الحدیث عن تدبیره

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات الولایة (شرحٌ عصرىٌّ جامعٌ لنهج البلاغة) / الجزء الرابع
القسم الخامسالقسم الرابع

جرى حدیث الإمام(علیه السلام) سابقاً عن التحذیر فی التعمق فی کنه الذات والصفات، وذلک لتعذر إدراکها على العقل البشرى مهما کانت إمکاناته. فواصل هنا الکلام وبغیة عدم تصور غلق باب معرفة اللّه فتطرق(علیه السلام) على نحو الإجمال إلى طرق معرفة ذاته وصفاته لیکشف عن حقیقة فحواها سمو هذه الذات وغناها المطلق عن الحدود. فهو الذی أفاض الوجود على المعدومات دون الاحتذاء بمثال سابق، أو الاستمداد من خالق آخر «الذی ابتدع الخلق على غیر مثال امتثله ولا مقدار احتذى علیه، من خالق معبود کان قبله». فالعبارات إشارة إلى أزلیه ذاته المقدسة سبحانه من جانب، ومن جانب آخر أنّ مخلوقاته قد وجدت دون تجربة وسابقة; فهو خلق جدید وتام بکل معنى الکلمة.

وتعتبر مسألة «الابداع» (الخلق دون تجربة) من المسائل المهمّة. حیث تتضح هذه الأهمیة من خلال العلم بانّ کافة الابداعات والاختراعات البشریة إنّما تستند لما قبلها من الأمثلة فی عالم الخلیقة. فهى تقتدى أحیاناً فی عملها بظاهرة من ظواهر مختلفة فی ما تقوم به من إبداع، و أحیانا أخرى بظواهر ترکیبیة و تلفیقیة مختلفة بالضبط کالرسام الماهر الذی یعکس بریشته بعض الصور الرائعة والجمیلة بالاستناد إلى من سبقه فی الرسم والتصویر. فبالطبع لولا وجود هذه الصور والأشیاء لما وسع ذلک الرسام هذا الابداع والجمال. أمّا الحق سبحانه فلیس کذلک فعمله الابداع دون الاقتداء بالمثال ولیس ذلک لأحد سواه. وقد مرّ علینا شبیه هذا المعنى البدیع فی الخطبة الاولى من نهج البلاغة بعبارته(علیه السلام) «أنشأ الخلق إنشاءاً، وابتدأه إبتداءاً...». ثم قال(علیه السلام)موضحاً ما أورده أن أرانا من عجائب قدرته والآثار الحالیة عن تناهی حکمته وحاجة کافة الأشیاء إلیه بما یدعونا تلقائیا إلى معرفته: «وأرانا من ملکوت قدرته، وعجائب مانطقت به آثار حکمته، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن یقیمها بمساک قوته، ما دلنا باضطرار قیام الحجة له على معرفته» بعبارة اُخرى فانّ اللّه سبحانه قد أبان آثار قدرته فی عالم الوجود وهى تجری وفقاً لنظام دقیق وقوانین معقدة تفید أنّ الابقاء علیها یتطلب علمه وتدبیره الحکیم. فذرات الکون برمتها محتاجه إلیه فی خلقها وکذلک فی ادامة حیاتها واستمرارها، وهى تحکی بکافة تفاصیلها عن تناهی قدرته وحکمته. بما یجعل الإنسان یقر بضعفه وعجزه والاستضاءة بنور معرفته. ثم واصل الإمام(علیه السلام) قائل: «فظهرت البدائع التی أحدثتها آثار صنعته وأعلام حکمته، فصار کل ما خلق حجة له، ودلیلاً علیه; إن کان خلقاً صامتاً، فحجته بالتدبیر ناطقة، ودلالته على المبدع قائمة»(1) نعم فقد غصت أرجاء العالم بعلمه وقدرته وشع نور التوحید من جبین کافة مخلوقاته وکائناته سبحانه. کما عطر فضاء العالم بحمده وتسبیحه (سَنُرِیهِمْ آیاتِنا فِی الآفاقِ وَفِی أَنْفُسِهِمْ حَتّى یَتَبَیَّنَ لَهُمْ أَ نَّهُ الحَـقُّ)(2).

وهو المعنى الذی عبر عنه أبوالعتا هیة حین أنشد قائلاً:(3)

فیا عجبا کیف یعصى الاله *** أم کیف یجحده الجاحد

وفی کل شی له آیة *** تدل على أنه واحد

نعم فاینما ولیت وجهک طالعتک آیات اللّه، وإذا أعرت أذنک أى کائن طرقت سمعک ألسنة حال التسبیح والتقدیس. فما أکثر الأدلة والبراهین التی تجعلک تدرک تلک الذات المقدسة، أنّهاتمتد لتشمل عدد أوراق الأشجار وقطرات المطر والذرات وخلایا البدن ونجوم السموات والمجرات، وبالتالى جمیع ذرات وجود هذا العالم.

والعبارة «ما دلنا باضطرار قیام الحجة» لا تعنى أننا نذعن على نحو الإجبار بوجوده المقدس، بل تعنى أنّ الدلائل على وجوده على درجة من الظهور بحیث لم یبق معها مجال لانکار. کمثل من أحضر إلى المحکمة وقد نصبت للشهادة علیه الأفلام والأشرطة والشهود والقرائن المختلفة، بحیث لا یسعه التنکر لاعماله وأفعاله. فیعبر هنا بانه مضطر للاقرار، فهذا لا یعنى أنّه ارغم على الاقرار من خلال ممارسة الضغوط والتعذیب، حیث أنّ المسألة على قدر من الوضوح، بحیث لا یسعه الانکار.

والعبارة: «فحجته بالتدبیر ناطقة، ودلالته على المبدع قائمة» إشارة إلى أنّ تدبیر عالم الوجود دلیل على علمه المطلق وقدرته، کما أن تنوع موجودات العالم المفعمة بالابداعات المذهلة هو الآخر دلیل على قدرته المطلقة وعلمه.


1. الضمیر فی حجته ودلالته یعود إلى الخلق لا الخالق.
2. سورة فصلت/53.
3. الکنى والالقاب 1/121. 
القسم الخامسالقسم الرابع
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma