الجواب الاجمالي:
الجواب التفصيلي:
السؤال : ما هی حقیقة الشفاعة فی القرآن الکریم ؟ مصادر
الجواب : إنّ الشفاعة فی القرآن الکریم على معان أو أقسام ثلاثة:
أ- الشفاعة التکوینیة.
ب- الشفاعة القیادیة.
ج- الشفاعة المصطلحة.
أ- الشفاعة التکوینیة :
اتّفق الواعون من المسلمین على أنّه لا مؤثر مستقل فی الوجود غیره سبحانه، و أنّ غیره مفتقر فی الوجود و التأثیر إلیه سبحانه، و لأجل ذلک صار شعار القرآن فی حق الإنسان و فی حق غیره قوله:
«یا أَیُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِیُّ الْحَمِیدُ* إِنْ یَشَأْ یُذْهِبْکُمْ وَ یَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِیدٍ* وَ ما ذلِکَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِیزٍ» (فاطر/ 15- 17) و قوله سبحانه: «وَ اللَّهُ الْغَنِیُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ» (محمد/ 38) و قال سبحانه على لسان نبیّه الکریم: «رَبِّ إِنِّی لِما أَنْزَلْتَ إِلَیَّ مِنْ خَیْرٍ فَقِیرٌ» (القصص/ 24).
فبما أنّ عالم الکون عالم إمکانی لا یملک من لدن ذاته وجوداً و لا کمالًا، بل کلّ ما یملک من وجود و کمال فقد أُفیض إلیه من جانبه سبحانه فهو بحکم الإمکان موجود مفتقر فی عامة شئونه و تأثیره و علّیته.
و نظراً لتوقف تأثیر کل ظاهرة کونیّة على إذنه سبحانه کما جاء فی قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّکُمُ اللَّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ یُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِیعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِکُمُ اللَّهُ رَبُّکُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَکَّرُونَ» (یونس/ 3) فانّ الآیة بعد ما تصف اللَّهَ سبحانه بأنّه خالق السماوات و الأرض فی ستة أیام و أنّه استوى بعد ذلک على العرش، و أنّه یدبر أمر الخلق، تُعلِن بأنّ کل ما فی الکون من العلل الطبیعیة و الظواهر المادیة یؤثر بعضه فی البعض بإذنه سبحانه، و أنّه لیست هناک علّة مستقلة فی التأثیر، بل کل ما فی الکون من العلل، ذاته و تأثیره، قائمان به سبحانه و بإذنه، فالمراد من الشفیع فی الآیة هو الأسباب و العلل المادیة و غیرها، الواقعة فی طریق وجود الأشیاء و تحقّقها و إنّما سمِّیت العلة شفیعاً، لأنّ تأثیرها یتوقف على إذنه سبحانه، فهی (مشفوعةً إلى إذنه سبحانه) تؤثر و تعطی ما تعطی.
و على ذلک تخرج الآیة عن الدلالة على الشفاعة المصطلحة بین المفسّرین و علماء الکلام، و إنّما اخترنا هذا المعنى لوجود قرائن فی نفس الآیة، فانّها تبحث فی صدرها عن خلق السماوات و الأرض و تحدید مدّة الخلق و الإیجاد بستة أیام، ثمّ ترجع الآیة، و تنص على سعة قدرته على جمیع ما خلق و إحاطته بهم، و انّه بعد ما خلق السماوات و الأرض، استوى على عرش القدرة و أخذ یدبّر العالم.
و عند ذلک یتساءل القارئ: إذا کان هو المدبر و المؤثر فما حال سائر المدبرات و المؤثرات التی یلمسها البشر فی حیاته؟ فللإجابة على هذا السؤال قال سبحانه: «ما مِنْ شَفِیعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» مصرِّحاً بأنّ کل تأثیر و تدبیر فی سبب من الأسباب إنّما هو بإذنه و مشیئته و لو لا إذنه و مشیئته لما قام السبب بالسببیة، و لا العلة بالعلیة، و هذه القرائن توجب حمل هذه الجملة على ما یجری فی عالم الکون و الوجود من التأثیر و العلیة، و تفسیرها بالشفاعة التکوینیة، و أنّ کل ظاهرة مؤثرة کالشمس و القمر و النار و الماء لا تؤثر إلّا بالاستمداد من قدرته سبحانه و الاعتماد على إذنه و مشیئته حتى یتم بذلک التوحید فی الخالقیة و التدبیر.
ب- الشفاعة القیادیة :
و هو قیام قیادة الأنبیاء و الأولیاء و الأئمة و العلماء و الکتب السماویة مقام الشفیع و الشفاعة فی تخلیص البشر من عواقب أعمالهم و آثار سیئاتهم. و الفرق بین الشفاعة المصطلحة و الشفاعة القیادیة هو أنّ الشفاعة المصطَلحة توجب رفع العذاب عن العبد بعد استحقاقه له، و الشفاعة القیادیة توجب أن لا یقع العبد فی عداد العصاة حتى یستحق.
و الظاهر أنّ إطلاق الشفاعة على هذا القسم لیس إطلاقاً مجازیاً، بل إطلاق حقیقی. و قد شهد بذلک القرآن و الأخبار، قال سبحانه: «وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِینَ یَخافُونَ أَنْ یُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَیْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِیٌّ وَ لا شَفِیعٌ لَعَلَّهُمْ یَتَّقُونَ» (الأنعام/ 51). و الضمیر المجرور فی «بِهِ» یرجع إلى القرآن.[1]
و لا شک أنّ ظرف شفاعة هذه الأُمور إنّما هو الحیاةُ الدنیویةُ، فانّ تعالیم الأنبیاء و قیادتهم الحُکمیة و هدایة القرآن و غیره، إنّما تتحقّق فی هذه الحیاة الدنیویة، و إن کانت نتائجها تظهر فی الحیاة الأُخرویة، فمن عمل بالقرآن و جعله أمامه فی هذه الحیاة، قاده إلى الجنّة فی الحیاة الأُخرویة. و لأجل ذلک نرى أنّ النبی الأکرم صلى الله علیه و آله و سلم یأمر الأُمة بالتمسک بالقرآن و یصفه بالشفاعة و یقول: «فإذا التَبَست علیکم الفتنُ کقطع اللیل المظلم فعلیکُم بالقرآن فإنّه شافعٌ مشفَّع و ماحِل مصدَّق، و من جَعَلَه أمامَه قاده إلى الجنّة، و من جعله خلفَه ساقه إلى النار، و هو الدلیل یدل على خیر سبیل، و هو کتاب فیه تفصیل و برهان».[2]
فإنّ قوله: «و من جعله أمامه»، تفسیر لقوله: «فإنّه شافع مشفَّع».
و الحاصل: أنّ الشفاعة القیادیة شفاعة بالمعنى اللغوی، فإنّ المکلّفین بضم هدایة القرآن و توجیهات الأنبیاء و الأئمة إلى إرادتهم و طلباتهم، یفوزون بالسعادة و یصلون إلى أرقى المقامات فی الحیاة الأُخرویة و یتخلّصون عن تبعات المعاصی و لوازمها.
فالمکلّف وحده لا یصل إلى هذه المقامات، و لا یتخلّص من تبعات المعاصی، کما أنّ خطاب القرآن و الأنبیاء وحده- من دون أن یکون هناک من یسمع قولهم و یلبّی نداءهم- لا یؤثر ما لم ینضم إلیه عمل المکلّف إلى هدایتهم، و هدایتهم إلى عمل المکلّف فعندئذٍ تتحقّق هذه الغایة.
ج- الشفاعة المصطلحة :
و حقیقة هذه الشفاعة لا تعنی إلّا أن تصل رحمتهُ سبحانه و مغفرته و فیضه إلى عباده عن طریق أولیائه و صفوةَ عباده، و لیس هذا بأمرٍ غریب. فکما أنّ الهدایة الإلهیة التی هی من فیوضه سبحانه، تصل إلى عباده فی هذه الدنیا عن طریق أنبیائه و کتبه، فهکذا تصل مغفرته سبحانه و تعالى إلى المذنبین و العصاة یوم القیامة من عباده عن ذلک الطریق.
و لا یبعد فی أن یصل غفرانه سبحانه إلى عباده یوم القیامة عن طریق خِیرة عباده، فإنّ اللَّه سبحانه قد جعل دعاءهم فی الحیاة الدنیویة سبباً، و نصّ بذلک فی بعض آیاته. فنرى أنّ أبناء یعقوب لمّا عادوا خاضعین، رجعوا إلى أبیهم، و قالوا له: «یا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا کُنَّا خاطِئِینَ» (یوسف/ 97) فأجابهم یعقوب بقوله: «سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَکُمْ رَبِّی إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِیمُ» (یوسف/ 98).
و لم یقتصر الأمر على یعقوب فحسب، بل کان النبی الأکرم صلى الله علیه و آله و سلم ممّن یستجاب دعاؤه أیضاً فی حق العصاة، قال سبحانه: «وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُکَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِیماً» (النساء/ 64). و هذه الآیات و نظائرها ممّا لم نذکرها مثل قوله: «وَ صَلِّ عَلَیْهِمْ إِنَّ صَلاتَکَ سَکَنٌ لَهُمْ» (التوبة/ 103) تدل على أنّ مغفرته سبحانه قد تصل إلى عباده بتوسیط واسطة کالأنبیاء، و قد تصل بلا توسیط واسطة، کما یفصح عنه سبحانه بقوله: «یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً» (التحریم/ 8) و قوله: «وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَیْهِ إِنَّ رَبِّی رَحِیمٌ وَدُودٌ» (هود/ 90). إلى غیر ذلک من الآیات التی تکشف عن أنّ توبة العبد تجلب المغفرة بلا واسطة أحد و قد تصل بتوسیط واسطة هی من أعز عباده و أفضل خلیقته و بریته.
و تتضح هذه الحقیقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق- و بخاصة دعاء الصالحین- من المؤثرات الواقعة فی سلسلة نظام العلة و المعلول، و لا تنحصر العلة فی العلل الواقعة فی إطار الحس فإنّ فی الکون مؤثرات خارجة عن إحساسنا و حواسنا، بل قد تکون بعیدة حتى عن تفکیرنا، یقول سبحانه: «وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً* وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً* وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً* فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً* فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» (النازعات/ 1- 5).
فما المراد من هذه «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» أ هی مختصة بالمدبرات الطبیعیة المادیة، أو المراد هو الأعم منها؟ فقد روی عن علی علیه السلام تفسیرها بالملائکة الأقویاء، الذین عهد اللَّه إلیهم تدبیر الکون و الحیاة بإذنه سبحانه، فکما أنّ هذه المدبرات یجب الإیمان بها و إن لم تعلم کیفیة تدبیرها و حقیقة تأثیرها، فکذلک الدعاء یجب الإیمان بتأثیره فی جلب المغفرة، و دفع العذاب و إن لم تعلم کیفیة تأثیره.[3]
[1] - الطبرسی: مجمع البیان: 2/ 304.
[2] - الکلینی: الکافی: 2/ 238.
[3] - الشّفاعة فی الکتاب و السنة، الشّیخ جعفر السّبحانی، ص : 29- 35.
لا يوجد تعليق