حريّ بنا ونحن نعيش ذكرى استشهاد الامام الباقر(عليه السلام) بناء على ماجاء في الرواية المشهورة ان استشهاده كان في اليوم السابع من ذي الحجة في عام 114 للهجرة(1) ان نستلهم التعاليم السمحاء التي كان يسير عليها ويوصي بها هذا الامام العظيم، ونتعرف على القيم والعلوم التي كان يعلمها ويؤسس لها بين الناس.
وهذه المناسبة هي فرصة مؤاتية جدا للنهل من افكار ورؤى آية الله العظمى الشيخ مكارم شيرزاي النيّرة، لنتعرف على اهم الابعاد والتعاليم الاساسية في مدرسة الامام الباقر عليه السلام التي استعرضها سماحته، لتكون متاحة للقراء الاعزاء.
لاريب ان دراسة وتحليل السيرة العلمية الضخمة للامام الباقر(عليه السلام) وبيان خطبه واقواله ومآثره في قيمة التعقل وضرورة التفكير ووجوب تحصيل العلم وكسب المعرفة، مضافا الى قراءة التراث العظيم الذي تركه هذا الامام الهمام من احاديث وخطب وسيرة علمية وعملية فذه ونادرة التي تجلّت في الروايات الشريفة الكثيرة عندما تناقلها شيعته واشاعوها بين الناس، هي امور جديرة بالعناية والاهتمام، وتعكس الضرورة القصوى في تبين ونشر التعاليم والاسس العلمية للمدرسة التي شيدها الامام الباقر عليه السلام، من هنا سوف نستعرض في هذه المناسبة الخصائص والابعاد العلمية لهذه المدرسة، من خلال القراءات والرؤى العميقة للمرجع الديني الكبير آية الله العظمى الشيخ مكارم شيرزازي(دامت بركاته) ونقدمها لاتباع وشيعة الامام الباقر(عليه السلام) والمتعطشين للاطلاع على علمه ومعارفه.
وقفة مع مفهوم لقب الامام الشريف ومعناه(باقر العلوم)
فيما يتعلق بسرّ تلقيب الامام الباقر(عليه السلام) بباقر العلوم يقول اية العظمى الشيخ مكارم الشيرزاي: "انه يستحق وبجدارة لقب باقر العلوم، ولذلك اختص به دون سواه؛ لأنه بقر العلوم المختلفة بقراً واحاط بتفاصيلها".
ومن اجل تعزيز التعاليم الاسلامية وترسيخ قواعدها في جميع فنون العلوم كالتفسير والعقائد والفقه والاخلاق وغيرها وتناولها في جميع الدراسات الاسلامية وردت عنه روايات مهمة وشريفة، والدليل على كثرة ما روي عنه من احاديث ان محمد بن مسلم وحده قد روى عن هذا الامام ثلاثين الف حديث(2).
ازدهار العلوم الاسلامية؛ الارث العلمي العظيم للامام الباقر(عليه السلام)
قال المرجع الشيعي الكبير في بيان وشرح المعاني القيمة والعظيمة في الاحاديث الواردة عن اهل البيت المعصومين عليهم السلام، وخصوصا الروايات التي وصلتنا عن الامام الباقر عليه السلام ما يلي: مما يؤسف له ان العديد من الروايات والكلمات النفيسة لاهل البيت عليهم السلام لم تصلنا، وما وصلنا منها انما حصل بعد جهود ومساعي كبيرة ومضنية(3)، ولكن ان اكثر الروايات التي في حوزتنا الان عن اهل بيت العصمة والطهارة والتي تصل الى عشرات الالاف من الاحاديث انما هي عن الامام الخامس والسادس عليهما السلام وهما الامام محمد بن علي الباقر والامام جعفر بن محمد الصادق، ومجموعة من الاحاديث المهمة الاخرى جاءتنا عن الامام الثامن الامام علي ابن موسى الرضا عليه السلام، ويعود السبب في وصول هذه الاعداد من الروايات عن هؤلاء الائمة الكرام الى كثرة الضغوط التي كانوا يواجهها سائر الائمة عليهم السلام من الاعداء وحكام بني امية وبني العباس، الا انه هؤلاء الائمة الثلاثة استطاعوا وبسبب انشغال السلطات آنذاك عنهم من ممارسة دورهم الرباني في نشر العلم والمعرفة واعلاء كلمة الحق، ونقل ما وصلهم عن آبائهم واجدادهم من احاديث ومآثر عن رسول الله في سائر ابواب العلوم واحكام الفقة الاسلامي(4).
وقال سماحته عند اشارته الى الارث العظيم للتعاليم النبيلة الواردة عن الامام الباقر والامام الصادق عليهما السلام، ذكر سماحته ما يلي: نلاحظ في وقتنا الراهن عند مراجعتنا لاي كتاب اصولي اوفقهي أو تفسيري أو عقدي واخلاقي قال الباقر وقال الصادق، وهذا الامر يعود الى ان هذين الامامين الهمامين؛ لانهم تركوا لنا ارثا عظيما من العلوم الاسلامية المختلفة.
العلوم الباقرية مصدر حركية الفقه الشيعي وحيويته
يعتبر آية الله العظمى مكارم الشيرزاي ان مصدر حيوية الفقه الشيعي وحركيته التي لا تتغير هو التعاليم النيرة التي ورثت عن الامامين الباقرين عليهما السلام، وذكر في هذا السياق: اذا كان فقهنا اليوم غني عن القياس ونحوه من الوسائط الاخرى فهو انما يرجع الى تلك الاحاديث التي ورثناها عن هذين الامامين الهمامين، وبها صار باب العلم عندنا مفتوحا، في حين اغلق باب هذه العلوم عند الاخرين، ولذلك لجؤوا الى الوسائل الظنية لمعالجة بعض المواقف الفقهية، من هنا فلا بد من البحث عن سرّ هذا الامتداد والحركة العلمية في الفقه في تعاليم واقوال الامام الباقر والصادق عليهما السلام؛ وذلك لان كل واحد من الكتب سنية كانت أو شيعية نلاحظ عند قراءتها وتصفحها اقوال وكلمات كثيرة لهذين الاماميين، وعلى هذا النحو نخلص ان الى الامام الباقر والصادق عليهما السلام كانا يهدفان الى بيان وتعزيز قواعد الدين واصوله.
الحوارات العلمية وسيلة للتعليم والارشاد في مدرسة الامام الباقر العلمية
في اطار نشر التعاليم الدينية التي جاء بها نبي الاسلام(صلى الله عليه وآله) وتبليغ المعارف الامامية الاصيلة كان الامام الباقر(عليه السلام) يوظّف الحوارات العلمية أيضاً ويستعين بالمناظرات الدينية مع كبار زعماء الاديان التوحيدية وتسخيرها لهذا الغرض.
وقد كان المرجع آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيزراي قد سلط الضوء على هذا الموضوع عند شرحه لبعض مناظرات الامام عليه السلام وتعرّضه لواحدة من اهم الحوارات العقدية مع احد كبار الاساقفة المسيحيين في الشام، حيث قال: كما نقل في التاريخ ان الامام الخامس عليه السلام لما اجبر على القدوم الى الشام وبعد لقاء بعض حكام بني امية في دمشق رأى عليه السلام من المناسب جدا قبل ان يترك تلك البلاد ان يبث الوعي في نفوس الناس هناك وينشر العلم والمعرفة في صفوفهم ووجد انها فرصة ايضا ليعرّف نفسه ومكانته اليهم، وبذلك يكون قد مارس دوره الطبيعي في تغيير افكار ومتبنيات اهل الشام بصورة عامة(5).
شرح آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي لوقائع المناظرة مع كبير الاساقفة المسيحيين:
ذكر المرجع الكبير في بيان طبيعة ما جرى في اهم المناظرات التي قام بها الامام الباقر عليه السلام مع الاساقفة في الشام ما يلي: ان ما حصل هو ان هشام بن عبد الملك حينما فشل فشلا ذريعا في التطاول على الامام والتقليل من مكانته وخاب أمله بعدم تمكنه من ابقاء الامام في الشام، اضطر الى الموافقة على عودة الامام الى المدينة المنورة، وعند خروجه برفقة ولده المبارك من القصر الاموي شاهد في نهاية باحة القصر عددا غفيرا من الناس وهم جلوس، سأل الامام عليه السلام عن سرّ اجتماع هؤلاء الناس، بقوله: من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء القسيسون والرهبان، وهذا عالم لهم يقعد اليهم في كل سنة يوما واحدا يستفتونه فيفتيهم، فدخل الامام بينهم متنكرا واخبر هشام بذلك، فأمر بعض غلمانه ان يحضر الموضع فينظر ماذا يصنع الامام عليه السلام، ولم يمض وقتاً طويلا حتى جاء الاسقف الكبير الذي كان طاعنا في السن وجلس في صدر المجلس، فأدار نظره، ولما لفت وجه الامام انتباهه نظر اليه وقال: أمنّا أم من المسلمين؟ قال الامام الباقر عليه السلام: من المسلمين، فقال: من ايّهم انت من علمائها ام من جهّالها؟ فقال: الامام عليه السلام: لست من جهّالها. ثم قال له: أأسألك أم تسألني؟ فقال الامام الباقر: سل ان شئت، فقال: من اين ادعيتم ان أهل الجنة يطعمون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون؟ وما الدليل فيما تدعونه من شاهد لا يجهل؟ فقال الامام الباقر عليه السلام: دليل ما ندعي من شاهد لا يجهل الجنين في امه يطعم ولا يحدث. ثم قال هلا زعمت انك لست من العلماء؟ فقال الباقر: ولا من جهّالها. فقال اسألك عن مسألة اخرى، فقال عليه السلام سل. فقال: من اين ادعيتم ان فاكهة الجنة ابدا غضة طرية غير معدومة عند جميع اهل الجنة؟ وما الديل عليه من شاهد لا يجهل. فقال الباقر عليه السلام: دليل ما ندعي النار في المصباح، انت لو قبست منها لتشتغل مئات المصابيح ظلت نار المصباح الاول باقية أبدا لا تقل. فراح الاسقف يسأل الامام محمد الباقر بكل ما خطر على ذهنه من أسئلة صعبة، وكان يتلقى الاجابة المقنعة لذلك، ولما رأى نفسه عاجزا نهض عند ذلك قائما غاضبا وقال: جئتموني باعلم مني واقعدتموني معكم حتى هتكني وفضحني، واعلم المسلمين بأن لهم من أحاط بعلو منا وعنده ما ليس عندنا، لا والله لا كلمتكم من رأسي كلمة واحدة، ولا قعدت لكم ان عشت سنة، ثم ذهب بعد ذلك.
وقد انتشر هذا الحدث وتداعياته في كل احياء دمشق وساد جوّ من الفرح والبهجة في كل ربوع الشام، أما هشام بن عبد الملك فبدلا من أن يفتخر بما حدث لغلبة الامام عليه السلام وانصاره في المناظرة على الراهب الاكبر، صار يقلق ويضطرب من ذيوع وانشار علم الامام وسعة معرفته وبالتالي حُب الجمهور له، ورغم انه تظاهر بإرسال هدية الى الامام الباقر عليه السلام الا انه أمر بخروج الامام من دمشق فورا، فأراد هشام وبسبب غضبه وامتعاضه من انتصار الامام العلمي الباهر في المناظرة امام كبير النصارى، حاول ان يقدح بعلم الامام ويقلل من قيمة هذا الانتصار، فوجه الى امامنا تهمة الانتماء والميل الى النصرانية، فكتب بطريقة حقيرة ومتعسفة الى بعض عمّاله في البلدان المجاورة كواليه على مدينة مدين ما يلي: ان ابني ابي تراب الساحرين: محمد بن علي وجعفر بن محمد الكذابين، فيما يظهران من الاسلام وردا عليّ، ولما انصرفا الى المدينة مالا الى القسيسين والرهبان من كفار النصارى واظهرا لهما دينهما ومرقا من الاسلام الى الكفر دين النصارى وتقربا اليهم بالنصرانية، فكرهت ان انكل بهما لقرابتهما، فاذا قرأت كتابي هذا فناد في الناس: برئت الذمة ممن يشاربهما أو يبايعهما أو يصافحهما أو يسلم عليهما فانهما قد ارتدا عن الاسلام، ورأى امير المؤمنين ان يقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما شر قتلة.
هذا ولكن خابت كل المساعي الحثيثة التي حاول من خلالها هشام بن عبد الملك ان يخفي الحقيقة ويحجب نور علم الامام وسعة معرفته، فان تلك ولاية مدين التي تأثرت في بداية الامر بالشائعات التي روّج لها وحاول ان يقنع الناس بها، الا انهم وبعد ان سمعوا قوة الحجة ووضوح البرهان الذي كان يحاجج به الامام عليه السلام، ظهرت لهم حقيقة الامام وعظمته ومكانته الرفيعة، ومن هنا فان الرحلة التي اجبر عليها الامام واظطر اليها انتهت الى سفر مثمر واضحت زيارة تعليمة رائعة(6).
التعقل الشيعي من أهم المزايا التي امتازت بها مدرسة الامام الباقر(عليه السلام)
مما لا شك فيه ان الازدهار العلمي والمعرفي في الفكر الامامي والعلوم التي تبناها لاسيما في التعاليم والأسس التي أرستها المدرسة العلمية للامام الباقر عليه السلام، ناتج عن توظيف المناهج العقلية واستخدام عناصر التعقل والتفكير في التعاطي مع المجريات الحياتية، خصوصا وان الامام الباقر عليه السلام كان قد اكّد على ذلك.
وفي شرح وبيان آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرزاي لمقولة التعقل ودور العقلانية في الحصول على العلم والمعرفة كأهم عنصر في تميّز المدرسة الامامية عن غيرها من المدارس، يعتمد على رواية مهمة للامام الباقر عليه السلام، وهذه الرواية على النحو التالي:
قال الامام الباقر عليه السلام: «يَا مُيَسِّرُ أَلَا اخْبِرُكَ بِشِيعَتِنَا؟ قُلْتُ: بَلى جُعِلْتُ فِداكَ قَالَ: إِنَّهُمْ حُصُونٌ حَصِينَةٌ وصُدُورٌ أمِيْنَةٌ وأَحْلَامٌ وَزِيْنَةٌ لَيْسُوا بالمَذِيعِ البَذِرِ وَلَا بِالجُفَاتِ المُرَاعِيْنَ رُهْبَانٌ بِالْلَيلِ اسُدٌ بِالْنَهارِ»(7)،(8)،(9).
وقال المرجع الكبير في شرح هذا الحديث المبارك ما يلي: يتضمن هذا الحديث القصير سبعة امور لنعت الشيعة وتوصيفهم يكمن خلفها احساس عميق بالمسؤولية وضرورة ممارسة الدور الفاعل للانسان في هذه الارض من خلال توظيف عقله وفكره في التعاطي مع الجوانب المختلفة للحياة.
الاول: انهم حصون حصينة، اذ على الشيعي ان يكون متماسكا قويا أمام نفوذ الاعداء وتدخلاتهم، خصوصا وان الوضع الثقافي الراهن في عالم اليوم أصبح على نحو يهدد شبابنا بشكل حقيقي وجدي، فهل اتخذنا تدابير مناسبة لزرع الثقة في نفوسهم وبث روح الوعي واليقضة للمحافظة عليهم من الانجرار وراء التيارات المنحرفة؟ فاننا ان لم نتمكن من القضاء على الجراثيم الضارة، فإنه علينا بناء مناعة كافية وقوية فينا امامها حتى نستطيع التماسك وشق طريقنا دون توقف.
الثاني والثالث والرابع: الامانة والتعقل والمحافظة على السرّ، حيث كان الائمة عليهم السلام يشتكون من بعض تصرفات بعض الشيعة ويمتعضون من سلوكيات اشخاص كانوا يجلسون عندهم ويسمعون كلامهم واسرارهم ويفشونها ويتحدثون بها لمن لا يؤتمن على تلك الاسرار، والمراد بالاسرار هنا احاديثهم عن علم الغيب والشفاعة في يوم القيامة والائتمان على علوم رسول الله وكونه شاهدا وناظرا الى أعمال الشيعة والمعجزات التي تتحقق على ايديهم صلوات الله عليهم، وبعض المسائل الاخرى التي لا يدركها الناس العاديين ولا يقدرون على استيعابها، الا ان بعض الشيعة البسطاء والسذج يتحدثون بكل شيء أينما يجلسون(10)، وهذا الأمر يبعث على العداوة والاختلاف والبغضاء، من هنا يعبّر الامام عن ان شيعتنا أمناء لا يفشون السرّ لأيّ سبب كان ولا يذيعون كلامنا عند أي جماعة، ولا يبثون الخلاف والعداوة بين هذا وذاك(11).
والأسوء من هؤلاء هم الغلاة الذين ظهروا في زماننا أيضاً، اذ يتحدثون وبذريعة الموالاة لأهل البيت عليهم السلام بالكفر والتعابير القبيحة بحق المعصومين الكرام، الامر الذي لا يرضى به اهل البيت أبداً، إذ علينا توخي الحذر من هؤلاء الغلاة ولابد من الوعي واليقضة أزاء تصرفاتهم، ويمكن تسجيل مؤاخذتين على هذه الفرقة:
الاولى: ان معتقدات هذه الفرقة والمجموعة وفهمها سيكون سبباً في تلاشيها واضمحلالها؛ حيث يتصورون انهم حينما ينعتون الائمة عليهم السلام أو السيدة زينب عليهم السلام أو الشهداء في كربلاء بصفات الله ونعوته، يتوقعون ان هذه هي الولاية الحقيقية.
والثانية: وهو الاكثر خطورة من الاول، اننا نعيش في زمن وسائل التواصل العالمية وأدوات اعلام ونشر غاية في السرعة، فلو حدث أمر ما صباح اليوم، تجده بعد ساعة واحدة أو اقل قد انتشر في كل نقطة من نقاط العالم، وهذه الأساليب المفرطة وكلمات الغلو والخطابات الضالة سوف تنتشر الى اماكن عديدة من العالم وبالتالي ستكون وصمة كبيرة على جباه الشيعة وتلصق بهم شتى التهم والاكاذيب، وأبسط ما يقال عنهم انهم كفرة، الأمر الذي سيعقبه القتل والاذى فيهم، فمثل هؤلاء الجهلة لا يعون ان مثل كلماتهم وتصرفاتهم هذه سوف تؤدي الى قتل مجموعة من الشيعة في مكان آخر من العالم.
فآه من أولئك الرفاق الجهلة والأناس السذّج، وويل لزمان تكون فيه المجالس بيد الاميّيّن عديمي الوعي والاطلاع والعلم، علينا ان لا ندع زمام المبادرة لعقد هذه المجالس بيد هؤلاء(12).
الخامس: الرأفة والمحبة، فالشيعة ليسوا غلاظ ولا يتعاملون مع الناس بشدة وفضاضة، بل هم يحملون روح وسماحة الامام علي وسائر الائمة المعصومين عليهم السلام، حتى مع اعداءهم(13).
السادس والسابع: قائمين الليل أسد في النهار، فالشيعة الحقيقيون ليسوا بمرائين، ولا يرغبون بالتظاهر والتفاخر، لكنهم جمعوا حالتين مختلفتين مع بعضهما، فلو شاهد المرء الشيعي يمضي وقته في العبادة والتهجد يقال عنه زاهد بالدنيا ويتوقع انه ضعيف ومقصر في اموره الحياتية ومعاشه الدنيوي، الا ان الشيعي الحقيقي ليس كذلك بل هو كالأسد في حياته اليومية وواقعه الاجتماعي وحاضر بقوة لأداء ما يطلب منه.
وعند التأمل في هذه الفقرة من كلام آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرزاي يمكن الوصول الى صفات وخصائص التشيع الاخرى في حيوية التعاليم والمتعقدات الشيعية، وبالتالي يمكن نشرها وتبليغها الى شعوب وبقاع اخرى من العالم، من هنا يرى المرجع الكبير ومن خلال التأكيد على هذه المسألة المهمة يسهم في التعرف على العلوم الاخرى لاهل البيت، وذلك على اساس التعقل والتدبر والتفكر كأهم عنصر ومزيّة تتصف بها المدرسة الامامية، ويتماز بها الشعية الحقيقيون، فان الاستراتيجية التي تقوم عليها المدرسة العلمية للامام الباقر عليه السلام هي عنصر الـ «أَحْلَامٌ وَزِيْنَةٌ» وعليه فان الشيعة وعلى ضوء ما يراه المرجع الكبير يمكن تقسيمهم الى خمسة اقسام، وهم على النحو التالي:
1 ـ الشيعة جغرافياً، فان من يولد في دولة شيعية يكون وبحسب الاحصاء الطبيعي جزء من افراد ونفوس ذلك البلد.
2 ـ الشيعة بالوراثة، فالمرء الذي يولد لأبوين شيعيين ويتربى في احضانهم يقال له شيعي ايضاً(14).
3 ـ الشيعة باللفظ، وهم الافراد الذين يعترفون بألسنتهم أنهم شيعة علي ابن ابي طالب، ولكن على مستوى السلوك والعمل فلا اثر لتشيعهم(15).
4 ـ الشيعة بالشكل والظاهر، وهم الشيعة الذين لديهم سلوكيات شيعية سطحية وظاهرية ولم يبلغوا مرحلة العمق والحقيقة في التشيع، فهم يقيمون العزاء ويتقنون التوسل بأهل البيت عليهم السلام وزيارة اضرحتهم وقبورهم ونحو ذلك، فمن اين يعلم انهم شيعة؟ هل بسبب اقامة المجالس الحسينية وضرب الصدور في ايام عاشوراء والمشاركة في زيارة مسجد جمكران مثلا؟! ونحن هنا لا نقصد التقليل من اهمية هذه الطقوس أو تسخيفها والعياذ بالله، ولكن ما نريد قوله ان هذا اللون من التشيع تقف حدوده عند هذا النقطة وليس اكثر، وهؤلاء لا يفهمون من التشيع الا ممارسة واقامة تلك الطقوس، ولكن هل هم يتحلون بالصفات التي ذكرها عليه السلام في الحديث المتقدم "رهبان بالليل، اسد بالنهار، احلام وزينة وصدور امينة و..." يبدو ان الامر ليس كذلك.
5ـ طلاب علوم ومعارف اهل البيت عليهم السلام(الشعية الحقيقيون)، يعتبر سماحة المرجع الشيخ الشيرزاي ومن خلال التأكيد على مفردة العلم والمعرفة وضرورة تحصيل العلوم الاسلامية، ان اهم ما يتصف به الشيعة الحقيقيون هو بذل الوسع لتحصيل علوم اهل البيت عليهم السلام، وفي هذا السياق يقول سماحته: ان الشيعة الواقعيون هم الافراد المطلعين على المعارف الالهية وكتب وكلمات اهل البيت عليهم السلام، وهم الذين تجد كل تصرفاتهم وكلامهم وصفاتهم انعكاسا لما جاء في روايتهم وكلامهم المبارك(17).
ان الحركية والنضوج التي تتمتع بها العلوم الشيعية، لاسيما تعاليم المدرسة العلمية الباقرية، تعود الى عنصر العلم والتعقل والتفكر، على نحو ان كبار علماء اهل السنة كانوا من تلامذة الامام الباقر والصادق ومن اصحابهم المقربين، كأبي اسحاق وابراهيم بن محمد بن يحيى ونحوهم، فقد تعلم هؤلاء منهما عليهما السلام ونقلوا احاديث وحكايات كثيرة عنهما، وعلى هذا النحو فقد كانوا بعيدين عن التعصب والتطرف كالشافعي وابن الاصبهاني وغيرهم، وقد وثّق ابراهيم بن محمد وبرّء من الكذب ووضع الحديث ونقل الاحاديث غير الصحيحة والضعيفة(18)،(19).
كلمة أخيرة: حديث موجه الى تلامذة المدرسة العلمية الباقرية
وفي كلمة مؤثرة لسماحته كان قد وجهها الى طلاب العلوم الدينية مؤكدا فيها على ضرورة التمسك بالرسالة الحقيقة لطلاب العلم ووجوب الاستمرار والمضي في النهل من علم الامام الباقر والامام الصادق عليهما السلام، قال ما يلي: ان القاعدة والاساس الذي يقوم عليه مفهوم البعثة والنبوة هو العلم والمعرفة، وقد حصل ذلك حينما كان يسود العالم الجهل والظلام، فبعث الله النبي محمد(صلى الله عليه وآله) ليعلم الناس الكتاب والحكمة وينير الطريق للبشر ويزكي نفوسهم ويطهر قلوبهم من الشرك.
ولذلك، على طلاب العلوم الدينية ان يشكروا الله ويحمدوه؛ لحصولهم على هذه المنزلة وهذه الحضوة، وتواجدوهم في هذا الطريق وهو طريق كسب العلم والمعرفة الدينية، فإنكم جنود امام العصر عليه السلام وطلاب الامام الباقر والصادق عليهما السلام، نحن جميعا نتغذى من مائدتهما ونجلس في مجلسهما، ونحن ننهل كل يوم من علمهما وفيض معرفتهما(20)، ندعوا الله العلي القدير ان يدوم ظلهم فوق رؤوسنا ورعاتهم لنا، ويعطينا القدرة على استيعاب علومهم والسير على خطاهم في الدنيا ويرزقنا شفاتهم في الاخرة(21).
لا يوجد تعليق