لا أصدق حتى أرى بعيني

لا أصدق حتى أرى بعيني


فما تردده من القول «لا أصدق حتى أرى بعيني» يفيد أنّ العين من أوثق السبل لإدراك الواقعيات وهذا من أكبر الأخطاء، وذلك لأننا نرى بعيننا عدّة أشياء لا واقع لها‌

الذريعة المهمّة الأخرى التي ذكرها البعض بهدف الهروب من التفكير بالمُبدىء الأول لعالم الوجود هي:

ليس لدينا من سبيل لنفي أو إثبات وجود الله، وذلك لأنّه: ليس هنالك من قيمة علمية تثبت لشيء ما لم يخضع للإختبار والمشاهدة، فما لا يمكن إخضاعه للتجربة يتعذر إثباته، ولما كان إثبات أو نفي الله غير متيسر بالتجربة يتعذر إثباته، ولما كان إثبات أو نفي الله غير متيسر بالتجربة والمشاهدة، فلا بد من الاعتراف بعدم إمكانية حل هذه المسألة بالأسلوب العلمي، فلا ينبغي إزعاج الفكر بذلك!

بعبارة أخرى: إنّ البحث بشأن «المُبدىء الأول للوجود» و«خالق العالم» وإن كان من الأبحاث الشيّقة والقيّمة، غير أنّ المؤسف له هو أنّه خارج عن دائرة حسّنا، ولا يرى العلم اليوم من قيمة للأشياء الخارجة عن الحس وذلك لعدم وجود سبيل لإثبات ذلك.

وبصورة عامة فإنّ الخوض بما هو خارج عن دائرة الحس إن لم يكن خطيراً، فعلى الأقل مدعاة للقلق والحيرة، فما أحرانا أن ننأى بأنفسنا بعيداً عن هذه الحيرة، وما أكثر الأفراد الذين ولجوا هذا الوادي فلم يتمّوا نصفه حتى عادوا وهم حيارى، فقد اعتدنا التعامل في حياتنا على ما يرتبط بحسّنا، وليس لنا تعامل مع الوجودات الخارجة عن دائرة المشاهدة والحس والاختبار!

و لعل هذا هو السبب في كثرة أنصار وأتباع المدرسة الفلسفية الحسّية.

وأتباع هذه المدرسة من قبيل «جان لوك» الانجليزي (أحد فلاسفة القرن السابع عشر) الذي يعتبر من زعماء المدرسة المذكورة وتلامذته من قبيل (ديفيد هيوم) و(جورج بركلي) وهما من فلاسفة القرن الثامن عشر، يرون أنّ الحس هو أساس جميع معلومات الإنسان، ولا يرون من إصالة لما خرج عن هذه المنطقة.

المدرسة الفلسفية البراغماتية، وهي إحدى المدارس الفلسفية الحديثة التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول للقرن العشرين بزعامة بعض الفلاسفة مثل: (جان ديوئي) و(وليم جيمز) الأمريكي، هي فى الواقع صورة أخرى للمدرسة التي تعتقد باصالة الحس.

أمّا «باتلر» مؤلف كتاب المدارس الفلسفية الأربعة على غرار البروفسور «جايلدر» مؤلف كتاب «البراغماتية الامريكية والتعليم والتربية» فقد تعرض للعالم من وجهة نظر البراغماتية فذكر له عشرة خصائص، أحدها كالتالي:

«يرى البراغماتيون أن ليس للعالم من واقع سوى بالتجربة، فهذه الفلسفة فلسفة طبيعية وتجريبية، حيث تعتبر أمرآ حيويآ وفي ذات الوقت متغيّر يشكل أساس العمل».

وعلى ضوء هذه الأساليب الفلسفية الحديثة كيف يمكن البحث عمّا وراء المحسوسات كالخالق العظيم؟

وبصورة عامة فإنّ المسائل الحسّية إنّما تستند إلى مقياس واضح وهو التجرية والمشاهدة والاحساس الذي يتفق عليه الجميع وليس للخطأ من سبيل إليه، بينما يسلب منّا المقياس الذي من شأنه تمييز الحق من الباطل فيما إذا تجاوزنا المسائل الحسية والطبيعية، حيث تكون في مثل هذه الحالة أشبه بالمهندس الذي يريد تحديد مساحة أرض وأبعادها دون أن تكون لديه أيّ وسيلة، وهذا ما لا يمكن أبداً، وزبدة الكلام فإنّ هذا الطريق مغلق ولا ينبغي أن ننطح برأسنا هذا الجدار (هذه هي خلاصة آراء أتباع المدرسة الحسية).

وللوقوف على مدى مجانبة هذا النمط من التفكير للحقيقة فلا بدّ من تسليط الضوء على بعض المواضيع.

 

الحواس لوحدها تخوننا 

قد يبدو للوهلة الاُولى أنّ المحسوسات هي أوضح معلوماتنا، إلّا أنّ أدنى تمعن يشعرنا أنّ الأمر ليس كذلك، ولو اكتفينا في المسائل الفلسفية وحتى المسائل العلمية بالاعتماد على المحسوسات لوقعنا قطعاً في ضلال مبين فقد شحنت كتب علماء النفس بالأخطاء التي تعرض الحواس بما فيها الباصرة، حيث ذكروا عشرات الأخطاء للعين.

فما تردده من القول «لا أصدق حتى أرى بعيني» يفيد أنّ العين من أوثق السبل لإدراك الواقعيات وهذا من أكبر الأخطاء، وذلك لأننا نرى بعيننا عدّة أشياء لا واقع لها؛ الأمر الذي يكشف عن إشتباه العين أو عدم قدرتها على الإدراك، على سبيل المثال لو أمسكنا بمشعل وجعلنا ندوره لرأيناه على شكل دائرة من النار، والحال إننا نوقن بعدم وجود مثل هذه الدائرة في الخارج، ولم يخدعنا بذلك سوى العين، وهكذا الحال بالنسبة للاعلانات الضوئية التي ترينا مختلف الأطياف والأمواج الجميلة بواسطة مصابيحها الملونة، في حين لا واقع لتلك الأطياف وكلها ناشئة من أخطاء الباصرة، فلو كانت أعيننا ترى الأشياء على حقيقتها فليس هنالك من وجود لهذه الألواح الجميلة، بل هذه السينما وأفلامها الصاخبة إنّما تتمّ على أساس استغلال خطأ الباصرة، لأنّ العين لو لم تخطىء، فإنّ أفلام السينما ليست أكثر من حفنة صور منفصلة ومتفرقة وليس لها أن تشد إليها الانظار.

ربّما ليس هناك من لم ير منظر السراب من بعيد حين سفره في فصل الصيف، فهو يبدو كأمواج جميلة من الماء وسط الجادة، وحين نقترب لا نرى سوى صحراء قفراء، فيتضح أنّ ذلك كان بسبب انكسار الضوء وخطأ الباصرة، بل كلنا نرى الهروب السريع للقمر من خلال سحب الغيوم في الليالي المقمرة، وكأنّه جاسوس يفرّ من مخالب الشرطة، والحال ليس الحركة للقمر، بل السحب هي التي تتحرك وتمر بسرعة، بينما نراها ساكنة والقمر متحرك، وهذا خطأ آخر من أخطاء الباصرة.

 

ونقرب المطلب أكثر 

الكل يزعم أنّ الموضوع الفلاني «ملموس» أو إننا لمسنا الحقيقة الفلانية، كناية عن أنّ الموضوع في غاية الوضوح، والحال حس اللامسة هو الآخر زائف، فإن قلت ليس الأمر كذلك، قلت لك: أعد ثلاثة ظروف من الماء، أحدها حار جدّآ (بحيث لا يحرق يدك) والثاني بارد جدّاً، والثالث معتدل، ثم إغمر إحدى يديك لمدّة قليلة في الماء الحار والاُخرى في الماء البارد، ثم اغمرهما معآ في الماء المعتدل، آنذاك سترى ما يذهلك حيث ستشعر باحساسين متضادين في آن واحد، حيث تخبرك إحداهما بأنّ هذا الماء الثالث بارد جدّآ، والاُخرى أنّه حار جدّاً، وإن جربت ذلك بإصبعين تحصل على نفس هذه النتيجة العجيبة، والحال أنّه ماء له درجة حرارة معينة واحدة.

مثال آخر: ضع إصبعك الوسطى على الخنصر ثم حركهما على وريد صغير في يدك الاُخرى بحيث يكون تحتهما، آنذاك ستشعر بوجود وريدين، حيث ستفيد اللامسة أنّ 1 = 2، وهكذا سائر الأمثلة، فهل يمكن والحالة هذه الاعتماد على الحس بمفرده؟ أم هل يمكن إلغاء دور الإدراكات الذهنية والعقلية التي من شأنها تصحيح أخطاء الحواس ومنع الضلال؟ فمن المسلم به إننا نقول بأنّ الحس قد أخطأ في الموارد المذكورة ومئات الحالات الأخرى من هذا القبيل؛ والأمر هذا من الأحكام العقلية التي تستند إلى ما وراء الحس، والواقع هو أنّ هذا الحكم العقلي هو المقياس والأداة لإصلاح حواسنا وتسديدها فيما يلتبس عليها من أمور.

وعليه فإن قلنا بفقدان قوانين الحس لقيمتها ما لم تخضع لقوانين الذهن فلا نرانا قد جانبنا الحقيقة.

 

إعترافات الفلسفة الحسية والبراغماتية

الطريف في الأمر أنّ فلاسفة الحس الذين أسسوا المذهب الحسي قد اعترفوا بأنّ المحسوسات ليست لها واقعية وتفتقر إلى القيمة النظرية، بل يقتصر دورها على القيمة العملية، أي لا بدّ من الاعتماد على الحس في شؤون الحياة كصنع سفينة وإعداد السيارة والماكنة وتشغيل الحقل الزراعي و... لكن ليس لأي من هذه الإدراكات الحسية أن توضح لنا الحقائق والواقعيات كما هي بحيث يعتمد عليها من حيث المعرفة والاصول النظرية، على سبيل المثال أقر (جان لوك - الفيلسوف الانجليزي وأحد زعماء المدرسة الحسية ـ عقيدة ديكارت مؤسس الفلسفة العقلية في القرون الأخيرة ـ بشأن نفي القيمة العلمية للمحسوسات وقال: «ليس من المعقول التنكر للموجودات المحسوسة، إلّا أنّ اليقين بها ليس كاليقين بالمعلومات الوجدانية، ويمكن عدها في مصاف الظنون والتصورات من وجهة النظر العلمية والفلسفية، أمّا على مستوى الشؤون اليومية للحياة فلابدّ من اليقين (علمياً) بحقيقة المحسوسات».

والعجيب أنّ بعض أتباع (جان لوك) مثل (جورج بركلي) و(هيوم) رغم أنّهم يرون الاصالة للحس في العلم، إلّا أنّهم لا يرون أيّ قيمة واعتبار للإدراكات الحسية، حتى أنّهم أنكروا الوجود الخارجي لمحسوساتنا.

البراغماتيون رغم أنّهم يبحثون كل شيء من زاوية آثاره الخارجية ويرون الوجود والعدم لواقع حسي وذهني إنّما يتوقف على تأثيره في حياة الإنسان ومن هنا ينبغي تسميتهم بالفلاسفة التجار لا الفلاسفة الواقعيين، إلّا أنّهم يعترفون بأنّ مسائل ما وراء الطبيعة خاضعة للبحث والدرس، مثلا، يقول وليم جيمس ـ وهو من زعماء المدرسة البراغماتية ـ بشأن الله :

«رغم أن تصوره ليس واضحاً جلياً كالتصورات الرياضية، إلّا أنّ له قيمة عملية على مستوى حياة الإنسان من حيث كونه نظاماً مثالياً لا بدّ من حفظه دائماً، والاعتقاد به يجعل الأفراد يرون وقتية بعض الأمور الأليمة كما يجعل الفرد من الناحية النفسية يعيش حالة الهدوء والسكينة والطمأنينة، وبناءً على هذا يمكن توجيه قضية وجود الله»[1] .

والنتيجة التي نخلص إليها ممّا سبق هي أنّ الحس لا يمكن الاعتماد عليه بمفرده، فهو لا يمكنه سوى أن يكون وسيلة وأداة لدى الفكر والذهن. بحيث إذا لم يخضع لسلطة العقل والذهن فليس من شأنه أن يحل مشكلة فحسب، بل يصبح أداة للاضلال أيضاً.

 

[1] . الفلسفة، للدكتور علي شريعتمداري، ص 246.

captcha