حذر الإمام (علیه السلام) فی هذا المقطع من الخطبة الجمیع فی أنّ هذه الحیاة الدنیا إلى زوال ولابدّ من مفارقة هذه الدنیا عاجلاً أم آجلاً والالتحاق بالآخرة وتحمل تبعات الأعمال فقال: «فَإِنَّهُ وَاللّهِ الْجِدُّ لاَ اللَّعِبُ، وَالْحَقُّ لاَ الْکَذِبُ. وَمَا هُوَ إِلاَّ الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِیهِ(1)، وَأَعْجَلَ حَادِیهِ(2)».
ولما کان الموت حقیقة واقعة بالنسبة لجمیع الأفراد، وقضیة قطعیة تأبى الاجتناب، فقد أکّد الإمام (علیه السلام) کلامه بأنواع التأکیدات(3)، والتی بلغت عشرة أنواع حسب قول بعض شرّاح نهج البلاغة، فقال أنّ صوت داعی الموت یطرق الأذن من کل جانب وقد دوّى صوت الرحیل لیملا کافة أرجاءالعالم، وملک الموت لا یفرق بین کهل وشاب وطفل، فقد کمن للجمیع ولا یتنظر سوى أمر الله، ثم قال (علیه السلام): «فَلاَ یَغُرَّنَّکَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِکَ، وَقَدْ رَأَیْتَ مَنْ کَانَ قَبْلَکَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَحَذِرَ الاِْقْلاَلَ، وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ ـ طُولَ أَمَل وَاسْتِبْعَادَ أَجَل ـ کَیْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ(4) عَنْ وَطَنِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ»، یمکن أن یکون للعبارة «فَلاَ یَغُرَّنَّکَ سَوَادُ النَّاسِ»، معنیان:
الأول: إن رأیت الناس أحیاء وسالمین فلا یخدعک ذلک ولا یغفلک من الموت.
والثانی: لا تخدعک جماعات الناس لأن تفکر فی الحیاة لا الموت، ومفهوم العبارة: «وَحَذِرَ الاِْقْلاَلَ»، ابعاد النفس (حسب طنه) عن الفقر بجمع الأموال، والعبارة: «وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ» تعنی تصور الشخص أنّه بمأمن من عاقبة عمله بسبب الآمال الفارغة بأنّ الوقت مازال مبکراً على الموت، ولکن رغم کل هذه الآمال والأمانی، فقد فاجأهم الموت وأخرجهم بسرعة وعنف من وطنهم المألوف وطردهم من مکانهم الآمن، ثم واصل الإمام (علیه السلام) کلامه بأنّ ذلک فی الوقت الذی یحملون فیه على الأولاد وقد تناولتهم أیدی الرجال لیمسکوهم بالأنامل، وکأنّهم متنفرون ومرعبون من حمل توابیتهم بکامل أیدیهم: «مَحْمُولاً عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَایَا، یَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلاً عَلَى الْمَنَاکِبِ وَإِمْسَاکاً بِالاَْنَامِلِ».
فقد رسم الإمام (علیه السلام) صورة واضحة بهذه العبارات الصریحة والبلیغة المؤثرة لکیفیة نهایة حیاة الأثریاء المرفهین والمغرورین بالجاه والمنصب، ولاسیّما حین یدرکهم الموت المفاجىء، فهى عبارات تمزق کافة الحجب التی تسدل على عین الإنسان، کما توقظ کل سامع من نوم غفلته.
ثم أضفى (علیه السلام) صورة أخرى على هذا المعنى مواصلة لکلامه فقال: «أَمَا رَأَیْتُمُ الَّذِینَ یَأْمُلُونَ بَعِیداً، وَیَبْنُونَ مَشِید(5)، وَیَجْمَعُونَ کَثِیراً! کَیْفَ أَصْبَحَتْ بُیُوتُهُمْ قُبُوراً، وَمَا جَمَعُوا بُوراً; وَصَارتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِینَ، وَأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْم آخَرِینَ; لاَ فِی حَسَنَة یَزِیدُونَ، وَلاَ مِنْ سَیِّئَة یَسْتَعْتِبُونَ!
نعم، یفیق الإنسان من نوم الغفلة حین یصفعه الأجل، وفی تلک اللحظة تغلق صحف الأعمال تماماً، فلا من شیء یمکن واضافته إلى الحسنات، ولا یمکن تقلیل شیء من السیئات، ولو سلب الإنسان حیاته بینما بقیت صحف العمل مفتوحة والسبیل مشرع أمام تدارکها فلا عقبة ولا ضیر، إلاّ أنّ المشکلة تکمن فی غلق صحیفة الأعمال فلا مجال لتدارکها، وهذا ما یجعل الإنسان یعیش الهم والغم.