جوده لا ینضب

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات الولایة (شرحٌ عصرىٌّ جامعٌ لنهج البلاغة) / الجزء الرابع
شمول النعم الإلهیةالقسم الأول

أنّ الدافع إیراد من هذه الخطبة کما وردفی مقدمتها هو أنّ شخصاً سأل الإمام(علیه السلام) قائلاً: صف لنا ربّنا مثلما نراه عیاناً; الکلام الذی تشم منه رائحة القول بالتجسم على اللّه، أو على الأقل الاشتمال على صفات الممکنات. فغضب الإمام(علیه السلام) غضباً شدیدا و تغیر وجهه وأورد هذه الکلمات من أجل تهذیب هذه العقائد الفاسدة والأفکار المنحرفة وهدایتها إلى الصراط المستقیم من خلال استعراض صفاته الحقه سبحانه ولذالک فقد استهل(علیه السلام) الخطبة بأدق صفاته سبحانه التی تشیر إلى مباینتها لصفات کافة مخلوقاته.فقد قال(علیه السلام) بادئ ذى بدء: «الحمداللّه الذی لا یفره(1)المنع والجمود، ولا یکدیه(2)الاعطاء والجود».ثم خاض(علیه السلام)فی الدلیل على ذلک قائل: «إذ کل معط منتقص سواه، وکل مانع مذموم ما خلاه». نعلم جمیعاً أنّ أحد الأرکان الأصلیة لمعرفة صفات اللّه سبحانه وتعالى یکمن فی الاعتقاد بأنّه وجود مطلق من جمیع الجهات ولیست هناک من حدود لذاته المقدسة وصفاته. فمن الطبیعی أنّ اللامحدود یبقى کذلک مهما أخذ منه; أی لیس للنقصان والقلة من سبیل إلیه. وعلى هذا الضوء فلو وهب کل إنسان عالماً من المادة، لما نفدت خزائن نعمه. ولهذا أیضاً إذا منع أحد شیئاً فلا یذم علیه. لتعذر تصور البخل على الذات المطلقة. فلیس هنالک من سبیل سوى إسناد المنع إلى الحکمة والمصلحة. بعبارة اُخرى فانّ عطائه ومنعه یتوقف على الاستعداد والاستحقاق والأهلیة، وعلیه ینقطع کل کلام ویخرس کل لسان عن الخوض فی هذا الموضوع. جاء فی الحدیث القدسى: «یا عبادی لو أنّ أولکم وآخرکم وانسکم وجنکم قاموا فی صعید واحد، فسألونی فأعطیت کل إنسان مسألته ما نقص ذلک ممّا عندى شیئاً إلاّ کما ینقص المخیط إذا دخل البحر»(3)، فمن الطبیعی أن لا یعلق شی من الماء بالاُبرة إذا ما القیت فیه سوى بمقدار الرطوبة العالقة بها. وهذا أروع مثال لأدنى نقص یطیل أعظم مصدر ومنبع للماء. فالمثال صورة واضحة لعدم تناهى الخزائن الإلهیة التی لا تزیدها کثرة العطاء إلاّ زیادة. کما ورد فی حدیث قدسی آخر: «إن من عبادی من لا یصلحه إلاّ الفاقة، ولو أغنیته لأفسده ذلک»(4)، ثم واصل الإمام(علیه السلام) کلامه عن سائر صفاته سبحانه ذات الصلة بجوده وکرمه وعطائه فقال: «وهو المنان بفوائد النعم، وعوائد المزید والقسم» فالالتفات إلى النعم الإلهیة على أساس أنّ وجدان الإنسان یوجب علیه شکر هذه النعم ویشده إلى الحق سبحانه، نرى الإمام(علیه السلام)یطرق بادىء الأمر هذا المعنى لیعد القلوب لما سیرد علیها من حقائق. والتعبیر «منان» من مادة من بمعنى کثیر العطاء. أمّا فوائد النعم فتنطوى على مفهوم واسع یشمل کافة النعم المادیة والمعنویة. وأمّا الفارق بین هذه العبارة وقوله: «عوائد المزید والقسم» فقد وردت بشأنه عدّة احتمالات: الأول: أنّ العبارة الاولى إشارة إلى ضروریات الحیاة، والثانیة إلى الرفاه والدعة وما یدعو إلى الاستقرار واللذة والراحة; أى کمالیات الحیاة. والاحتمال الثانی: أن یکون المراد بالعبارة الاولى النعم الفردیة، والعبارة الثانیة: «بالنظر إلى مفردة القسم من مادة قسمة»المنافع والنعم الاجتماعیة. والاحتمال الثالث: أن یکون المقصود بفوائد النعم الأرزاق التی تشمل الإنسان من قبیل الماء والهواء ونور الشمس وضیاء القمر وبالتالى مایصله من رزق دون سعى وجهد، والعبارة: «عوائد المزید والقسم» ناظرة إلى الارزاق التی یحصل علیها الإنسان بفعل جده واجتهاده وسعیه ونشاطه وإدارته الصحیحة لشؤون حیاته. ثم واصل الإمام(علیه السلام)کلامه بهذا الخصوص فقال: «عیاله الخلائق، ضمن أرزاقهم، وقدر أقواتهم» فالتعبیر بعیال تشیر من جانب إلى محبّة اللّه ولطفه بعباده، کما أنّها مقدمة لبیان ضمان أرزاقهم من جانب آخر، وذلک لأنّ کل فرد یشعر بعظم مسؤولیته إزاء عیاله وأهل بیته. فلا یمکن على اللّه أنّ یخلق عبداً دون أن یتکفل برزقه. وأمّا ما نراه من جوع فی عالمنا المعاصر و فیما مضى قدأدى بحیاة الناس، فذلک ممّا تفرزه طبیعة الحرص والظلم التی انطوت علیها سیرة الطغاة والظلمة والاستغلال الذی یمارسونه بحق الضعفاء والفقراء ونهب أموالهم وخیراتهم. کما لا ینبغی أن ننسى خنوع البعض وعدم السعی الجاد فی هذه الحیاة والافتقار إلى الإدارة الصحیحة. وإلاّ فانّ السفرة الإلهیة على درجة من السعة والشمول بحیث تلبی احتیاجات کافة العباد إلى یوم القیمة. ثم خاض(علیه السلام)فی النعم المعنویة لیکشف اللثام عن فتح باب المیسرة إلى اللّه والفوز بقربه وجواره فقال(علیه السلام): «ونهج سبیل الراغبین إلیه، والطالبین ما لدیه». وهکذا أبان(علیه السلام) توفر کافة أسباب سعادة الناس على الصعید المادی والمعنوی لیهدیهم إلى الطریق دون أن یکون هناک من اجبار لنهج هذا السبیل أو ترک ذاک، فللإنسان بمحض إرادته أن یستثمر هذه النعم ویوظفها فی الاتجاه الصحیح. ثم اختتم کلامه بشأن هذه النعم حیث تعرض إلى صفة أخرى من صفاته قائل: «ولیس بما سئل باجود منه بما لم یسأل». فالعبارة تختزن إشارة لطیفة إلى حقیقة وهى أنّ جوده وکرمه على أساس الاستحقاق والاستعداد لا على ضوء الطلب والسؤال، وإن کان الدعاء أحد أسباب نزول النعم الإلهیة فذلک لأنّ الداعی إذا أعد فی نفسه شرائط الدعاء إنّما یکون قد وسع دائرة استحقاقه واستعداده; فالدعاء الصحیح یسوق الإنسان إلى التوبة والإنابة وإصلاح الذات وذکر اللّه، وکل من هذه المعانى یسهم بقدر فی اتساع حجم الاستحقاق.

قال ابن أبی الحدید فی تفسیره للعبارة: «ولیس بما سئل بأجود...» فیه معنى لطیف، وذلک لأنّ هذاالمعنى ممّا یختص بالبشر: «لأنهم یتحرکون بالسؤال وتهزهم الطلبات، فیکونون بما سألهم السائل أجود منهم بما لم یسألهم إیاه. وأمّا البارئ سبحانه فانّ جوده لیس على هذا المنهاج، لأنّ جوده عام فی جمیع الأحوال»(5).

أضف إلى ذلک فانّ الناس وإثر نقصهم وحاجتهم إنّما یشحون فی العطاء بما هم إلیه أحوج من سائر الأشیاء التی لا حاجة لهم فیها; الأمر الذی لیس به من سبیل إلى الذات الإلهیة المطلقة المنزهة عن کل نقص وحاجة. ثم انتقل الإمام(علیه السلام) إلى بیان أربع صفات من صفات الذات فقال: «الأول الذی لم یکن له قبل فیکون شی قبله، والآخر الذی لیس له بعد فیکون شی بعده». فالمفروغ منه هو أنّ الأساس فی معرفة ذات وصفات اللّه یکمن فی کونه مطلقاً سبحانه لایعرف القیود والحدود واللامتناهی، و هو الکمال المطلق والوجود الدائم من جمیع الجهات، فهو کائن ویکون إلى أبد الأبدین.

فالأول فی عالم الممکنات یقال للشیء بالنسبة لمایلیه، وفی نفس الوقت لما سبقه بعض الأشیاء لأنّ البدایة والنهایة فی الممکنات أمر نسبی; وتنفرد الذات الإلهیة المطلقة بعدم وجود شی قبلها ولا بعدها. ومن البدیهی على هذا الاساس أنّ أولیته وآخریته لا تعنی الأول الزمانی ولا الآخر الزمانی و ذلک لأن الزمان یأتی من حرکة الموجودات حیث أن الزمان یمثل مقدار الحرکة; فلا یطلق علیه البعدیة والقبلیة کما یطلق على الزمانیات; وإنّما لم یکن وجوده زمانیاً لأنّه لا یقبل الحرکة، والزمان من لواحق الحرکة، وإنّما لم تطلق علیه البعدیة والقبلیة إذا لم یکن زمانیاً; والحرکة إمّا نحو الکمال أو النقصان. ونعلم أنّه کمال مطلق لا یشوبه أی نقص. ثم قال(علیه السلام) فی الصفة الثالثة: «والرادع أناسى(6) الأبصار عن أن تناله أو تدرکه» فلا العین
الظاهرة تراه لأنه لیس بجسم فلا مکان له ولا جهة، ولا العین الباطنه یسعها مشاهدة کنه ذاته. فالمحدود یعجز عن رؤیة اللامحدود. فالتعبیر بالرادع لا یعنی إنّ اللّه تعالى خلق فی الأبصار مانعاً عن إدراکه، بل کنایة عن ذاته أعظم واسمى من أن ترى بالعین الظاهرة أو الباطنة. فقد قال القرآن الکریم بهذا الشأن: (
لا تُدْرِکُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ یُدْرِکُ الأَبْصارَ)(7) ولما سأل بنو  إسرائیل موسى(علیه السلام) رؤیة اللّه، جاء الخطاب: (انْظُرْ إِلى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَکانَهُ فَسَوْفَ تَرانِی فَلَمّا تَجَلّى رَبُّـهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَکّاً وَخَـرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَک َ تُبْتُ إِلَیْک َ وَأَنَا أَ وَّلُ الْمُؤْمِنِـینَ)(8)، ثم قال(علیه السلام) فی الصفة الرابعة والخامسة المکملة للصفات السابقة: «ما اختلف علیه الدهر فیختلف منه الحال، ولا کان فی مکان فیجوز علیه الانتقال» فالواقع هو أنّ هاتین الصفتین إنّما تشیران إلى نفی الزمان والمکان وعوارضهما عن الذات الإلهیة المقدسة; الذات المطلقة التی تأبى الحرکة، ومن هنا لم تخضع لسیطرة الزمان، ولذلک أیضاً لم یکن للحالات المختلفة والحرکة نحو الکمال أو النقصان من سبیل إلى هذه الذات. فاللّه لیس بجسم لیحتاج إلى مکان. لیس بمحدود لیضمه موضع معین، ومن هنا انعدم تصور المکان علیه سبحانه. ثم عاد الإمام(علیه السلام) ثانیة إلى وصف جوده وعطائه سبحانه لیحدث عن سعة نعمه استثاره لحس الشکر والحمد لدى العباد والأمل بهذه الذات إلى جانب الإرشاد للمعرفة بصفات الجلال والجمال فقال(علیه السلام): «ولو وهب ماتنفست عنه معادن الجبال، وضحکت عنه أصداف البحار، من فلز اللجین(9) والعقیان(10) ونثارة(11) الدر، وحصید المرجان، ما أثر ذلک فی جوده، ولا انفد سعة ما عنده، ولکان عنده من ذخائر الانعام، مالا تنفده مطالب الأنام، لأنّه الجواد الذی لا یغیضه(12) سؤال السائلین، ولا یبخله الحاح الملحین».

حقاً لیس هناک من تعبیر أروع وأبلغ من هذا التعبیر لوصف جوده وکرمه سبحانه وسعة رحمته وشمول آلائه. فلو صبت الدنیا بما فیها من کنوز ومعادن مستترة فی بطون الأرض وأودیتها وجبالها على شخص، لما کان لها تأثیر قطرة فی بحر بالنسبة لعظم خزائنه وسعة بحر جوده وکرمه. کیف لا وقوله «کن» الذی یتبدل إلى «فیکون» یخلق ما لا نهایة من هذه الخزائن فی عالم الوجود ومن هنا أیضاً فانّ الحاح الملحین وکثرة طلبات السائلین لاتدعوه ال القبض والبخل أو الغضب والغیظ، فانما یغضب من کانت مصادر جوده محدودة ینقصها السؤال والعطاء فتشرف على الانتهاء وعلیه فاذا کانت لدینا من حاجة لابدّ من طرحها على الکریم فهو الکریم والجواد الرحیم فی عطائه وکرمه، والتعبیر بالتنفس عن معادن الجبال إشارة لطیفة إلى طرحهاالمعادن من جوفها بفعل تصدعها والزلازل و التعریة التی تصیبها مع مرور الزمان و أما تعبیر «ضحک» فهى إشارة إلى الشقوق التی تحدث فی فوهات الصدف لیستخرج منها اللؤلؤ. وهى على غرار الأسنان الناصعة التی تبدو کحیات اللؤلؤ حین یضحک الإنسان ذا الجمال. فاذا ما ضحکت هذه الاصداف بانشقاقها ظهرت حبات لؤلؤها وقذفتها خارجاً.


1. «یفره» من مادة «وفور» بمعنى الکثرة والزیادة.
2. «یکدیه» من مادة «کدى» على وزن کسب بمعنى البخل، وهى هنا بمعنى یفقره وینفد خزائنه.
3. منهاج البراعة 6/288.
4. بحار الانوار 68/140 ح 31.
5. شرح نهج البلاغة لابن أبی الحدید 6/400.
6. «اناسى» جمع «إنسان» و یطلق على أفراد بنی الإنسان کما یطلق هذا اللفظ على بؤبؤ العین، لانعکاس صورة الأفراد فیها.
7. سورة الانعام/103.
8. اقتباس من سورة البقرة/255; سورة الاعراف/142.
9. «لجین» على وزن حسین بمعنى الفضة.
10. «عقیان» الذهب الخالص.
11. «نثارة» من مادة «نثر» على وزن نصر التناثر والتشتت، حیث تتشقق أغلفة الأصداف فتتناثر منها حبیبات الدر هنا وهناک.
12. «یغیض» من مادة «غیض» على وزن فیض النقصان وذهاب الماء فی الأرض ووردت فی العبارة بمعنى عدم نقصان منابع الفیض الإلهی بالعطاء. 
شمول النعم الإلهیةالقسم الأول
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma