الدنیا الفانیة

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات الولایة (شرحٌ عصرىٌّ جامعٌ لنهج البلاغة) / الجزء الرابع
الزهد فی الدنیاالقسم الأول

کما ذکرنا سابقاً فانّ الإمام(علیه السلام) تطرق فی هذا الکلام من الخطبة إلى مسألة الزهد فی الدنیا الذی یقود إلى کافة الصالحات والفضائل.

فقال(علیه السلام): «أیّها الناس! انظروا إلى الدنیا نظر الزاهدین فیها، الصادفین(1) عنها»، طبعاً لا تعنی هذه العبارة أنّ الإنسان ینبغی أن یترک الدنیا ویعیش الرهبنة فیها، بل الهدف عدم فقدان النفس، وعدم الرکون إلى الدنیا والاغترار بها. فقد ثبت بوضوح أنّ التعلق بالدنیا والاغترار بما لها وجاهها ولذاتها یشکل حجاباً على سمع الإنسان وبصره، فیؤدی به إلى مقارفة الذنب والمعصیة.

فقد ورد فی الحدیث أنّ رسول الله(صلى الله علیه وآله) قال: «حب الدنیا رأس کل خطیئة»(2).

إنّ الذنب هو المادة التی تفضی إلى کافة الحروب والنزاعات والجنایات وسفک الدماء وما إلى ذلک من انحرافات.

ثم تطرق الإمام(علیه السلام) بعبارات قصیرة لأدلة اثبات تلک الحقیقة فأوجزها فی ستة أدلة: «فانّها والله عما قلیل تزیل الثاوی(3) الساکن».

نعم لابدّ لکل إنسان دون استثناء ان یودع یوماً هذا العالم، بعضهم یودع أبکر، والبعض الآخر قلیل یتأخر، ولکن لامناص من تذوق هذه المرارة: (کُلُّ نَفْس ذائِقَةُ المَوْتِ)(4).

والفارق بین ثاوی وساکن هو أنّ الثاوی تطلق عن من أقام بصورة مستمرة فی مکان وقد استقر فیه، وقد یکون الساکن کذلک أو لایکون، وبناءاً على هذا فالشباب الذین یعتقدون باستقرارهم لمدة مدیدة فی هذه الدنیا معرضون للزوال، وکذلک الکهول یبدو سکنهم مؤقتاً ومحدوداً، فالجمیع یسیر نحو الفناء والزوال، إلى عالم البقاء والخلود.

ثم قال فی الدلیل الثانی أنّ الدنیا تفجع بمصائبها من غرق فی النعم واغتربه: «وتفجع المترف(5) الأمن».

نعم بینما ترى هذا الإنسان غارقاً فی لذاته ونعمه وإذا نقل إلیه خبر موت فلان. ویالها من عبرة هذه الوفیات المفاجئة، وما أکثرها فی هذا الزمان. ویالها من عبرة أنّ تراه غارقاً لیلاً فی نعمه وملذاته فیصحوا صباحاً وقد فقد کل شیء.

أمّا الدلیل الثالث والرابع فهو أنّ ما یذهب من الدنیا لایعود أبداً، ولا یعلم کیف سیکون المستقبل: «لایرجع ما تولى منها فأدبر، ولایدری ما هو آت منها فینتظر».

ویالها من محنة إلاّ یعثر الإنسان على ضالته قط، کما یفقد الأمل بالمستقبل! فهو فی حسرة دائمة! فلا الشباب یعود إلیه، ولا قواه وطاقاته التی ذهبت أدراج الریاح مع تقادم العمر، هذا کله من جانب، ومن جانب آخر فالخوف من المستقبل الغامض الذی یهز کیانه ویؤرق تفکیره ویقض مضجعه.

ثم أورد(علیه السلام) الدلیل الخامس والسادس الذی یدعو إلى الزهد فی الدنیا وهو أنّ فرحها مقرون بالحزن وسرورها بالهم وقدرة الرجال وقوتهم إلى الضعف والوهن: «سرورها مثوب بالحزن وجلد(6) الرجال فیها إلى الضعف والوهن».

فمشکلة النعم المادیة الدنیویة قد أشار الیها الإمام(علیه السلام) فی موضع آخر فقال: «لاتنالون منها نعمة إلاّ بفراق اُخرى»(7)، على سبیل المثال فالعقیم یتصدع قلبه بفعل عدم وجود الأولاد; إلاّ أنّ مشکلته قد تحل بأن یمنح الأولاد، فسرعان ما تهجم علیه سائر المشاکل! لیس له ثروة کافیة فیؤرقه ألم الفقر والحاجة، فاذا ما أصاب ثروة، واجهته مشاکل الحسد وخیانة الخونة وطمع اللصوص بثروته، حتى یفقد سکینته واستقراره. نعم فسرور الدنیا مشوب بالهم والغم والحزن، وقوة الإنسان آیلة فیها إلى الوهن، وهکذا یخلص الإمام(علیه السلام) من هذه الأدلة إلى نتیجة مؤداه: «فلا یغرنکم کثرة ما یعجبکم فیها لقلة ما یصحبکم منها».

صحیح أنّ الدنیا ملیئة بمعانی الزینة والجمال والمظاهر الخلایة، إلاّ أنّها وعلاوة على استبطانها للمشاکل والمحن، فهى متقلبة سائرة نحو الفناء والزوال. وعلیه فلا یجدر بالعاقل الاهتمام بها والرکون إلیها.

على کل حال فانّ أدنى تأمل لهذه الأدلة یکفی لافاقة الغافلین من سباتهم، إلاّ أنّ المؤسف هو أنّ أغلب الناس یبخل على نفسه حتى بتلک اللحظة من التأمل.


1. «صادف» من مادة «صدف» على وزن حرف بمعنى الأعراض عن الشیء.
2. روى هذا الحدیث بعبارات مختلفة عن النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) وأمیرالمؤمنین والإمام الصادق وحتى الأنبیاء الماضین(علیهم السلام). (میزان الحکمة 2/ ح 5813 ـ 5823)ـ وفی الحدیث الذی نقله الکلینی فی الکافی عن الإمام السجاد(علیه السلام) بعد شرح ودوافع الذنوب قال: «فاجتمعن کلهن فی حب الدنیا». فقال الأنبیاء والعلماء ـ بعد معرفة ذلک ـ «حب الدنیا رأس کل خطیئة». (اصول الکافی 2/131).
3. «ثاوی» من مادة «ثواء» الاقامة مع الاستقرار.
4. سورة آل عمران/185.
5. «مترف» من مادة «ترف» التنعم ویطلق «المترف» على من تغفله کثرة النعم وتؤدی به إلى الغرور والطغیان.
6. جلد بمعنى القوة والصلابة.
7. نهج البلاغة، الخطبة 145. 
الزهد فی الدنیاالقسم الأول
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma