یحذر الإمام (صلى الله علیه وآله) فی هذا المقطع من الخطبة کافة الأفراد الذین یبدون الضعف فی مجاهدة العدو الغادر والغاشم، ویتهربون من المسؤولیة من خلال اللجوء إلى بعض الحجج والأعذار، فی أنّ الآفاق المعتمة إنّما تکمن أمامکم، والمستقبل المظلم الذی یتسلط فیه العدو علیکم ویهیمن على مقدراتکم وسیصبون علیکم جام غضبهم بما یجعلکم تفقدون صوابکم وعقلکم: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِیَ(1) عَنْکُمْ غَیْبُهُ، إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ(2) تَبْکُونَ عَلَى أَعْمَالِکُمْ، وَتَلْتَدِمُونَ(3) عَلَى أَنْفُسِکُمْ».
بل قد لا تکتفون بذلک: «وَلَتَرَکْتُمْ أَمْوَالَکُمْ لاَ حَارِسَ لَهَا وَلاَ خَالِفَ(4) عَلَیْهَا، وَلَهَمَّتْ کُلَّ امْرِىء مِنْکُمْ نَفْسُهُ، لاَ یَلْتَفِتُ إِلَى غَیْرِهَا».
فهذه العبارات تجسد حال الشخص الذی یبتلى بمصائب عظمیة بحیث ینسى کل شیء سوى إنقاذ نفسه، فقد إتّجه صوب الصحراء ویتابع لطم وجهه ورأسه یسکب دموعه ویتعالى صراخه، کما یسعى إلى التخلی عن أموال رغم مالها من أهمّیة لدیه ومدى الجهود التی بذلها من أجل الحفاظ علیها، إلى جانب ذلک فهو لا یعیر أهمّیة لمن خلفه حتى أنّه لینسى أعزّته وبطانته.
ویرى بعض شرّاح نهج البلاغة أنّ هذه العبارات ترتبط بأهوال یوم القیامة والتی وردت فی مختلف الآیات القرآنیة، لکن بالنظر إلى ذیل الخطبة الذی یتحدث عن جرائم الحجاج وسبب الخطبة الذی یفید ضعف أهل الکوفة فی جهاد العدو، فانّ المعنى المذکور یبدو بعیداً، والظاهر أنّها ناظرة إلى سلطة بنی اُمیة والجرائم المروعة التی إرتکبها الحجاج وأمثاله.
ثم واصل الإمام (علیه السلام) کلامه بالإشارة إلى المصدر الرئیسی الذی انبثقت منه هذه الحوادث: «وَلَکِنَّکُمْ نَسِیْتُمْ مَا ذُکِّرْتُمْ، وَأَمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ، فَتَاهَ(5) عَنْکُمْ رَأْیُکُمْ، وَتَشَتَّتَ عَلَیْکُمْ أَمْرُکُمْ».
لا ینبغی لکم أن تتصوروا أبداً بأنّ الحوادث الألیمة التی تنتظرکم إنّما تأتیکم بغتة،کلا لیس الأمر کذلک، فقد حذرتکم مراراً، وأدّیت لکم حق الوعظ والنصح، وکشفت لکم المستور، ثم أنذرتکم، لکن للأسف لم تعیروا وعظی ونصحی آدانا صاغیة، فقد نسیتم کل ما ذکرته لکم وتجاهلتم کل الإرشاد، ومن هنا لم تمارسوا ما ینبغی علیکم فی موقعه وأوانه ولم تعدوا الخطط اللازمة للوقوف بوجه الأعداء فلم تکن نتیجة ذلک الذی لا مثیل له فی التاریخ.
ثم قال الإمام (علیه السلام): «وَلَوَدِدْتُ أَنَّ اللّهَ فَرَّقَ بَیْنِی وَبَیْنَکُمْ، وَأَلْحَقْنِی بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِی مِنْکُمْ».
إشارة إلى أنّه طالما تعذر إصلاحکم فیا لیتنی فارقتکم، ولیت القدر الإلهی أذن بالتحاقی بمن ینسجم معی فی الأفکار والتطلعات.
ثم خاض (علیه السلام) فی شرح خصائص القوم الذین یراهم ینسجمون وأفکاره وتوجهاته: «قَوْمٌ وَاللّهِ مَیَامِینُ(6) الرَّأیِ، مَرَاجِیحُ(7) الْحِلْمِ، مَقَاوِیلُ بِالْحَقِّ، مَتَارِیکُ(8) لِلْبَغْیِ. مَضَوْا قُدُم(9)عَلَى الطَّرِیقَةِ وَأَوْجَفُوا عَلَى الَْمحَجَّةِ، فَظَفِرُوا بِالْعُقْبَى الدَّائِمَةِ، وَالْکَرَامَةِ الْبَارِدَةِ».
فهذه العبارات إشارة واضحة إلى النبی (صلى الله علیه وآله) وطائفة من صحبه ممن یتصف بالخصائص المذکورة الست، صفتان فی برامج الحیاة (نصرة الحق ومصارعة الظلم) وصفتان فی العمل (الانطلاق باتجاه الحق والسرعة من أجل بلوغ الهدف) وصفتان فی الفکر (التحلی بالفکر الناضج والعقل التام)، فبیّن أیضاً نتیجة هذه الصفات والتی تتمثل بالسعادة المطلقة والحیاة الحرّة الکریمة.