سکرات الموت

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات الولایة (شرحٌ عصرىٌّ جامعٌ لنهج البلاغة) / الجزء الرابع
سکرة الموت والاحتضارالقسم الرابع

تطرق الإمام(علیه السلام) هنا إلى سکرات الموت بعبارات تهز أعماق الإنسان وتلفت انتباهه إلى تلک الحقیقة: «اجتمعت علیهم سکرة الموت وحسرة الفوت».

فالواقع هناک هجوم ثقیل على الإنسان وهو على أعتاب الموت: الأول هجوم سکرات الموت، وهو حالة تشبه السکر تحدث للإنسان حین یحل أجله، وقد تستولی أحیاناً على عقله فتجعله یعیش حالة من الاضطراب والقلق العظیم.

والآخر حسرة فقد ان کل شیء کان قد أجهد نفسه عمراً طویلاً من أجل الحصول علیه وعانى فی سبیله الأمرین.

وهى اُمور تعلق وشغف بها وکأنّها أصبحت جزءاً من وجوده وکیانه، وإذا به یرى الآن أنّه یودعها إلى غیر رجعة، وهذا ما یضاعف من قلقه واضطرابه ثم خاض(علیه السلام) فی شرح تفاصیل تلک السکرات، حیث تضعف حینها الأعضاء والجسد بعد أن یتغیر لونها، ثم یدب فیها الموت بالتدریج، فیفصلها عن اللسان، والحال هو جالس بین أهله یراهم بعینه ویسمع کلامهم باذنه، وهو على سلامة من عقله: «ففترت لها أطرافهم، وتغیرت لها أطرافهم، ثم ازداد الموت فیهم ولوجاً، فحیل بین أحدهم وبین منطقه، وإنّه لبین أهله ینظر ببصره، ویسمع باذنه، على صحة من عقله، وبقاء من لبه».

فالذی یستفاد من هذه العبارات أنّ أول ما یتوقف عن العمل هو لسان الإنسان. اللسان الذی یعدّ أکبر سند للإنسان من أجل حل مشاکله، ویالها من حسرة وفاجعة أن یرى الإنسان بعینه ویسمع باذنه وهو على سلامة من عقله ولبه، لکنه لا یستطیع أن ینبس ببنت شفة فیلهج بما یرید. ذکر أحد شراح نهج البلاغة هنا مثالا من التوراة عن الموت حیث شبهته بالشجرة ذات الأشواک التی تغوص فی جمیع البدن، و یغرس کل شوکة فی عصب من عصبه فتمزقها جمیعاً و تقضی علیه.

ثم واصل(علیه السلام) کلامه بشأن من هجم علیه سکرة الموت فی أنّه فاق من غفلته واستغرق فی التفکیر فهو یفکر فیم أقضى عمره وذهب به أدراج الریاح وکیف أفنى دهره: «یفکر فیم أفنى عمره، وفیم أذهب دهره».

یتذکر هنا الأموال والثروات التی جمعها وقد أغمض عینیه عن الکیفیة التی جمعت بها دون الاکتراث إلى الحلال والحرام والمحظور والممنوع: «ویتذکر أموالاً جمعها، أغمض(1) فی مطالبها، وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعها، وأشرف على فراقها».

نعم فهو یفیق إلى نفسه وأول کابوس یقض مضجعه ویهیمن على کیانه هو کابوس أمواله; الأموال التی لم یفکر بالحلال والحرام فی جمعها بعد أن أعماه حبّ الدنیا، أو أنّه اعتمد بعض التوجیهات المشبوهة لیستحوذ على بعض الأشیاء، والآن بعد أن رفع عنه الحجاب فهو یرى العبىء الثقیل الذی طال عاتقه متمثلاً بحق الله وحق الناس، والأنکى من ذلک عدم وجود سبیل إلى الفرار. لیس له من لسان لبیان هذه المشکلة، وإن کان له من بیان، فلیس هنالک من یسمع! ولو سمعه من حوله من قرابته ووارثیه اکتفوا بالقول (أنّه لیهجر حیث فقد عقله وفکره) لیتمکنوا من مصادرة أمواله بسهولة.

وهذا هو البؤس الحقیقی فی أن یشقى الإنسان بجمع هذه الأموال وتبقى علیه تبعتها ومسؤولیتها، بینما یخلفها الآن إلى غیره ویفارقها إلى غیر رجعة.

ومن هنا قال(علیه السلام): «تبقى لمن وراءه ینعمون فیها، ویتمتعون بها، فیکون المهنأ لغیره، والعب(2) على ظهره، والمرء قد غلقت رهونه(3) بها».

یالها من مصیبة! أن یرى الإنسان کل هذه القصور الفخمة والأجهزة المتطورة والثیاب الفاخرة ووسائل الراحة الراقیة والأموال الوفیرة التی عانى ما عانى فی الدنیا من أجل الحصول علیها وهو یهبها الان لقمة سائغة لمن وراءه! والأدهى من ذلک ذهبت لذتها لغیره وبقیت تبعتها علیه.

ولیت شعری لیس له الآن سوى الحسرة والندم فلم تعد هناک من فرصة لتلافی ما فرط منه وتدارک ما قصر فیه ولذلک قال(علیه السلام): «فهو یعض یده ندامة على ما أصحر له(4) عند الموت من أمره، ویزهد فیما کان یرغب فیه أیام عمره».

وهنا یتذکر الحساد الذین واجهوه فی حیاته وحاولوا الاستیلاء على أمواله وثرواته ویسلبوه ملکیتها، إلاّ أنّه حال دونهم بفکره وشطارته ولم یدعهم ینیلون منها، إذ ذاک تمنى حین هجم علیه الموت ألا یکون قد أخذها، ولیتها صارت من نصیب من حسده وغبطه علیه: «ویتمنى أن الذی کان یغبطه بها ویحسده علیها قد حازها دونه».

ثم خاض(علیه السلام) فی تفاصیل الموت بعبارات تهز النفس وتوقظ الضمیر، وکأنّه یعیش تلک الحالة ویوشک أن یودع الدنیا الفانیة: «فلم یزل الموت یبالغ فی جسده حتى خالط لسانه سمعه، فصار بین أهله لاینطق بلسانه، ولایسمع بسمعه».

فأخذت الأعضاء تموت الواحد بعد الآخر ولم یبق له من لسان ناطق أو أذن سامعة: «یردد طرفه بالنظر فی وجوههم، یرى حرکات ألسنتهم، ولایسمع رجع کلامهم» أنّهم یسعون لأنّ یرتبطوا به ولکن لم یعد هنالک من سبیل.

ثم قال(علیه السلام): «ثم ازداد الموت التیاط(5) به، فقبض بصره کما قبض سمعه، وخرجت الروح من جسده، فصار جیفة بین أهله، قد أو حشوا من جانبه، وتباعدوا من قربه، لا یسعد باکیاً، ولا یجیب داعیاً».

ثم بلغ مرحلته الأخیرة: «ثم حملوه إلى مخط(6) فی الأرض، فأسلموه إلى عمله، وانقطعوا عن زورته(7)».

لقد ألفوه سنوات، کان یضحکون معه وربما لم یطیقوا بعده، أمّا الآن بعد أنّ حل الموت بساحته، فهم لم یعودوا یتحملوا الجلوس بقربه ولو لساعه، وکأنهم لم یألفوه وکانوا غرباء عنه.


1. «أغمض» من مادة «غمض» على وزن نبض اطباق الجفن على العین، ثم اطلق على کل تساهل وغفلة.
2. «العب» بمعنى الحمل والثقل.
3. «رهون» جمع «رهن» حبس الشیء وهو عادة سند یسلم مقابل قرض لایعاد مالم یسدد «والمرء قد غلقت رهونه بها» استحقها مرتهنها وأعوزته القدرة على تخلیصها، کنایة عن تعذر الخلاص.
4. «أصحر» برز فی الصحراء، أی على ما ظهر له وانکشف من أمره.
5. «التیاط» من مادة «لیط» على وزن لیل الالتصاق.
6. «مخط» الحفرة وتطلق على القبر، لأنّهم بحظون ثم یحفرون.
7. «زوره» من مادة «الزیارة» وجاءت بهذا المعنى. 
سکرة الموت والاحتضارالقسم الرابع
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma