الجواب الاجمالي:
الجواب التفصيلي:
السّؤال: ما هی الأهمیة التی یولیها الشیعة للإمامة، و ما هو موقعها و منزلتها فی الفکر الشیعی؟ مصادر
الجواب: احتلت الإمامة فی الفکر الشیعی مقاماً مرموقاً حیث أولاها مفکّرو الشیعة أهمیة کبرى، إذ اعتبروا الإمامة مقاماً و منصباً إلهیاً لابدّ لصاحبه أن ینصب من قبل اللَّه تعالى.
و بعبارة أُخرى: کما أنّ مقام النبوة مقام و منصب إلهی، و لابدّ أن یعیّن النبی أو الرسول من قبل اللَّه سبحانه، و یستحیل على أیّ إنسان مهما کان أن یصل إلى هذا المقام السامی وهذه المرتبة العالیة من خلال انتخاب الأُمّة له، کذلک الأمر فی مقام الإمامة فإنّه مقام إلهی یستحیل فیه على الإنسان أن یناله من خلال انتخاب الأُمّة أو من خلال انتخاب أهل الحلِّ والعقد له، أو من خلال الشورى أو ما شابه ذلک.
و فی الحقیقة انّ الناس قد انقسموا فی مسألة النبوة إلى طائفتین: طائفة مؤمنة، و أُخرى کافرة، ویستحیل على الأُمّة کالحکومات الدیمقراطیة أن یکون لها برنامج خاص فی انتخاب النبی أو عدم انتخابه، و ذلک لأنّ قضیة النبوة خارجة فی الواقع عن إطار الانتخابات والدیمقراطیة والشورى وغیرها، ولا معنى لکلّ هذه المناهج هنا، و ذلک لأنّ النبوة فی الواقع ترتبط بمسألة المعرفة وعدم المعرفة، والإیمان والإنکار، والتصدیق والتکذیب و هذه الأُمور لها أُسلوب خاص و منهج معین لمعالجتها لا یتماشى أبداً مع أُسس الانتخابات والشورى وغیرها.
فلو أنّ جمیع سکّان المعمورة انتخبوا وبحریة تامّة إنساناً ما (کمسیلمة الکذّاب) لمقام النبوة ولم یخالف فی ذلک أحد، وفی نفس الوقت لو أعرض الجمیع عن إعطاء رأیهم إلى الرسول الکریم صلى الله علیه و آله و سلم فلا ینبغی للدیمقراطیین واللیبرالیین أن یعتبروا لذلک الانتخاب والرد أدنى قیمة موضوعیة، کذلک لا معنى هنا لمفاهیم ونظریات أُخرى کالوراثة، والتنصیب أو الانتخاب البشری، أو الغلبة والانتصار و ...، إذ انّ منصب النبوة و مقام الرسالة منصب إلهی ومقام سماوی لا یخضع لجمیع تلک المعاییر التی ذکرناها والتی یعتمدها أبناء النوع الإنسانی لتعیین و تنصیب المسؤولین والحکام.
فإذا عرفنا ذلک نقول: إنّ الأمر نفسه یجری فی مقام الإمامة، وبتعبیر أصح: إنّ ملاک الإمامة أمرٌ حقیقی و واقعی فی الإمام، کما أنّ النبوة حقیقة فی النبی، وکذلک النبوغ فانّه حقیقة واقعیة فی النابغة.
وعلى هذا الأساس لابدّ من السعی لمعرفة النبی أو الإمام أو النابغة لا تعیّنهم.
و من الواضح أنّه قد یتسنّى تارة للأُمّة الوصول إلى المنهج الموضوعی لتمییز الجواهر الحقیقیة عن المزیّفة. و أُخرى لا تمتلک الأُمّة هذا المنهج فلابدّ أن تستعین بطریق آخر للتمییز، وهذا الطریق فی الواقع هو الوحی الإلهی، ویستحیل اعتماد السنن الارستقراطیة أو الانتخابات المزوّرة، أو من خلال انتحال وخلق الفضائل الزائفة التی لا تقوم على أساس موضوعی و قاعدة مستحکمة، أو من خلال اعتماد الطرق الرسمیة والإداریة والاستعانة بالعوامل الداخلیة أو الخارجیة واعتماد ذلک کلّه لیکوّن الملاک لنیل ذلک المقام السامی.
فإذا ما أردنا أن نحلّل القضیة بصورة أدق ونوضح أنّه لماذا تکون مسألة النبوة أو الإمامة خارجة عن مجال الانتخابات والشورى وانّها أسمى وأجلّ من أن تخضع لهذه الأسالیب والمناهج نقول:
یوجد فی الواقع مقامان:
مقام و منصب یتحقّق من خلال العوامل والأسباب الخارجة کالوکالة التی قد تتحقّق من خلال الانتخابات و صنادیق الاقتراع، و قد تحصل من خلال تنصیب المقامات العلیا.
المقام الثانی هو المقام الذی لا یخضع بحال من الأحوال للانتخابات أو التنصیب البشری فعلى سبیل المثال: مقام النبوغ أو التقوى، أو الشاعریة، أو کون الإنسان مخترعاً أو مکتشفاً أو کاتباً أو مؤلفاً أو کونه بطلًا فی میادین الریاضة، فإنّ هذه المقامات لا معنى لاعتماد منهج الترشیح والانتخاب فیها، لأنّ النابغة نابغة سواء انتخب أو لم ینتخب، بل حتى لو لم یعترف أحد بنبوغه، وکذلک الأمر فی الکاتب فانّه کاتب کذلک، و هکذا الأمر فی الشاعر، فهل یوجد عاقل فی الدنیا یمنح الشاعر صفة الشاعریة من خلال الانتخاب أو التنصیب؟!!
فمقام و منصب کلّ من ابن سینا نابغة الفلسفة المشائیة و شهاب الدین السهروردی أُستاذ الفلسفة الإشراقیة، و سیبویه رجل الأدب العربی، والمحقّق الحلّی أُستاذ الفقه الشیعی و ... جزء من ذاتهم ولم یمنح لهم من خلال عملیة انتخابیة أو أوامر تنصیبیة، و حسب التعبیر الفلسفی أنّ تلک المقامات من الأُمور «الحقیقیة، والواقعیة» لا من الأُمور «الاعتباریة» و «الجعلیة».
ثمّ لابدّ من الالتفات إلى نکتة مهمة و هی: انّ الشیعة حینما یشترطون أن یکون الإمام منصوباً من قبل اللَّه سبحانه فإنّهم یقصدون من ذلک: انّ الإنسان الذی اجتمعت فیه شروط القیادة والإمامة أجمع لابدّ أن یعرّف من قبل اللَّه سبحانه وتعالى، و فی الحقیقة یکون التنصیب الإلهی وسیلة لإزاحة الستار وکشف الواقع لا لتعیین ذلک الفرد للخلافة والإمامة، و ذلک لأنّ صاحب هذا المقام غیر مردّد فی الواقع حتى یحتاج إلى تعیین، بل انّ المنصب ملازم لصاحبه الذی توفّرت فیه الشروط فیأتی الوحی الإلهی لإزاحة ستار الجهل عن هذه الحقیقة المخفیة.
کذلک نشیر إلى نکتة أُخرى مهمة وهی أنّ مفاهیم «النصب» و «الانتصاب» وغیرها من أدبیات النظم المستبدة والمتفرعنة حینما تطلق یقفز إلى الذهن مفاهیم أُخرى ملازمة لها کالاستبداد والقهر و سلب الحریات وهضم حقوق الآخرین. وعلى هذا الأساس یکون استعمال مثل تلک المفاهیم فی البحوث العقائدیة وعلى أساس قاعدة «تداعی المعانی» غیر صحیح، لأنّه یستدعی کلّ تلک المفاهیم السلبیة، و لذلک لابدّ من البحث هنا لتوضیح أنواع التنصیب.
لا ریب أنّ تنصیب الأفراد غیر الکفوئین لیشغلوا مقاعد فی مجالس الأعیان أو فی المجالس الاستشاریة أو البلدیة وغیرها من المناصب یؤدّی إلى حرمان الأفراد والشخصیات الکفوءة ولکنّ النصب الإلهی لا یؤدی أبداً إلى تلک النتیجة السلبیة، لأنّه فی الواقع کشف لستار الحقیقة وتعریف الفرد اللائق والکفوء لمقام القیادة والإمامة فی جمیع شؤونها المادیة والمعنویة والذی یستطیع بکفاءة عالیة أن یقود البشریة و یأخذ بیدها إلى الکمال المطلوب و یوصلها إلى ساحل الأمان، وإذا ما فرضنا أنّ هذا التنصیب لم یتحقّق من قبل اللَّه سبحانه وتعالى، فهذا یعنی أنّه سبحانه لم یعرف للأُمّة الفرد اللائق والجدیر للقیام بهذه المهمة، و حینئذٍ لا یمکن للدین أن یکتمل خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار الفراغ الذی حصل بسبب رحیل الرسول الأکرم صلى الله علیه و آله و سلم.
لقد استطاع عالم الاجتماع ابن خلدون أن یبیّن حقیقة النظریتین الشیعیة والسنیّة فی خصوص الإمامة، و بعبارة وجیزة حیث عرف الإمامة عند أهل السنّة بقوله:
«الإمامة، المصالح العامة التی تفوض إلى نظر الأُمّة ویتعیّن القائم لها بتعیینهم».
ثمّ قال: «الإمامة لدى الشیعة: رکن الدین وقاعدة الإسلام، ولا یجوز لنبی إغفاله ولا تفویضه إلى الأُمّة، بل یجب علیه تعیین الإمام لهم و یکون معصوماً من الکبائر والصغائر».[1]
و بعبارة أوضح: أنّ الإمامة والقیادة هی استمرار للقیام بوظائف الرسالة، و أنّ الإمام یتولّى جمیع وظائف الرسول.[2]
مع فارق واحد بینهما وهو أنّ الرسول هو البانی والمؤسس للدین وهو الطرف المتلقّی للوحی وهو صاحب الکتاب، فإذا استثنینا هذه الأُمور یکون الإمام نسخة أُخرى مطابقة للنبی من حیث تبیین الأحکام والأُصول والفروع وحمایة الدین من التحریف وهو المرجع فی جمیع الأُمور الدینیة والدنیویة الذی یتابع وظائف النبی ومهامه باعتباره خلیفته والقائم مقامه.
وعلى أساس هذه النظریة التی أثبتنا فیها انّ الإمامة استمرار لوظائف الرسالة وانّ الإمام نسخة أُخرى للنبی باستثناء النبوة والوحی، لابدّ أن یتوفر فی الإمام بالإضافة إلى الشروط السابقة شرطان آخران هما:
1. أن یکون أعلم الأُمّة فی أُصول وفروع الإسلام، وأن لا یکون علمه مکتسباً من الأفراد العادیین، وذلک لکی یتسنّى له تبیین أُصول و فروع الإسلام وتلبیة جمیع الاحتیاجات العلمیة والمعنویة للأُمّة، و أن لا تضطر الأُمّة- مع وجوده- إلى الاستعانة بشخص آخر غیره.
و بعبارة أُخرى یشترط أن یتوفّر فی الإمام العلم الکافی والمعرفة الواسعة بالمعارف الدینیة والأُصول الکلّیة وفروع الأحکام، لأنّه ما لم تتوفر لدیه تلک الإمکانیات الواسعة من العلم لا یستطیع أن یسدّ الفراغ الذی أحدثه غیاب الرسول الأکرم فی المجتمع.
2. أن یکون الإمام معصوماً من الذنب ومصوناً من ارتکاب الخطأ.[3] . [4]
[1] - مقدمة ابن خلدون: 196، طبع المکتبة التجاریة، مصر.
[2] - وبعبارة أدق: إنّ الإمامة- بعد النبوة- استمرار لمقام إمامة النبی الأکرم صلى الله علیه و آله و سلم، حیث إنّه وبرحیل النبی صلى الله علیه و آله و سلم تمّت النبوة والرسالة ولکن مقام إمامته صلى الله علیه و آله و سلم استمر بواسطة الأئمّة من بعده، وإذا ما قد یقال: إنّ« الإمامة» استمرار لوظائف« الرسالة»، فإنّ فی ذلک التعبیر نوعاً من المسامحة، إذ فی الحقیقة انّ إمامة الإمام بعد الرسول صلى الله علیه و آله و سلم استمرار« لإمامة» النبی الأکرم، وذلک لأنّ النبی یمتلک بالإضافة إلى مقام« النبوّة» و« الرسالة» مقام« الإمامة» کإبراهیم الخلیل علیه السلام
[3] - منشور جاوید: 5/ 110- 114.
[4] - الفکر الخالد، الشیخ جعفر السّبحانی، ج1، ص: 372.
لا يوجد تعليق