«اجْتَمَعَتْ عَلَیْهِمْ سَکْرَةُ الْمَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وَتَغَیَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِیهِمْ وُلُوجاً، فَحِیلَ بَیْنَ أَحَدِهِمْ وَبَیْنَ مَنْطِقِهِ، وَإِنَّهُ لَبَیْنَ أَهْلِهِ یَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَیَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَى صِحَّة مِنْ عَقْلِهِ، وَبَقَاء مِنْ لُبِّهِ، یُفَکِّرُ فِیمَ أَفْنَى عُمْرَهُ، وَفِیمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ! وَیَتَذَکَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِی مَطَالِبِهَا، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّ حَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وَأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقَهِا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ یَنْعَمُونَ فِیهَا، وَیَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَیَکُونُ الْمَهْنَأُ لِغَیْرِهِ، وَالْعِبءُ عَلَى ظَهْرِهِ. وَالْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا، فَهُوَ یَعَضُّ یَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَیَزْهُدُ فِیَما کَانَ یَرْغَبُ فِیهِ أَیَّامَ عُمُرِهِ، وَیَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِی کَانَ یَغْبِطُهُ بِهَا وَیَحْسُدُهُ عَلَیْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ! فَلَمْ یَزَلِ الْمَوْتُ یُبَالِغُ فِی جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ، فَصَارَ بَیْنَ أَهْلِهِ لاَیَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلاَ یَسْمَعُ بِسَمْعِهِ: یُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِی وجُوهِهِمْ، یَرَى حَرَکَاتِ ألْسِنَتِهِمْ، وَلاَیَسْمَعُ رَجْعَ کَلامِهِمْ. ثُمَّ ازْدَادَ زاد الْمَوْتُ الْتِیَاطاً بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ کَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِیفَةً بَیْنَ أَهْلِهِ، قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِه، وَتَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ. لاَ یُسْعِدُ بَاکِیاً، وَلاَ یُجِیبُ دَاعِیاً. ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِی الأَرْضِ، فَأَسْلَمُوهُ فیهِ اِلَى عَمَلِهِ، وَانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ».