الإیمان الراسخ أقوى من حُفر النیران!

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
الأمثل 15
1ـ من هم أصحاب الاُخدود؟سورة البروج / الآیة 1 ـ 9

کما نعلم جمیعاً، بأنّ المسلمین فی صدر الإسلام الأوّل، کانوا یعیشون فی مکّة تحت ظروف قاسیة، بعد أن کشّر أعدائهم بقباحة تلک الأنیاب القذرة، فانهالوا على المؤمنین بأصناف العذاب وألوانه..

ولمّا کان الهدف من نزول السّورة، وبما عرضته من صور الأولین هو إنذار هؤلاء الظالمین المغرورین بأنّ مصیرهم سیکون مثل مصیر الأقوام السالفة من جهة، ومن جهة اُخرى لتثبیت المؤمنین، وتقویة عزائمهم فی صراعهم أمام أذى واضطهاد أهل مکّة.

ابتدأت السّورة بـ : (والسماء ذات البروج).

«البروج»: جمع (برج) وهو القصر، وقیل: هو الشیء الظاهر، وتسمیة القصور والأبنیة العالیة بالبروج لظهورها ووضوحها، وقیل للمحلات الخاصة من السور المحیط بالبلد والتی یجتمع فیها الحراس والجنود (البروج) لظهورها الخاص، ویقال للمرأة التی تظهر زینتها (تبرجت المرأة).

والأبراج السماویة: إمّا أن یکون المراد منها النجوم الزاهرة والکواکب المنیرة فی السماء،

أو المجموعات من النجوم تتخذ مع بعضها شکل شیء معروف فی الأرض، وتسمى بـ «الصور الفلکیة»، وهی إثنا عشر برجاً، وفی کلّ شهر تحاذی الشمس أحد هذه البروج، (طبیعی أن الشمس لا تتحرک تلک الحرکة، وإنّما الأرض تدور حول الشمس فیبدو لنا تغیّر موضع الشمس بالنسبة إلى الصور الفلکیة أو الأبراج).(1)

والقسم بهذه البروج یشیر إلى عظمة أمرها، التی لم تکن معلومة للعرب الجاهلیین وقت نزول الآیة بینما أصبحت معلومة تماماً فی هذا الزمان والأقوى أنّ المراد منها هو النجوم المتلألئة لیلاً فی القبة السماویة.

ولذا نقرأ فیما روی عن النّبی الأکرم(صلى الله علیه وآله)، أنّه حینما سئل عن تفسیر الآیة قال: «الکواکب»(2).

وتقول الآیة الثّانیة: (والیوم الموعود).

الیوم الذی وعد به جمیع الأنبیاء والمرسلین(علیهم السلام)، والذی تحدثت عنه مئات الآیات القرآنیة المبارکة، الیوم الذی یلتقی فیه جمیع الخلق من الأولین والآخرین للحساب، إنّه یوم القیامة الحق.

وفی القسم الثّالث والرّابع یقول: (وشاهد ومشهود).

وقد تعرض المفسّرون للآیة بمعان متباینة، وصلت إلى ثلاثین معنى، وأدناه أهم ما ذُکر منها:

«الشاهد»: هو النّبی(صلى الله علیه وآله)، بدلالة الآیة 45 من سورة الأحزاب: (یا أیّها النّبی إنّا أرسلناک شاهداً ومبشراً ونذیر).

و«المشهود»: هو یوم القیامة، بدلالة الآیة 103 من سورة هود: (ذلک یوم مجموع له النّاس وذلک یوم مشهود).

«الشاهد»: هو ما سیشهد على أعمال النّاس، کأعضاء بدنه، بدلالة الآیة 24 من سورة النور: (یوم تشهد علیهم ألسنتهم وأیدیهم وأرجلهم بما کانوا یعملون).

و«المشهود»: هم النّاس وأعمالهم.

«الشاهد»: هو یوم «الجمعة»، الذی یشهد اجتماع فی صلاة مهمّة.

و«المشهود»: هو یوم «عرفة»، الذی یشهده زوّار بیت اللّه الحرام، وهو ما روی عن النّبی(صلى الله علیه وآله) والإمام الباقر(علیه السلام) والإمام الصادق(علیه السلام)(3).

«الشاهد»: عید الأضحى.

و«المشهود»: یوم عرفة.

وروی أنّ رجلاً دخل مسجد رسول اللّه(صلى الله علیه وآله)، فإذا رجل یحدث عن رسول اللّه، قال: فسألته عن الشاهد والمشهود، فقال: (نعم، الشاهد یوم الجمعة، والمشهود یوم عرفة)، فجزته إلى آخر یحدث عن رسول اللّه، فسألته عن ذلک فقال: (أمّا الشاهد فیوم الجمعة، وأمّا المشهود فیوم النحر)، فجزتهما إلى غلام کأنه وجه الدینار، وهو یحدّث عن رسول اللّه، فقلت أخبرنی عن «وشاهد ومشهود» فقال: «نعم، أمّا الشاهد فمحمّد، وأمّا المشهود فیوم القیامة، أمَا سمعت اللّه سبحانه یقول: (یا أیّها النّبی إنا أرسلناک شاهداً ومبشراً ونذیر)، وقال (ذلک یوم مجموع له النّاس وذلک یوم مشهود)... فسألت عن الأول، فقالوا: ابن عباس، وسألت عن الثّانی، فقالوا: ابن عمر، وسألت عن الثّالث: فقالوا: الحسن بن علی(علیهما السلام)(4).

«الشاهد»: اللیالی والأیّام... و«المشهود»: بنو آدم، حیث تشهد على أعمالهم، بدلالة ما جاء فی دعاء الإمام زین العابدین(علیه السلام) الذی یقرأ کلّ صباح ومساء: «هذا یوم حادث جدید، وهو علینا شاهد عتید، إن أحسنّا ودعنا بحمد، وإن أسأنا فارقنا بذمّ».(5)

6ـ «الشاهد»: الملائکة... و«المشهود»: القرآن.

7ـ «الشاهد»: الحجر الأسود... و«المشهود»: الحجاج الذین یأتون ویلمسونه.

8ـ «الشاهد»: الخلق... و«المشهود»: الحق.

9ـ «الشاهد»: الاُمّة الإسلامیة... و«المشهود»: الاُمم الاُخرى، بدلالة الآیة 143 من سورة البقرة: (لتکونوا شهداء على النّاس).

10ـ «الشاهد»: النّبی(صلى الله علیه وآله)... و«المشهود»: سائر الأنبیاء(علیهم السلام)، بدلالة الآیة 41 من سورة النساء: (وجئنا بک على هؤلاء شهید).

11ـ «الشاهد»: النّبی(صلى الله علیه وآله)... و«المشهود»: أمیر المؤمنین(علیه السلام).

وإذا ما أدخلنا الآیة فی سیاق الآیات السابقة لها، فسنصل إلى أنّ «الشاهد» هو کلّ من سیقوم بالشهادة یوم القیامة، کشهادة: النّبی(صلى الله علیه وآله) وکلّ نبیّ على اُمّته، الملائکة، بالإضافة إلى شهادة: أعضاء بدن الإنسان، اللیل والنهار... إلخ... و«المشهود»: النّاس أو أعمالهم.

وبهذا، یُدغم الکثیر من التّفاسیر المذکورة مع بعضها لتشکل مفهوماً واسعاً للآیة المبارکة.

ویخرج عن هذا الإدغام تلک التّفاسیر التی تشیر إلى: یوم الجمعة، یوم عرفة ویوم الأضحى، وإن کانت الأیّام المذکورة ستشهد على أعمال الإنسان یوم الحشر، بل وکلّ یوم یجتمع فیه المسلمون یکاد یکون صورة مصغرة للحشر على رقعة الحیاة الدنیا.

ومع کلّ ما ذُکر تتّضح صلة التآلف ما بین التّفاسیر المذکورة أعلاه، حیث من الممکن جمعها تحت مظلة شمول مفهوم الآیة، وهذا بحد ذاته یعکس لنا عظمة القرآن الکریم باحتوائه على هکذا مفاهیم واصطلاحات.. فـ «الشاهد» ینطبق على کلّ مَن وما یشهد، وکذا «المشهود» ینطبق على کّل مَن وما یشهد علیه، وما ورودهما بصیغة النکرة إلاّ لتعظیمهما، وهو ما ینعکس على کلّ التّفاسیر.

وثمّة علاقة خاصة بین الأقسام الأربع وبین ما اُقسم به.. فالسماء وما فیها من بروج تحکی عن نظام وحساب دقیق، و«الیوم الموعود» یوم حساب وکتاب دقیق أیضاً، و«شاهد ومشهود» أیضاً وسیلة للحساب الدقیق على أعمال الإنسان، وکّل ذلک لتذکیر الظالمین الذین یعذّبون المؤمنین، عسى أن یکّفوا عن فعلتهم السیئة، ولإعلامهم بأن کلّ ما یفعله الإنسان یسجل علیه وبحساب دقیق جدّاً وسیواجه بها فی الیوم الموعود بین عتبات ساحة العدل الإلهی، فسیشهد على أعمال النّاس الملائکة الموکلون لهذا الأمر وأعضاء بدن الإنسان وکذا اللیل والنهار و.. و.. و..، وستکون الشهادة فی یوم لا ینفع فیه مال ولا بنون إلاّ مَن أتّى اللّه بقلب سلیم!(6).

وبعد هذه الأقسام الأربع، تقول الآیة التالیة: (قتل أصحاب الاُخدود). والمقصود هم الظالمین لا من القی فی النّار، فالجملة إنشائیة والمراد هو اللعن والدعاء علیهم.

والاُخدود ملیء بالنّار الملتهبة: (النّار ذات الوقود).

وکان الظالمون جالسون على حافة الاُخدود یشاهدون المعذبین فیها: (إذ هم علیها قعود).

(وهم على ما یفعلون بالمؤمنین شهود).

«الاُخدود»: ـ على قول الراغب فی مفرداته ـ : شقّ فی الأرض مستطیل غائص، والجمع أخادید، وأصل ذلک من «خدّ» الإنسان، وهو تقعر بسیط یکتنف الأنف من الیمین والشمال (وعند البکاء تسیل الدموع من خلاله) ثمّ اطلق مجازاً على الخنادق والحفر فی الأرض، ثمّ صار معنى حقیقیاً لها.

أمّا مَن هم الذین عذّبوا المؤمنین؟ ومتى؟ فللمفسّرین وأرباب التواریخ آراء مختلفة، سنستعرضها إنشاء اللّه فی بحوث قادمة.

ولکنّ القدر المسلم به، إنّهم حفروا خندقاً عظیماً ووجّروه بالنیران، وأوقفوا المؤمنین على حافة الخندق وطلبوا منهم واحداً واحداً بترک إیمانهم والرجوع إلى الکفر، ومَن رفض اُلقی بین ألسنة النیران حیاً لیذهب إلى ربّه صابراً محتسباً!

«الوقود»: ما یجعل للإشتعال، و«ذات الوقود»: إشارة إلى کثرة ما فیها من الوقود، وشدّة اشتعالها، فالنّار لا تخلو من وقود، ولعل ما قیل من أن «ذات الوقود» بمعنى ذات اللهب الشدید، یعود للسبب المذکور، ولیس کما ذهب به البعض من کون «الوقود» یطلق على معنیین: «الحطب» وعلى «شعلة النّار» أیضاً وتأسفوا لعدم إلتفات المفسّرین لهذه النکتة!

والآیتان: (إذ هم علیها قعود * وهم على ما یفعلون بالمؤمنین شهود)، تشیران إلى ذلک الجمع من النّاس الذین حضروا الواقعة، وهم ینظرون إلى ما یحدث بکل تلذذ وبرود وفی منتهى قساوة القلب (سادیّة)!

وقیل: إشارة إلى المأمورین بتنفیذ التهدید، وإجبار المؤمنین على ترک إیمانهم.

وقیل أیضاً: إنّهم کانوا فریقین، فریق یباشر التعذیب، وآخر حضر للمشاهدة، وقد اُشرک الجمیع فی هذا العمل لرضایتهم به.

وهذه صورة طبیعیة الوقوع، حیث هناک مَن یأمر (الرؤساء)، ومَن ینفذ (المرؤسون)، وثمّة المشاهدون من غیر الآمر والمأمور.

وقیل أیضاً: ثمّة فریق منهم کان مکلفاً بمراقبة عملیة التنفیذ لرفع تقاریرهم إلى السلطان عن کیفیة أداء المأمورین لواجباتهم السلطانیة.

ولا یبعد وجود کلّ ما ذُکر من أصناف فی ذلک المشهد المروع، کما وبالإمکان الجمع بین کلَّ الآراء المطروحة.

ومجیء فعل جملة «یفعلون» بصیغة المضارع، للإشارة إلى أنّ ذلک العمل قد استغرق وقتاً طویلاً، وما کان بالحدث السریع العابر.

وتقول الآیة التالیة: (وما نقموا منهم إلاّ أن یؤمنوا باللّه العزیز الحمید).

نعم، فجرمهم الوحید إنّهم آمنوا باللّه الواحد الأحد دون تلک الأصنام الفاقدة للعقل والإحساس.

«نقموا»: من (النقم) ـ على زنة قلم ـ وهو الإنکار باللسان أو بالعقوبة، ومنه (الإنتقام).

هکذا عقوبة لا تجری إلاّ على ذنب عظیم، وأین الإیمان باللّه العزیز الحمید من الذنب؟! إنّه الإنحطاط الکبیر الذی وصل إلیه اُولئک القوم، قد صوَّر لهم أعزّ وأفضل ما ینبغی للإنسان أن یفتخر به (الإیمان باللّه) على أنّه جرم کبیر وذنب لا یغتفر!...

وینقل لنا القرآن فی الآیة 59 من سورة المائدة شبیه هذه الحادثة، حینما قال السحرة الذین آمنوا بموسى(علیه السلام) لفرعون عندما توعدهم بالعقاب المؤلم، فقالوا له: (هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنّا باللّه).

وذکر «العزیز الحمید» جواب لما اقترفوا من جریمة بشعة، واحتجاج على اُولئک الکفرة، إذ کیف یکون الإیمان باللّه جرم وذنب؟! وهو أیضاً تهدید لهم بأن یأخذهم اللّه العزیز الحمید جزاء ما فعلوا، أخذ عزیز مقتدر.

وتأتی الآیة الاُخرى لتبیّن صفتین اُخرتین للعزیز الحمید: (الذی له ملک السماوات والأرض واللّه على کلّ شیء شهید).

فالصفات الأربعة المذکورة، تمثل رمز معبودیته جلّ وعلا، فالعزیز والحمید.. ذو الکمال المطلق، ومالک السماوات والأرض والشهید على کلّ شیء.. أحقُّ أن یُعبد وحده دون غیره، لا شریک له.

إضافة إلى کونها بشارة للمؤمنین، بحضور اللّه سبحانه وتعالى ورؤیته لصبرهم وثباتهم على الإیمان، فیدفع فیهم الحیویة والنشاط والقوّة.

ومن جهة اُخرى تهدید للکفار، وإفهامهم بأن عدم منع إرتکاب مثل هذه الجرائم الخبیثة، لیس لعجز أو ضعف منه جلّ شأنه، وإنّما ترک العباد یفعلون ما یرونه هم، امتحاناً لهم، وسیریهم فی عاقبة أمرهم جزاء ما فعلوا، وما للظالمین إلاّ العذاب المهین.


1. والأبراج الاثنا عشر هی: الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، السنبلة، المیزان، العقرب، القوس، الجدی، الدلو والحوت.
2. الدر المنثور، ج6، ص331.
3. تفسیر مجمع البیان، ج 10، ص 466.
4. تفسیر نورالثقلین، ج 5 ،ص 543، وذکر مضمونه کل من أبو الفتوح الرازی والطبرسی فی تفسیرهما.
5. الصحیفة السجادیة، الدعاء 6.6. وعلیه، فجواب القسم محذوف ویدل علیه قوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود) أو: (إنّ الذین فتنوا المؤمنین والمؤمنات). والتقدیر: (اُقسم بهذه الاُمور إنّ الذین فتنوا المؤمنین والمؤمنات معذبون ملعونون کما لعن أصحاب الاُخدود).
1ـ من هم أصحاب الاُخدود؟سورة البروج / الآیة 1 ـ 9
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma