العبر والاعتبار

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات الولایة (شرحٌ عصرىٌّ جامعٌ لنهج البلاغة) / الجزء الخامس
القسم الرابعالقسم الثالث

لما کان الانغماس فی الدنیا والتکالب علیها وفقدان النفس لتوازنها إزاء زخارف عالم المادة من أهم العوامل لعدم التقوى، فقد ورد الحدیث هنا عن تفاهة الدنیا وتقلب أحوالها وما تنطوی علیه من شدائد ونوازل بهدف اجتثاث جذور التحلل وعدم استشعار الورع والتقوى فقال (علیه السلام): «ثُمَّ إِنَّ الدُّنْیَا دَارُ فَنَاء وَعَنَاء، وَغِیَر وَعِبَر».

حیث تشیر العبارة إلى أربع خصائص تمتاز بها الدنیا والتی یقود التفکیر بها الإنسان إلى التعرف على الصورة الحقیقیة للدنیا، ثم خاضت العبارات التالیة فی شرحها الواحدة بعد الاُخرى مع التطرق إلى بعض التفاصیل الدقیقة لکل واحدة منها، فأشارت فی البدایة إلى خاصیة فناء الدنیا، حیث صورت بعض علامات هذا الفناء فی أنّ الدهر یشبه الرامی الماهر الذی یطلق سهامه دون أن تطیش وتخطىء الهدف، کما یتعذر علاج جروح من أصابته تلک السهام: «فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ، لاَ تُخْطِیءُ سِهَامُهُ، وَلاَ تُؤْسَى(1) جِرَاحُهُ».

فلا خلاص لأحد من الموت والعجز والمشیب والمرض والألم والعناء، ولذلک قال الإمام(علیه السلام)فی شرحه لهذه العبارة: «یَرْمِی الْحَیَّ بِالْمَوْتِ وَالصَّحِیحَ بِالسَّقْمِ، وَالنَّاجِیَ بِالْعَطَبِ». فأقوى أفراد البشر یستسلم یوماً للموت، کما یمرض أصح الأصحاء ویهزم حتى الأبطال.

نعم، هذه طبیعة الحیاة الدنیا، وهذا هو القانون الذی لا یعرف لاستثناء، والغریب فی الأمر أنّ الجمیع یعرف ذلک ویرونه بأعینهم ورغم کل ذلک فهم یتعلّقون بالدنیا ویخلدون إلیها ویغترّون بها.

ثم یختتم (علیه السلام) کلامه بشأن توضیح فناء الدنیا قائلاً: «آکِلٌ لاَ یَشْبَعُ، وَشَارِبٌ لاَ یَنْقَعُ(2)».

فقد کشف الإمام (علیه السلام) حقیقة فناء الدنیا من خلال العبارات الثمان التی أوردها فی وصف الدنیا، بحیث لا یشک من کان له أدنى عقل بفناء الدنیا وعدم دوامها.

ثم خاض (علیه السلام) فی شرح وتفسیر عناء الدنیا ومن ذلک جمعه الأموال التی لا یستفیدها جمیعاً والمبانی التی یشیّدها دون أن یسکنها وأخیراً یودع کل ذلک وینتقل إلى عالم آخر دون أن یحمل معه شیئاً من الأموال أو الدور: «وَمِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ یَجْمَعُ مَا لاَ یَأْکُلُ وَیَبْنِی مَالا یَسْکُنُ. ثُمَّ یَخْرُجُ إِلَى اللّهِ تَعَالَى لاَ مَالاً حَمَلَ، وَلاَ بِنَاءً نَقَلَ».

نعم، کثیرون هم الأفراد الذین یدّخرون أمولاً طائلة، إلاّ أنّهم لا یستفیدون إلاّ من جزء یسیر منها وما أکثر اُولئک الذین یبنون لأنفسهم أعظم القصور والدور فلا یقیمون فیها إلاّ مدّة قلیلة، بل قد لا یسکنونها حتى لیوم واحد، وقد رأینا بأم أعیننا إقامة مراسم العزاء على أرواحهم فی تلک القصور الفخمة، فهم یترکونها فی خاتمة المطاف ولا یحملون من مال الدنیا سوى الکفن، بل ربّما لم یحملوا حتى ذلک الکفن، فتکون ثیابهم أکفانهم وبیوتهم قبورهم.

ورد فی البحار عن العلاّمة المجلسی أنّ علی (علیه السلام) قال: «کَمْ مِنْ غـافِل یَنْسَجُ ثَوباً لِیَلْبَسَهُ وَإِنَّما هُوَ کَفَنُهُ وَیَبْنِی بَیتَاً لیَسکُنَهُ وَإنَّما هُوَ مَوضِعُ قَبرِةِ»(3).

ثم خاض الإمام (علیه السلام) فی شرح الصفة الثالثة للدنیا فقال: «وَمِنْ غِیَرِهَا أَنَّکَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً، وَالْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً; لَیْسَ ذلِکَ إِلاَّ نَعِیماً زَلَّ(4)، وَبُؤْساً نَزَلَ».

حیث رأینا کراراً لیس فی صفحات التاریخ فحسب، بل فی حیاتنا الیومیة عدّة أفراد کانوا من أهل السطوة وقمة القدرة حتى یتمنى الجمیع الحصول على شیء من قدرتهم، لکنّهم هووا فی مستنقع السقوط بما جعل الکل یترحم علیهم، وبالعکس فإننا نعرف بعض الأفراد ممن یشعر من یراهم بالأسى والحزن لصعوبة أوضاعهم ومعاناتهم، بینما تسلقوا فجأة سلّم القدرة لیحظوا باعجاب الجمیع وغبطتهم.

نعم، لم یکن «قارون» لوحده الذی استعرض یوماً کل تلک القدرة و الثروة التی خطفت أبصار قصار النظر من بنی اسرائیل الذین اعتراهم الحسد والأمل، فتمنوا الحصول على تلک الثروة بدله، ولم تمض مدّة حتى شقت الأرض لتبتلع کل کنوزه وثرواته، ممّا دفع من تمنى تلک الثروة إلى شکر الله أن لم یجعلهم بدلاً منه ولم یغدق علیهم الثروة والسطوة، أجل لقد تکررت هذه الصورة مراراً فی التاریخ ثم قال (علیه السلام) فی الصفة الرابعة للدنیا والتی تختص بکونها عبرة: «وَمِنْ عِبَرِهَا أَنَّ الْمَرْءَ یُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ فَیَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ. فَلاَ أَمَلٌ یُدْرَکُ وَلاَ مُؤَمَّلٌ یُتْرَکُ».

فأحیاناً یعدّ الإنسان عدّة مقدمات بغیة الحصول على المال والثروة أو الجاه والمنزلة ولا یکاد یقترب من الوصول إلى أهدافه حتى یتخطفه الموت فیقضی على جمیع طموحاته ورغباته ویحول دون تحقیقها، بل لا یدوم له حتى المال الذی یجنیه والمنصب الذی یشغله.

ثم یعرب الإمام (علیه السلام) فی آخر کلامه عن وحشته لمن یغترّ بمثل هذه الدنیا الملیئة بالفناء والعناء والموصوفة بالغیر والعبر: «فَسُبْحَانَ اللّهِ مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا وَأَظْمَأَ رِیَّه(5) وَأَضْحَى فَیْئَهَا، لاَ جَاء یُرَدُّ، وَلاَ مَاض یَرْتَدُّ».

نعم، عابرة جدّاً لحظات الفرح والسرور وهى أشبه بلحظات الإرتواء من النعم وزوال الفیىء والظل.

یمکن أن تکون العبارة «لا جاء یرد ولا ماض یرتد» إشارة إلى الناس حیث تأتی طائفة لا یقدر أحد على صدها، کما تنتقل طائفة من هذا العالم ولیس لأحد من قدرة على إعادتها، کما یمکن أن تکون إشارة إلى حوادث الدهر شرّها وخیرها والتی لا یسع أحد الحیلولة دون وقوعها إن أبرمت وأصبحت قطعیة حتمیة، کما لا یمکن عودة ما تولى من أمور ودهور، فلا عودة للطفولة فی الشباب ولا الشباب فی المشیب.

ثمّ إختتم (علیه السلام) هذا المقطع من الخطبة بهذه العبارة التی تکمل سابقتها من العبارات قائلاً: «فَسُبْحَانَ اللّهِ، مَا أَقْرَبَ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ، وَأَبْعَدَ الْمَیِّتَ مِنَ الْحَیِّ لاِنْقِطَاعِهِ عَنْهُ!».

نعم، فالفاصلة بین الموت والحیاة قصیرة جدّاً حتى صورتها الروایات بأنّها تکاد تکون کطرفة العین، ومن ما ورد فی الحدیث عن النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) أنّه قال: «وَالّذِی نَفسُ مُحِمِّد بِیَدِهِ مَا طَرَفْتْ عَینَای إلاّ ظَنَنتُ أَنَّ سَفَرِی لا یَلْتَقِیانِ حَتّى یَقْبِضَ اللهُ رُوحِی وَلا رَفَعْتُ طَرفِی وظَنَنْتُ أَنِّی حـافِضُهُ حَتّى اُقبَضَ وَلا تَلَقَّنُ لُقْمَةً إلاّ ظَنَنْتُ أَنِّی لا اُسِیغُها حَتّى اُعَضَّ بِها مِنَ المَوتِ»(6).

إنّ من له أدنى إلمام ببنیة جسم الإنسان لیعلم بمدى قرب هذه الفاصلة، فیکفی تخثر مقدار قلیل من الدم لیغلق منافذ شرایین الفاصلة أوالدماغ فیؤدّی بحیاة الإنسان، بل یکفی نفوذ جزء یسیر من الطعام إلى لسان المزمار بدلاً من إتجاهه إلى المعدة لیختنق الإنسان ویموت من فوره، کما تکفی صدمة طبیعیة لهذا الإنسان قد توقف قلبه عن الدق وإلى الأبد.

أمّا بالنسبة للحوادث الخارجیة فبمجرّد اهتزاز الأرض للحظة قد تنقلب مدینة رأساً على عقب، کما قد تأتی عاصفة أو سیل على کل شیء فتحیله خراباً لا حرکة فیه ولا حیاة، بل لصاعقة من السماء أن تحیل کل شیء إلى رماد.

إلى جانب ذلک هنالک الحوادث الیومیة فی حیاتنا المعاصرة من قبیل الاصطدامات وسقوط الطائرات والحرائق والانفجارات التی تنهی حیاة الأفراد خلال لحظات، نعم، تکاد تکون معدومة هى الفاصلة بین الحیاة والموت، ولکن من جانب آخر فانّ هذه الفاصلة قد تکون فی غایة البعد، فلو اجتمع کافة الأطباء وأعدّوا مختلف الوسائل الطبیة، فلیس لهم أن یهبوا الحیاة للأموات، على غرار الولید الذی لا یسعه الرجوع إلى بطون اُمه و الثمار التی لا تعود ثانیة إلى الأشجار بعد سقوطها.

نختتم الکلام بما ورد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «ثَلاثَةُ أَشیاء لا یَنبَغِی لِللعـاقِلِ أَن یَنسـاهُنَّ عَلى کُلِّ حـال، فَناءُ الدُّنیا وَتصَرُّفُ الأَحوالِ والآفاتُ الَّتی لا أمانَ لَها»(7).


1. «توسی»: من مادة «اَسو» بمعنى علاج الجرح.
2. «ینقع»: من مادة «نقع» على وزن نفع بمعنى إرواء وارتواء.
3. بحار الانوار 6/132.
4. «زلّ»: من مادة «زل» على وزن حل بمعنى الانزلاق والسقوط.
5. «ریّ»: بمعنى الارتواء.
6. بحار الانوار 7/166.
7. بحار الانوار 75/238.

 

القسم الرابعالقسم الثالث
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma