا إلى الآية الكريمة: (لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ). فأنكروا الشفاعة تماماً، دون الإلتفات إلى سائر الآيات في هذا المجال.

الشّروط المختلفة للشفاعة: آيات الشفاعة تصرح أنّ مسألة الشفاعة في مفهوم الإسلام مقيدة بشروط، هذه الشروط تحدد تارة الخطيئة التي يستشفع المذنب لها، وتحدّد تارة اُخرى الشخص المشفوع له، كما تقيد من جهة اُخرى الشفيع، وهذه الشروط بمجموعها تكشف عن المفهوم الحقيقي للشفاعة وعن فلسفتها.

ثمّة ذنوب كالظلم مثلاً خارجة عن دائرة الشفاعة حيث يقول القرآن: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ)[2] .

كما أنّ الشفاعة ـ وطبقاً للاية (28) من سورة الأنبياء ـ لا تشمل إلّا أولئك المرتقين إلى درجة «الإرتضاء» وإلى درجة الالتزام بالعهد الإلهي حيث يقول القرآن: (لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـنِ عَهْدًا)[3]

الإرتضاء، واتخاذ العهد، يعنيان على المستوى اللغوي (وكذلك ما ورد من الروايات في تفسير هذه الآيات): الإيمان بالله والحساب والميزان والثواب والعقاب، والإعتراف بالحسنات والسيئات، وبما أنزل الله، إيماناً عميقاً في الفكر، ظاهراً في العمل... إيماناً يبعد صاحبه عن صفات الظالمين الذين لا يؤمنون بأية قيمة إنسانية، ويدفعه إلى إعادة النظر في منهج حياته.

وبشأن الشفعاء ذكر القرآن لهم شرطاً في قوله تعالى: (إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ)[4] . من هنا فالمشفوع له أيضاً ينبغي أن يسلك طريق الحق في القول والعمل، كي يكون له إرتباط بالشفيع، وهذا الإرتباط الضروري بين الشفيع والمشفوع له يعتبر بدوره عاملاً بنّاءً في تعبئة الطاقات على طريق الحق.

 

[1] . «الشفاعة»: من «الشفع» بمعنى «الزوج» و«ضم الشيء إلى مثله» يقابلها «الوتر» بمعنى «الفرد» ثم اُطلقت على انضمام الفرد الأقوى والأشرف إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف.

[2] . سورة غافر /18.

[3] . سورة مريم /87.

[4] . سورة الزخرف /86.

captcha