في الذكرى السنوية للولادة الميمونة لامام الشيعة العاشر الامام علي ابن محمد الهادي(عليه السلام)، نجد من الضروري تعميق البحث والدراسة حول سيرته العطرة ولزوم التعرف على عطائه العلمي والمعرفي الضخم واستعراض تعاليمه العظيمة شيئا فشيئا؛ لان هذا الامام كان في وقت من الاوقات زعيما وقائدا للشيعة وتقلد منصب الامامة، ولكن كانت حجم الضغوط انذاك كبيرة ومستوى التشدد والمراقبة الذي تمارسه السلطات الحاكمة في ذلك الوقت كان اكثر غلظة(1).
وفي المقابل لم تتاح الفرصة والحرية الكافية لهذا الامام الهمام ليمارس دوره في نشر العلم والتبليغ الرباني، ولكن رغم كل تلك المضايقات التي كان يواجهها، فمضافا الى ردوده واجوبته العديدة للشبهات الاعتقادية كانت لديه ايضا نشاطات اخرى من قبيل الاحاديث التي كان يقولها وحلّه للعديد من المسائل والمعضلات الفقهية، الى جانب تربيته وتعليمه لاصحابه وتلاميذه، فكلما تحين الفرصة ويتاح له المجال المناسب يكون سيد الموقف في ميدان العلم والمعرفة والدين(2)،(3).
وهنا نستذكر بعض تلامذة الامام الهادي(عليه السلام) الكبار كايوب بن نوح وعثمان بن سعيد الاهوازي وعبد العظيم الحسني المدفون في مدينة طهران حاليا، وقد صنّف هؤلاء التلاميذ كتبا علمية وفقهية قيّمة(4).
ومع هذه البيانات التي تقدمت سوف نستعرض للقراء الكرام التعاليم الاساسية التي كان يطبقها الامام الهادي(عليه السلام) للارتقاء بمستوى الواقع الاسلامي، من خلال الافادة من الاراء والافكار والتوصيات القيمة لسماحة آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرزاي مد ظله الشريف.
وقفة مع رؤية الامام الهادي(عليه السلام) لماهية وطبيعة عالم الدنيا
الدنيا سوق ربح فيه قوم وخسر آخرون
من جلمة التعاليم الاساسية التي نادى بها الامام الهادي(عليه السلام) هو تفسيره الرائع للدور الفريد الذي تلعبه الحياة الدنيا في الارتقاء بسعادة الانسان والاخذ بيده نحو السمو والتكامل، من هنا تطرق سماحة آية الله العظمى المرجع الشيخ مكارم الشيرزاي الى كلام الامام المبارك المتعلق بكيفية تعاطي الانسان مع عالم الدنيا بقوله: نقل عن الامام الهادي(عليه السلام) ان " الدنيا سوق ربح فيه قوم وخسر اخرون "(5).
وقال سماحة المرجع في تفسير هذا الحديث المبارك: ان هذه الرواية التي نقلت عن الامام علي الهادي النقي(عليه السلام) تشير الى ضرورة عدم النظر الى الدنيا كهدف نهائي ونقطة قصوى، بل هي اداة ووسيلة لتحصيل السلوك الحسن واعمال الخير، وينبغي تفسير هذا العالم على انه محطة لتحصيل العلم والمعرفة الالهية للحصول على المنزلة الرفيعة في عالم الاخرة(6).
وأضاف سماحته حفظه الله ورعاه في تفسير كلام الامام الهادي البليغ وتعزيز ضرورة فهم الدنيا على انها مزرعة للاخرة وسوق لربح وتحصيل العالم الابدي ما يلي: ان هذا العالم ليس وطن الانسان الحقيقي وليس موضع سكناه الاخير والدائم، بل هو محل للتجارة الكبرى وطريق ينتهي بالانسان الذي وهبه الله تعالى كنوزا وثروة هائلة وهي ساعات الحياة والقدرة الانسانة الخلّاقة والمواهب والفكرية والعقلية الخارقة، ذلك الطريق سينتهي به الى الموطن الابدي والحياة السعيدة المطلقة الخالدة(7).
واستمرّ سماحة المرجع الشيرازي قائلا: ان الاناس المجتهدين والواعين والذين يعملون بجد واجتهاد ويقضة لايهدئون لحظة واحدة، وهم اولائك الذين يعون فن هذه التجارة الكبرى ويتمتعون بالمهارة الكافية للتعاطي مع سوقها الواسع تجدهم دائما في سعي حثيث لاختيار الثروة المميزة والبضاعة القيّمة، وتراههم ينتقون وبجهد دؤوب المتاع الخالد للمصير والنهاية المشرقة، ولايضيّعون تلك التجارة العظيمة بالفساد والاجرام والغرور، بل يبتعدون عن كل تلك النقائص والمسالك الهابطة(8).
الفرق بين الرؤية المادية الغربية لعالم الدنيا ورؤية الاسلام التوحيدية لها
وفي اكمال شرحه وبيانه لاسرار هذه الرواية الشريفة، اشار آية الله العظمى مكارم الشيرازي الى اختلاف النظرة الغربية والنظرة الاسلامية لعالم الدنيا فقال: على ضوء الرؤية المتشائمة التي تحملها الحضارة المادية ازاء مفردة الدنيا واساس تلك الرؤية ان كل شئ سيذوب ويتلاشى بعد الموت، من هنا فلا داعي للحديث عن مفهوم الاخلاق او القيم وستكون المفاهيم المشابهة لهما فارغة من المحتوى، واما على بحسب الرؤية القرانية فان الدنيا حلبة المنافسة والسبق للوصول الى الاخرة(9).
وحتى يثبت المرجع الديني آية الله العظمى الشيرازي هذه النقطة الهامة قال في شرح ذلك ما يلي: ان الدنيا هي دار الامتحان والاختبار والابتلاء والاخرة هي دار السعادة الابدية، فلو نظرنا اليها انها مزرعة للاخرة وسوق نتكسب به لتلك الدار، حينها سوف نسعى اكثر وسوف يكون للحياة معنى وهدف، والا فسوف تكون حياتنا تافهة وجوفاء كما هي عند الماديين في الغرب(10).
لذا فان سماحته ومن خلال التفكيك بين الفلسفة المادية للحياة والفلسفة الدينية التوحيدية، قال: حتى نحصل على الحياة النقية الهادئة لابد من دفع الضريبة وليس الحصول عليها يتم بشكل مجاني دون جهد او عناء(11).
التوجه الى الله وتوحيده السبيل الوحيد للحيلولة دون الخسران المبين في الدنيا
وهكذا يمضي سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي في تفسير حديث الامام الهادي(عليه السلام)، مستندا الى سورة العصر التي تدق ناقوس الخطر وتحذر من الخسارة الفادحة والغبن المحدق بالانسان عندما يتعامل مع الدنيا بشكل خاطئ، فقد نقل عن احد العلماء الكبار انني ادركت معنى سورة العصر من شخص يبيع الثلج، حيث كان يقول: ارحموا من يذوب رأس ماله ارحموا من يذوب رأس ماله!، فقلت في نفسي هذا هو معنى «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ(12)» حيث يتصرّم الزمان بالنسبة اليه وينقضي عمره دون ان يكسب الثواب بفعل الخير، وفي النهاية يكون خاسرا ايّما خسارة(13)،(14).
ومن هنا فان الطريق الوحيد للحيلولة دون الوقوع في شراك هذا الخسران العظيم والضياع القهري والاجباري هو التوجه الى الله تعالى بفعل الخير والاعمال الصالحة، لذلك يقول سبحانه في القران الكريم: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وتَواصَوْا بِالْحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)(15)،(16).
وبتعبير آخر فان الشيء الذي يمكنه ان يمنع من الخسارة العظمى في هذا السوق الكبير والأمر الذي يقدر الانسان ان يبدل من خلاله تلك الخسارة بربح وفوز عظيم، هو عدم التفريط بهذه الثروة النفيسة والقيمة التي حصل عليها والمحافظة عليها من الضياع فانها سوف تدرّ عليه بكل الخير وسيكون ربحه مضاعفا عشرات ومئات وآلاف المرات وعلى أتم وأحسن وجه(17).
ومما لاشك فيه فان كل نفس يستنشقه الانسان فانه بذلك يكون قد اقترب من الموت خطوة، وكل نبضة من نبضات قلب الانسان تعني ان عمره صار اقصر وهو الى القبر اقرب، وعلى ضوء هذه المعادلة فان عليه ان يعوّض هذه الخسارة القطعية بعمل صالح وفعل طيب(18).
ويقسم المرجع الكبير الناس في تعاطيهم مع هذه الثرورة العظيمة والفرصة الثمينة وهي حياة وعمر الانسان الى عدة اقسام:
1 ـ طائفة من الناس يخسرون رأس مالهم النفيس ويهدرون عمرهم الثمين ازاء بعض المال او كثير منه، ويبنون به بيوتا متواضعة او قصورا وابراج عادية.
2 ـ وطائفة من الناس يفنون اعمارهم من اجل الوصول الى مقام ومنزلة معينة.
3 ـ وطائفة اخرى يصرفون اعمارهم من في سبيل العيش الدنوي واللذة المادية الزائلة.
4 ـ من الواضح ان كل واحد من سلوك الطوائف السابقة لا يمكن ان يكون ثمنا مقابل الكنز العظيم ورأس المال النفيس الذي منحه الله تعالى اليه وهي حياته وعمره، اجل ان ما يمكن ان يكون ثمنا وما بأزاء لهذه الحياة هو فقط وفقط رضا الله سبحانه والقرب والدنو منه(19). فانه ليس جزافا ان يسمى احد اسماء يوم القيامة بـ "يوم التغابن" الذي جاء في قوله تعالى من سورة التغابن:«ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ»(20).
من هنا فان التفسير الذي يذهب اليه سماحة آية الله مكارم الشيزراي لكلام الامام الهادي(عليه السلام) يشير الى النقطة التالية، فان سر القضية وعذوبة النكة تكمن في ان الباري سبحانه الذي يشتري جمال الوجود الانساني وقيمة حياته الحقيقية، وقد صدح القران الكريم بهذه الحقيقة بما يلي: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ...»(21)،(22).
وفي مناسبة اخرى يعبر القران الكريم ان الله تعالى يشتري جمال وحسن ما يصنعه الانسان وان كان قليلا، بل قليلا جدا، قال تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ»(23).
ومن جهة أخرى فان جزاءه العظيم لصنع الانسان وفعله للخير يتضاعف، فمرة يزداد بعشرة اضعاف واخرى بسبعمئة مرة حتى: «فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ»(24).
وعليه فان الله تعالى وعلى ضوء ما اعطى ومنح للانسان كل هذه النعم والفرص النفسية والثمينة، يعود مرة اخرى ويشتريها منه بأثمان مضاعفة لاتقاس بما تعاطى به الانسان بتلك الفرص(25).
العقلانية هي الحل الاساسي في الحصول على السعادة الدنيوية والأخروية
يعتبر سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرزاي، وبحسب تفسيره لرواية الامام الهادي(عليه السلام) الشريفة ان التعقل والعقلانية هي افضل سبيل للخلاص من الخسران الاخروي والضياع الدنيوي، وعبر عن ذلك بما يلي: ان التفكير بعاقبة الحياة واعداد الزاد والراحلة لسفر الاخرة هو سبيل العقلاء وقناعتهم، وهو سبب للحيلولة ون وقوع الكثير من الظلم والطغيان والفساد في الارض(26).
ومضى سماحته يقول في بيان ذلك: ان عالم الدنيا الممتلئ بالحوادث والوقائع المختلفة، والانسان السوي ـ بطبيعة العيش في هذا العالم ـ فهو يواجه كل هذه الوقائع، وهو حينما يكون مسكونا بالتفكير بالاخرة فانه سوف يبقى دائما ملتفتا لاعماله وحذرا من الوقوع في الخطأ والمعصية، واما الظلمة والمستكبرون والمجرمون الكفرة لايعبئون بعاقبة حياتهم ولايفكرون بنهاية اعمارهم، وبالتالي فهم يرتكبون ابشع الجرائم واقبح الافعال(27).
ومن هنا يجب القول ان الدنيا هي دار الاختبار والابتلاء والفناء والاخرة هي دار الخلد والبقاء، ولو نظرنا الى الحياة الدنيا على انها مزرعة الاخرة وسوقها الكبير، سوف يكون السعي اكبر، والحياة اكثر جدوى، لذا فان الرؤية الاسلامية لعالم الدنيا هي كون هذا العالم اطريق ومعبر وسوق لعالم الاخرة، كما عبر عن ذلك الامام سلام الله عليه في حديثه السابق وافصح عن هذه الحقيقة باعذب البيان(28).
معرفة النفس والوعي بالذات
ثم ان مقولة الوعي بالذات وضرورة الارتقاء بالمعرفة ووجوب ادراك القابليات وحدود القدرة ومديات الوسع في الوجود الانساني وطبيعة سيره وحركته نحو الله من جملة الامور المهمة والاساسية في كلام الامام الهادي(عليه السلام)، وهنا سوف نشير الى هذه النقطة ونبينها للقراء المتعطشين لمعرفة المعارف الشيعية الحقة من خلال الرؤية العميقة والفهم الدقيق لسماحة آية الله الشيرزاي.
ذكر سماحته بدوا في بيان هذه النقطة المفصلية في كلام الامام(عليه السلام) ما يلي: كما ان الوعي بحدود ومديات الذات اصل مهم في تهذيب النفس والارتقاء بها نحو الكمال وكسب السمو الاخلاقي ونحوه، كذلك فان الجهل بقدر النفس وقيمتها سيكون سببا في غربة النفس وابتعادها عن كل شئ واهم ماسوف تبتعد عنه هو الله تعالى وذلك هو الخسران المبين.
اننا نقرأ في كلمات الامام الهادي(عليه السلام): «مَنْ هانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَلا تَأْمَن شَرَّهُ "(29)،(30). اذ يعتبر سماحة المرجع آية الله مكارم الشيرزاي عند ما تعرض لبيان وشرح هذا الحديث الشريف ان معرفة النفس والوعي بالذات هو العنصر الاساسي والمهم في الارتقاء والسمو نحو المنازل والدرجات المعنوية الرفيعة، وفي هذا السياق يقول سماحته: يتضح من مضمون كلام الامام(عليه السلام) ان احد القواعد الاساسية في الحصول على الفضائل الاخلاقية والمران عليها ومن ثم تخطي الدرجات المعنوية في التكامل هو معرفة النفس والوعي الصحيح والحقيقي بالذات، وما لم يتمكن الانسان من تجاوز هذه العقبة الكئداء والحاجز الصعب لا يمكن الوصول الى اي من المقامات والدرجات الكمالية، من هنا فان علماء الاخلاق الكبار يؤكدون ويصرون على ان السالكين في هذا الطريق عليهم اولا وقبل كل شئ معرفة انفسهم وادراك حدود ذواتهم وحقيقتها، وعليهم الا يغفلوا عن هذا الموضوع الاساسي اطلاقاً(31).
ان اهم العوامل في الحيلولة دون الظلم والفساد في الواقع هو وجود الشخصية او لا اقل الاحساس والشعور بقيمة الذات وحقيقة النفس، فان الاشخاص الذين يتمعون بالاحساس والشعور بقيمة ذواتهم ومعرفة حقيقة انفسهم، بعض النظر عن معرفة الاخرين بهم فانهم وحتى يحافضوا على مكانتهم تجدهم يترفعون عن سلوك الكثير من الاعمال الخاطئة، ويبتعدون عن اداء اي فعل سيئ، بخلاف البعض الاخر من الناس الذين يجهلون ذواتهم ولا يحملون عنصر الشخصية والوعي بالنفس، فهم لا يكترثون لفعل اي شئ، من هنا نجد الاما(عليه السلام) يحذّر من التعاطي والتعامل مع هؤلاء؛ لان شرّه متوقع(32).
بناء الذات؛ اعداد الارضية المناسبة للجهاد الاكبر
وهكذا يمضى سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرزاي في شرح رواية الامام الهادي الهامة من خلال بيان مصطلح الجهاد الاكبر كعنصر اساسي في المنظومة الاسلامية، باعتبار ان رواية الامام الهادي الشريفة ناظرة الى تحقق هذه الفضلية الاخلافية والعقدية، وعلى ضوء ذلك مضى سماحته يقول: نحن نعلم ان محاربة الهوى والوساوس الجامحة التي تدفع بالانسان بشكل عنيف نحو المعصية وهي مصدر ارتكاب المرء للاثم، هذه المحاربة والمواجهة نعتها الاسلام بالجهاد الاكبر، وهي اهم من محاربة الاعداء في سوح الوغى واكبر قيمة، لماذا؟ لان هذا اللون من الجهاد هو وسيلة لبناء الذات وصناعتها، وما لم تبن الذات بشكل صحيح لا يمكن ان يتحقق النصر؛ لان الهزيمة غالبا ما تنتج عن نقطة ضعف(33).
ان الواقع الملوث بالجريمة والمعصية، يكون الجهاد فيه اولى من الجهاد والمكافحة في غيره، وتكون اهميته اوضح لتحقيق الاهداف الاجتماعية(34).
قيمة بناء الذات الفريدة في تبلور جوهر الوجود الانساني
مازلنا وبيانات سماحة آية الله مكارم الشيزراي وهو يستعرض ابعاد واسرار الحكم العظيمة ويبين احاديث وكلمات الامام الهادي الشريفة(عليه السلام)، ويفصح عن اهمية ومنزلة بناء الذات والشخصية البشرية، فيقول: ان احد اهم المسائل المهمة في الاديان السماوية هو النظام القيمي في المجتمعات البشرية، حيث ان كل شئ في عالم المادة وعالم المعنى له قيمة واعتبار ما، وفي كلا العالمين هناك امور وذوات رخيصة، واخرى ذات قيمة وثمن، ومن الطبيعي ان الانسان حينما يدرك ان امرا رخيصا او تافها فانه سوف يستسهله ويتعاطى معه دونما اهتمام ولايعبئ عند فقدانه او خسارته، بخلاف ما لو ادرك قيمة ذلك الشئ ومكانته المهمة عنده، فهو يتمسك به ولا يتنازل عنه بسهولة، مثال ذلك لو كانت قطعة من الذهب او المعدن النفيس بيد طفل فانك تجده يتخذها وسيلة للعب واللهو والتسلية، حيث لايعتد بها اذ لايدرك قيمتها او اهمتيها، واذا اقتنع فانه سوف يستبدلبها بقطعة صغيرة من الحلوى(35).
ان شخصية الانسان وعمره وحياته كذلك ايضا، فلو كانت بالنسبة اليه ثمنية غالية سوف لا يبيعها بسهولة ولا يبذلها الا في مضانّ الخير والحسن والجمال والعمل الصالح، ودليل ذلك هو قوله في الحديث القدسي: "خَلَقْتُ الأشْيَاءَ لِأجْلِكَ وخَلَقْتُكَ لِأجْلِى"(36). وقد سجد لهذا الانسان اعظم خلق الله وهم الملائكمة: " فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ"(37) من هنا فقد تبين معنى قيمة الانسان ومكانته، مضافا الى ذلك فان جميع الاشياء الموجودة في العالم قد سخرت اليه، وكل المخلوقات تعمل بامرته، الامر الذي يبين منزلة الانسان في الكون(38).
الان فلو تعرفنا على طبيعة هذا الجوهر النفيس وقيمته الحقيقية ومكانته في الوجود، فسوف لا نزهد به حتما لمجرد نزوة دنوية عابرة او نزهة وشهوة طارئة، واما لو لم ندرك قيمة هذا الجوهر الثمين ولم نعي حقيقة هذه الحياة ودورها في رسم الحياة الخالدة، سوف نزهد بذواتنا وانفسنا ونبيعها بابخس الاثمان، فلو هبط الانسان الى هذه الدرجة من المعرفة الناقصة بذاته فعلى اقرانه من الناس الاخرين ان يحذروه ولايأمنوا شره؛ لانه يمكن ان يقتل اخوه الانسان بأي ثمن وان كان بخسا؛ وذلك لانه لايعتبر اي قيمة لوجوده وذاته ونفسه(39)،(40).
حقيقة شكر النعمة في تعاليم واقوال الامام الهادي(عليه السلام)
تعتبر مقولة شكر النعمة وابعادها من جملة الامور التي تكون عرضة للغفلة والنسيان بين الناس، والكثير منهم لا يلتفتون الى قيمتها ودورها، على نحو ان بعض الرذائل والقبائح الاخلاقية تواجه مدياتها الوجودية ونتائجها السئية المختلفة من خلال شكر النعمة، من هنا فان آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرزاي سيبين لنا اهمية هذه النعمة ودورها في الارتقاء والسمو بالانسان من خلال الرواية المروية عن الامام الهادي(عليه السلام)، حينما قال: "الشّاكِرُ اسْعَدُ بِالشُّكرِ مِنْهُ بِالنِّعْمَةِ التَّى اوجَبَتِ الشُّكْرَ لِانَّ النَّعَمَ مَتاعٌ وَالشُّكْرَ نِعَمٌ وعُقْبى"(41).
وقال سماحته في شرح حقيقة الشكر متكئا على هذا النص الشريف ما يلي: حينما تكون حقيقة الشكر كما عبر عنها الامام(عليه السلام) فان تجسيدها وصونها لايكون عبر لقلقة اللسان فحسب، بل لابد من تجسيد الشكر واظهاره بشكل عملي، وكل نعمة وعطاء يوضع في مكانه ويستخدم في موضعه يعني ان شكر تلك النعمة ستجلب البركة والسعادة، وكل عمل خير وان كان قليلا سينتهي الى نعم كثيرة وافرة لاتقاس اطلاقا بذلك العمل القليل، ان النعم والافعال الطيبة التي يقصد منها الوصول الى الله وفي سبيله هي الثروة النفيسة التي يفتخر بها المرء في هذه العالم وسوف تجلب له السعادة في العالم الاخر، في حين لو لاحظت تلك النعمة وذلك الفعل لوحده سوف تجده ليس الا موهبة مادية، ولكن شكرها سوف يتحول الى قيمة اكبر وعطاء لا ينضب(42).
وعليه فان الشكر المكتمل هو الشكر القلبي واللساني والعملي، ولو كان ذلك الشكر في موضعه، سوف يعود بنعم وخير اكبر من النعمة التي شكر عليها، ولكن مما يؤسف ان غالبا ما يغفل الانسان عن هذه النكتة، ولا يلتفت اليها(43).
ويعتبر سماحة آية الله مكارم الشيرزاي ان الايمان والحلم والمعرفة من جملة نتائج وبركات شكر النعمة، فيقول: علينا ان نلتفت جميعا اننا لو شكرنا النعم الالهية وحققنا المعنى الحقيقي لشكر النعمة، فاننا من المؤكد سوف نقطف ثمار ذلك الشكر، في حين ان الله تعالى غير محتاج الى شكر الانسان(44).
ويستدل سماحته لاثبات ما ذكره الان بسيرة الامام الهادي(عليه السلام) الذي اشار الى موضوع شكر النعمة، فقال اننا نقرأ في سيرة هذا الامام الهمام ما قاله لاحد اصحابه وهو ابو هاشم الجعفري، قال يوما: اصابني ضيقة شديدة فصرت الى ابي الحسن علي بن محمد(عليه السلام) فاذن لي فما جلست حتى قال: يا ابا هاشم: اي نعم الله عز وجل عليك تريد ان تؤدي شكرها؟ قال ابو هاشم: فوجمت فلم ادر ما اقول له. فابتدأ(عليه السلام)، فقال: رزقك الايمان فحرم بدنك على النار، وزرقك العافية فأعانتك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبدل(45)، يا ابا هاشم انما ابتدأتك بهذا لاني اظنك انك تريد ان تكشو لي من فعل بك هذا، وقد امرت لك بمائة دينار فخذها(46).
فرجع ابو هاشم من محضر الامام وبدلا من ان يشكو ضيق المعيشة، وفقر الحال، رجع فرحا مسرورا بسب حسن ولطافة حديث الامام معه والاحترام الذي لاقاه منه(عليه السلام)(47).
وقد اشار آية الله العظمى مكارم الشيرازي صاحب تفسير الأمثل في شرح مصاديق عدم الشكر والجحد بالنعم في هذا العصر والزمان واثارها السلبية على تنظيم الاسرة والمجمتع وبالتالي على شخوص الافراد ايضا، فقال: عندما ترزق الله اسرة ما مولودا، وتعمد هذه الاسرة الى التقصير في تربيته والعناية بسلوكه واخلاقه، فهم لم يقوموا بشكر النعمة بشكل عملي، وسوف تستبدل تلك النعمة بنقمة ووبال على الاسرة نفسها وعلى المجتمع، وعلى هذا النحو قد يسلك ذلك المولود سبلا خطيرة كتعاطي المخدرات والادمان عليها، وبذلك يخسر اسرته ودنياه واخرته، وعلى العكس من الانسان الذي يبتلي بعلة او مرض ولكن في مقابل ذلك البلاء يصبر ويشكر الله طالبا منه العون والشفاء، وعند ذلك ينتبه ان ذلك المرض كان نعمة بالنسبة اليه؛ لانه لو كان سالما معافى فانه سيشارك في عمل كذا الذي تبين له ان حتفه سيكون بمشاركته فيه(48).
ومن هنا فعلى الانسان المؤمن ان يوظّف النعم الالهية للعمل الصالح والسلوك الحسن، ويستعملها بما يرضي الله لتتحول الى شكر عملي، ولكن الانسان المنافق الذي يختلف عن الانسان المؤمن في استخدام تلك النعم والتعاطي معها، حيث لا يتجاوز شكره للنعم لسانه وحركة شفاهه، ولا يبلغ مرحلة الشكر العملي، ولا يشكر الله بالسلوك والعمل(49).
الكلمة الاخيرة
مما لاشك فيه فان كلمات الامام الهادي هي مصابيح مضيئة تمنحنا السعادة في الدنيا والاخرة(50). ومما لا شك فيه ايضا ان طاعة واحترام جميع الائمة واجب علينا جميعا، وعلينا ومن خلال الاساليب الصحيحة والطرق المدروسة والخطط المتقنة ان ندافع عنهم ونرد المسيئين لهم عليهم السلام، ولكن نؤكد في هذه المناسبة ان على الطلبة الاعزاء والخطباء الكرام ان يسلطوا الضوء على شخصية الامام الهادي(عليه السلام) لانه ظلم في مناسبات عديدة من قبل البعض الذي حاول هتك حرمته والنيل منه وسعى الى تقويض عقائد الناس بائمتهم، وعلى المبلغين والمرشدين ايضا يواجهوا ذلك مواجهة مؤثرة وقوية(51).
لا يوجد تعليق