إختتم الإمام (علیه السلام) خطبته بالحدیث عن الشیطان کون وساوسه تمثل مصدر البؤس والشقاء، حیث حذر صحبه ومخاطبیه من هذا المکر وضرورة مراقبة الشیطان والإلتفات إلى طرق نفوذه، وقد بیّن ذلک على شکل خلاصة بأربع عبارات فقال: «إِنَّ الشَّیْطَانَ یُسَنِّی(1)لَکُمْ طُرُقَهُ».
ولما کان الشیطان یتبع الأسالیب السیاسیة شیئاً فشیئاً فانّه یسعى لتقویض جموح الدین والقضاء على العقائد والأعمال الواحدة بعد الأخرى: «وَیُرِیدُ أَنْ یَحُلَّ دِینَکُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً»، من ضمن برامجه وخططه أیضاً إیجاد الفرقة بدلاً من الإتحاد: «وَیُعْطِیَکُمْ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ»، فیثیر الفتن بواسطة هذه الفرقة: «وَبِالْفُرْقَةِ الْفِتْنَةَ».
أجل أول برنامج للشیطان أن یبدی الطرق الوعرة والخطیرة معبدة سهلة فی نظر الإنسان، فیستقطب إلیه الجمیع من خلال المرونة والتساهل وتصویر طریق الطاعة على أنّه معقد خطیر وصعب، فانّ سلک سبیله واتّبعه قاده کل یوم إلى ترک قانون من قوانین الشرع وعهد من عهوده المقدّسة، وهو الأمر الذی أکده القرآن الکریم أربع مرّات محذراً من اتّباع الشیطان: (وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّیْطَانِ...)(2).
وقال تعالى: (وَمَنْ یَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّیْطَانِ فَإِنَّهُ یَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْکَرِ...)(3).
فان جعل الإنسان غیر مکترث للأحکام الإلهیّة وسادت المجتمع الأهواء، آنذاک یستفید من تضارب المصالح المادیة والتعصبات الجاهلیة لیدعو الناس إلى الفرقة، کما أشار إلى ذلک القرآن الکریم: (إِنَّمَا یُرِیدُ الشَّیْطَانُ أَنْ یُوقِعَ بَیْنَکُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِی الْخَمْرِ وَالْمَیْسِرِ...)(4).
ومن الطبیعی إن اشتعلت نیران الفرقة والاختلاف والنفاق فی المجتمع استتبع ذلک ظهور الفتن، وممّا لا شک فیه فانّ دین الأفراد ودنیاهم تتحطم بفعل تلک الفتن، ولعل هذا هو الأمر الذی أجراه الشیطان فی أحدث معرکة صفین، فقد لقنهم الشیطان بادیء الأمر أن قبول التحکیم هو أسهل الطرق لبلوغ الصلح والاستقرار، ثم دعاهم للتمرد على أوامر المحکم أمیرالمؤمنین علی (علیه السلام) فی مجال الجهاد، آنذاک بث بذور الفرقة والنفاق بین صفوف الجیش حتى انتهى الأمر إلى فتنة عمرو بن العاص وأثرها فتنة الخوارج.
ثم قال الإمام (علیه السلام) بغیة عدم سقوط أصحابه فی شباک الشیطان: «فَاصْدِقُو(5) عَنْ نَزَغَاتِهِ(6)وَنَفَثَاتِهِ(7)، وَاقْبَلُوا النَّصِیحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَیْکُمْ، وَاعْقِلُوهَ(8) عَلَى أَنْفُسِکُمْ».
ویصدق هذا الأمر فی عصرنا وزماننا، فالشیطان یری طرقه المنحرفة سهلة وبسیطة بادىء الأمر، ویسحب الناس إلیه، ثم یسلبهم القیم الإسلامیة الواحدة بعد الأخرى، ثم یبث بینهم بذور الفرقة والخلاف، وأخیراً تقود الفرقة إلى اشتعال نیران الفتن السیاسیة والاجتماعیة والاقتصادیة.