الشعور الذي ساورني حين رأيت لأول مرة العقل الالكتروني المجهز

الشعور الذي ساورني حين رأيت لأول مرة العقل الالكتروني المجهز


كانت مشاهدة ذلك العقل الالكتروني تمثل بالنسبة لي درساً عظيماً في التوحيد، الدرس الذي لم أسمعه قبل ذلك أبداً، حيث فتحت لي هذه المشاهدة نافذة على عالم ماوراء الطبيعة، كما بعثت شعاعاً جديداً من الإيمان في قلبي.‌

نشعر الآن باستعدادنا لابتداء السفر إلى ما وراء الحس، لكن من البديهي أن تكون انطلاقتنا من عالم الحس، تعالوا نبدأ سفرنا من داخل أنفسنا، ونركز بادىء الأمر على الدماغ الذي نفكر به، وأراني مضطراً قبل ذلك لأن أصحبكم لمشاهدة الدماغ الألكتروني لكي يتضح لدينا سبيل البحث.
كنت أتصور كسائر الأفراد أنّ العقل الالكتروني كما يبدو من اسمه أعجوبة حيث يقوم في مدّة قصيرة بما يؤدّيه مئات العقول والأدمغة البشرية، وفي الحقيقة فقد حطم جدار «استحالة زيادة الفرع على الأصل» ليتحول إلى جهاز ينبغي لنفس الإنسان أن يلتمسه ويرجوه لحل مشاكله. مهد الأصدقاء الفرصة أمامنا لمشاهدة هذه الأعجوبة الصناعية والتي كانت مستخدمة في إحدى المؤسسات الصناعية الكبرى، كان جهاز بحجم آلة طابعة كبيرة (بضعة أمتار مكعبة مع عجلة ولوالب وصامولات وما كنة معقدة على غرار أغلب المكائن).
حكى الأصدقاء بعض القصص والحكايات عن فنية هذا الجهاز فقالوا، لو كتب اسم السفينة الفلانية على بطاقة مخصوصة (طبعاً ليس المراد الكتابة بالقلم، بل باللسان الذي يتعامل به ذلك الجهاز من خلال الثقوب المختلفة التي كانوا يعملونها على البطاقة) ووضعت في الجهاز لتطبع خلال مدّة قصيرة كافة تفاصيل تلك السفينة ومدّة الشحن والسفّان وسائر الأمور ولقدّمها لنا بالخط اللاتيني الواضح دون أي أخطاء.
كما قالوا: لو أمرت هذا الجهاز (العقل الالكتروني) بأن يرسم خارطة الجزيرة الفلانية، لقام فوراً برسم خارطة رائعة جميلة لتلك الجزيرة بكافة تفاصيلها ولسلمها لك بعدّة نسخ بما يجعلك تعيش الدهشة والحيرة، والأهم من كل ذلك لو طرحت بعض المطالب على شكل أسئلة بحيث يجب أن تستفيد من عدّة بطاقات بأرقام متسلسلة وحشرت بعضها خطأ، فان الجهاز يتوقف بمجرد وصوله إلى البطاقة الخاطئة فتدور عتلة بسرعة فائقة ليطالعك خط واضح بأنّك وضعت البطاقة بصورة مخطوءة، وما ينبغي لك أن تقوم به لإصلاح ذلك.
ولما كان هذا العمل يدعو ـ أكثر من غيره ـ للذهول والدهشة فقد تقرر أن يعملوا ذلك ويجربوه لنا عملياً، فقد اختاروا عشرة بطاقات للسؤال كتبت عليها بعض المطالب، وكان من المقرر ترتيبها مع بعضها ووضعها في الجهاز ليتلقوا الاجابات السريعة عليها، وهنا عمد المهندس المسؤول إلى ارتكاب خطأ، مثلا جعل البطاقة رقم «5» بدل البطاقة رقم «6» ثم ضغط زر الجهاز، فقام سريعاً بدراسة ومطالعة بطاقات الأسئلة، فلم يكد يصل البطاقة رقم «6» حتى توقف، فباشر العمل جهاز كشف الأخطاء ودارت العتلة بسرعة فائقه لتصدر هذه العبارة بالانجليزية على سبيل الأمر: «لقد وضعت البطاقة رقم «6» خطأ، استبدلها بالبطالة رقم «5» ولا تكرر ذلك ثانية...؟».
وهنا بلغ إعجابي ذروته، ياله من «رقيب» و«عتيد» عجيب، يقوم بأعمالنا أسرع وأفضل، كما يضبط أخطاءنا ويهدينا إلى إصلاحها وكأنّه أستاذ خبير ماهر؟ يالها من حافظة؟ ياله من ذكاء؟ يالها من دقة وصراحة منطقية؟ لقد صنع الإنسان شيئاً فاقه قدرة، بل سيمارس سلطته وسيادته على هذا الإنسان، ومن يدري لعلهم حبسوا فيه بعض الأرواح الرفيعة والشياطين! يا إلهي!...
طبعاً كان إلى جانب ذلك الجهاز المذهل مخزن كبير نسبياً، ولما مد أحد الأصدقاء يده من قريباً منه وإذا به يخرج شريطاً ضخماً وقال: هذه إحدى حافظات عقلنا الالكتروني حيث يتمّ من خلالها تبادل الأسئلة بيننا وبين الجهاز.
أخيراً أدركنا أنّ هذه الأعجوبة، كأغلب الأفراد في زماننا، لها ظاهر وباطن! لا يمكن لهذا الجهاز العجيب أن يجيب على كل سؤال، بل يقتصر على الأسئلة التي أعدت أجاباتها مسبقاً مثل الشريط وقد أودعت في حافظته، فإن رسم خارطة جغرافية، فسابقاً أودعوا حافظته مثلاً خارطة الجزيرة الفلانية، فإن أمرته برسمها، فإنّ هذا السؤال يحرك نقطة معينة في الحافظة ويشرع الشريط بالعمل ويسلمك الخارطة التي أودعها العالم الفلاني حافظته مسبقآ، وعليه فإن أودعت حافظته مائة فرع علمي، ثم سألوه عن الفرع مائة وواحد لما أجاب...!
الواقع إنّ هذا الجهاز بمثابة ببغاء ضخم وسريع وخفيف ذي عدّة أسرار يقول كل ما أودع وقيل له قل، والجهاز وإن فاق الإنسان كسائر المكائن والآلات في سرعة العمل، إلّا أنّه ورغم هذه القدرة الظاهرية والخلابة ليس له أدنى قدرة على الإبداع والإبتكار، فهو ليس إلّا حافظة، وعلى العكس من دماغ الإنسان الذي يسعه بيان عالم من الإبداع بما يتناسب والحوادث التي تقع.
وهنا اتّضح أنّ هذه الأعجوبة الصناعية ومهما كانت سعتها فهي محدودة بما يودع فيها... لا أكثر من ذلك، والحال دماغ الإنسان ليس بمحدود وله القدرة على التفكير بالأسئلة المستجدة غير المطروحة والإجابة عنها.
فلو فرض أن اجتمع كافة علماء وخبراء العالم واتفقوا، بدلاً من التنافس الخاطىء والتسابق من أجل إنتاج وصنع الأسلحة الفتاكة، على صنع عقل ألكتروني بحجم مدينة كبيرة، بل بقدر جبل عظيم وجعلوا له أشرطه حفظ كثيرة بحيث لا تسعها أعظم مخازن ومستودعات العالم، وتغذى بكافة المسائل العلمية، فإذا برزت أيّ مشكلة في المباحث الأدبية والطبية والصناعية والفلسفية والرياضية والاقتصادية و... توجهوا بالسؤال لأعجوبة الدهر هذه فيحصلوا على الجواب المناسب بأقصى سرعة، كما يقوم آلاف المهندسين بالاشراف على ذلك الجهاز وصيانته.
والسؤال المطروح: هل سيكون لهذا الدماغ العظيم والضخم الالكتروني وبجميع هذه المفردات قيمة دماغ الإنسان الذي لا يزن أكثر من كيلو غرام ونصف؟ لا بدّ من القول صراحة: لا، كلا، أبداً!... وذلك لأنّ قدرته ونشاطه محدود بما أودع به من حافظات، وهو عاجز إزاء المسائل الجديدة غير المتكهن بها، ليس له من إبداع أبداً، وعمله ملزم بالتعلق بالماضي، لا بالمستقبل حيث تبقى مثل هذه المسائل مستعصية عليه، والحال لايعرف دماغ الإنسان من معنى للماضي والحاضر والمستقبل، وما يستجد بعد آلاف السنين، فله أن يفكر في كل المسائل ويجيب عليها حسب قدرته.
كانت مشاهدة ذلك العقل الالكتروني تمثل بالنسبة لي درساً عظيماً في التوحيد، الدرس الذي لم أسمعه قبل ذلك أبداً، حيث فتحت لي هذه المشاهدة نافذة على عالم ماوراء الطبيعة، كما بعثت شعاعاً جديداً من الإيمان في قلبي، فكرت مع نفسي لو قال أحدهم : لقد صنع ذلك الجهاز الالكتروني الجبار بتلك العتلة الكاشفة للأخطاء وسرعة العمل الهائلة الفريدة، وتلك المثابرة والمطالعة الدقيقة من قبل عامل أمي ليس له أيّ معلومات فنية أو من قبيل الصدفة، فهل كان هناك من يصدق هذا الكلام؟ ألا يضحك الجميع عليه بسبب هذا الزعم الأجوف، بل لو زعمت الدنيا برمتها ذلك لما وسعني إلّا القول بأنّها على ضلال، وأنا مستعد لنعتهم بالمجانين، بدليل أنّهم يقولون ما لا ينبغي أن يتفوه به عاقل!
فهل والحال كذلك أستطيع التصديق بأنّ دماغ الإنسان الذي لا يزن أكثر من كيلو ونصف، وهو ما عليه من الإبداع والنشاط الذي لا يعرف الحدود، وتفوق قدرته ذلك العقل الالكتروني الذي له حجم مدينة كبيرة، أنّه من قبيل الصدفة دون أن يكون هناك من برامج وخطط بهذا الشأن؟ ليس لعاقل أن يصدق ذلك أبداً.
ولهذه الحقيقة الجليّة أن تلفت اهتمام عامة علماء العلوم الطبيعية نحو القدرة التامة والعقل الكل والحكمة المطلقة لما وراء الطبيعة، وقد التفت إلى ذلك الكثير من العلماء من قبيل أنشتاين وداروين وفلاماريون و... ليصرحوا بأنّه الله.
بينما اكتشف البعض الاخر حقيقته فقط حيث سلكوا طرقاً أخرى في تسميته، وخلافاً لما يتصوره الأعم الأغلب فليس هنالك من خلاف بين العلماء بشأن وجود العقل الكل، والاختلاف على تسميته حيث يصطلح عليه البعض بالطبيعة بينما يسبغون عليها صفات الله من قبيل العلم والقدرة.

 

captcha