عالم الآخرة

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات الولایة (شرحٌ عصرىٌّ جامعٌ لنهج البلاغة) / الجزء الرابع
العشق المقدس والهجینالقسم الثالث

تحدث الإمام(علیه السلام) هنا عن الدار الآخرة وخلق الجنّة وما تضمه من نعم جمة فقال(علیه السلام): «سبحانک خالقاً ومعبوداً! بحسن بلائک عند خلقک» فقد خلقت تلک الدار العظیمة (الآخرة) وجعلت فیها مختلف النعم من مشارب ومطاعم وأزواج وخدمة وقصور وأنهار وزرع وثمار «وجعلت فیها مأدیة(1): مشرباً ومطعماً وأزواجاً وخدماً وقصوراً وأنهاراً وزروعاً وشماراً».

قطعاً أنّ الهدف من بیان هذه الاُمور هو تطهیر الإنسان من الرذائل والادناس والذنوب والمعاصی وسوقه إلى القرب من الله سبحانک: وقد وفرها الحق جمیعا لعباده بصفتها تشجع الإنسان على الثبات فی الطریق القویم ومواصلته.

ثم قال(علیه السلام): «ثم أرسلت داعیاً یدعو إلیها، فلا الداعی أجابوا، ولا فیما رغبت رغبوا، ولا إلى ما شوقت إلیه اشتاقوا».

فهم لم یکتفوا بعدم الرغبة بتلک النعم المطهرة الخالدة، بل اقبلوا على جیفة نتنة افتضحوا بأکلها والعجیب فی الأمر أن کلمتهم اتفقت على حبه: «أقبلوا على جیفة(2) قد افتضحوا بأکلها، واصطلحوا على حبّها».

طبعاً مراد الإمام(علیه السلام) من ارسال الداعی هو بعث الأنبیاء ولاسیما نبی الإسلام(صلى الله علیه وآله) والمراد بعدم إجابة الدعوة لاتشمل جمیع الناس; بل الأغلبیة من أهل الدنیا المفارقین للآخرة من اتباع الهوى والشهوات.

ومن هنا فقد شبههم بالحیوانات المفترسة التی تنهال على جیفة فتفضح نفسها; وذلک لأنّ الرائحة النتنة لتلک الجیفة تفوح من فمها ویدها.

وقوله(علیه السلام): «واصطلحوا على حبها» لا یعنی عدم وجود النزاع بین أهل الدنیا، بل هم دائماً کالحیوانات التی تجتمع حول جیفة نتنة وتهجم علیها لیتناول کل قطعة منها. والمراد أنّهم اتفقوا على حبها.

وتشبیه الدنیا بالجیفة، هو تشبیه ورد فی بعض الروایات، وذلک للتعفن الکامن فی باطن الدنیا التی تختزن أنواع الظلم والذنب، أو لأنّ أصحاب الدنیا یهبون للتنازع والاقتتال بهدف سلبها من بعضهم البعض الآخر.

ثم بیّن الإمام(علیه السلام) نتیجة هذا الحب للدنیا بشکل قاعدة کلیة وعامة وهى: «ومن عشق(3)شیئاً أعشى(4) بصره، وأمرض قلبه، فهو ینظر بعین غیر صحیحة، ویسمع باذن غیر سمیعة».

فقد رکز الإمام(علیه السلام) على نقطة یکشف فیها عن حقیقة وهى أنّ حب الدنیا وعشق زخرفها وزبرجها وزینتها المادیة إنّما یسلب الإنسان اصدار الأحکام بصورة صحیحة، بحیث یحسب أنّ سعادته وموفقیته إنّما تتمثل بالوصول إلى هذه الدنیا المادیة، مهما کان وکیفما کان الطریق المؤدی الیها.

ومن الطبیعی أن یتعذر على مثل هذا الفرد تشخیص الحق من الباطل والمصالح من المفاسد. فهو ینطلق بشکل جنونی نحو لذات الدنیا، فاذا أفاق رأى نفسه وقد فقد کل شیء.

وسنتحدث فی البحث القادم ان شاء الله عن حقیقة العشق وآثاره.

وتختتم هذا البحث بالحدیث النبوی الشریف: «من جعل الدنیا أکبر همه، فرق الله علیه همه، وجعل فقره بین عینیه»(5).

ثم قال(علیه السلام): «قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنیا قلبه، وولهت علیها نفسه».

فقد شبه الإمام(علیه السلام) العقل فی العبارة الاولى بالثوب، الذی یمکنه أن یحفظ الإنسان ویکون له زینة، أمّا الشهوة فهى تمزق ثوب العقل الجمیل. وفی العبارة الثانیة وصف غلبة الشهوات على العقل بأنّه موت للعقل. کما أشار(علیه السلام) فی العبارة الثالثة إلى أنّ حب الدنیا والرغبة فیها قد أحاط بجمیع کیان أهل الدنیا وطلابها.

وعلیه فمثل هذا الإنسان عبد للدنیا، ولمن فی یده شیء من حطامه: «فهو عبد لها، ولمن یده شیء منها، حیثما زالت زال إلیها، وحیثما أقبلت أقبل علیها».

فهو لاینزجر بأی زاجر ولا یکترث لأی ناهى، ولایتعظ بموعظة واعظ ولا یصغی إلى نصح ناصح، والحال یرى بأم عینیه من یؤخذ بغتة لاصفح ولاعقو ولارجعة «لا ینزجر من الله بزاجر، ولا یتعظ منه بواعظ، وهو یرى المأخوذین على العزة(6) حیث لا إقالة(7)ولارجعة، کیف نزل بهم ما کانوا یجهلون، وجاءهم من فراق الدنیا ما کانوا یأمنون، وقدموا من الآخرة على ما کانوا یوعدون، فغیر موصوف ما نزل بهم».

نعم فمن یرى بعینه کل یوم تقلب أحوال الدنیا وغدرها بأهلها لابدّ أنّ یکون یقظاً، یستمع إلى الوعظ والنصح وینتهى بنهی الآخرین، إلاّ أنّ المؤسف له هو أنّ حب الدنیا والتکالب علیها والاغترار بزخارفها لیعمی عین الإنسان ویصم سمعه ویستحوذ على فکره بحیث لایسمح له بأن یفیق إلى نفسه.


1. «المأدبة» بضم الدال وفتحها ما یصنع من الطعام للمدعوین فی عرس ونحوه، والمراد هنا نعیم الجنّة، من مادة أدب التی تعنی فی الأصل الدعوة.
2. «جیفه» بمعنى المیتة، وأصلها من مادة «جَیَفَ» و «الأجیف» بمعنى الأنتن، ولذلک فان کل شیء فاسد ونتن یُشَبَهُ بـ «الجیفة»، ومن هنا فقد شَبهت الخطبة أعلاه الدنیا المادیة بانها «جیفة».
3. «عَشَقَ» من مادة «عشق» على وزن فکر بمعنى العلاقة الشدیدة بالشیء.
و«عشقه» على وزن ثمرة بمعنى الشجرة الخضراء الیانعة، والتی لا یمر علیها الا وقت قصیر فتصبح صفراء وذابلة.
وبعضهم قال: ان العشق أشتق فی الأصل من هذه المادة، وذلک لان العاشق یصبح نحیفاً ذابلا.
4. «أعشى» من مادة «عشو» على وزن «خشم» بمعنى ضعف النظر و عدم قدرة العین على الابصار بصورة جیدة، و تأتی أحیانا بمعنى العمى اللیلی أو العشو لیلا.
5. شرح نهج البلاغة لابن میثم 3/63.
6. «غرة» بمعنى الغفلة من مادة «غرور» بمعنى الخداع، حیث یستغفل هذا الخداع الإنسان ویأخذه بغتة.
7. «إقالة» من مادة «قیل» على وزن سیل بمعنى فسخ المعاملة، وقیل معناها الأصلی انقاذ الإنسان من السقوط، ووردت فی الخطبة بمعنى العفوعن الذنوب. 
العشق المقدس والهجینالقسم الثالث
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma