قبل الإجابة على هذا السؤال لابدّ من طرح سؤال آخر وهو: لماذا لم یُرتب القرآن باُسلوب موضوعی یشبه الکتب المتداولة؟ بل أنّه جمع بشکل یختلف عنها جمیعاً.
والجواب هو: إنّ المؤلف أو المؤلفین یأخذون بنظر الاعتبار مختلف المواضیع المتشابهة فی حقل واحد من أجل اعداد الکتب المتداولة، فمثلاً فی علم الطب یؤخذ بنظر الاعتبار «مختلف الأمراض التی ترتبط بمسألة صحة الإنسان» ثمّ تُقسم المسائل المتعلقة بهذه المواضیع على فصول وأبواب (أمراض القلب، الأمراض العصبیة، أمراض الجهاز الهضمی، أمراض جهاز التنفس، الأمراض الجلدیة وسائر الأمراض).
ومن ثمّ یبحثون کلَّ فصل وکلَّ باب من خلال الاعتماد على المقدّمات ونتائجها وبهذا النحو یتمّ تألیف کتاب باسم کتاب «الطب».
بید أنَّ القرآن لیس کذلک، فهذا الکتاب نزل على مدى 23 سنة وفقاً للحاجات والظروف الاجتماعیة المختلفة والوقائع المتباینة، والمراحل التربویة المتفاوتة، وکافة شؤون حیاة المجتمع الإسلامی، وفی نفس الوقت لم یتعلق بزمان ومکان معینین!
ففی وقت تدور کافة بحوث القرآن حول محور مقارعة الوثنیة والشرک وبیان التوحید بکل فروعه، والسّور والآیات النّازلة فی هذه المرحلة کلّها فی المبدأ والمعاد: (کالسور التی نزلت فی مکّة خلال السنوات الثلاث عشرة الاُولى من البعثة).
وفی زمان آخر نرى محور البحث والحدیث ساخناً وقویاً حول الجهاد وکیفیة مواجهة الأعداء فی الداخل والخارج والمنافقین.
وعندما تقع غزوة الأحزاب فتنزل سورة الأحزاب، وما لا یقل عن 17 آیة منها تتحدث عن هذه المعرکة والتجارب والقضایا التربویة فیها ووقائعها.
وحینما جرت واقعة صلح الحدیبیة نزلت سورة الفتح وبعدها فتح مکّة وغزوة حنین نزلت سورة الإخلاص وآیات اُخرى.
والخلاصة، فتزامناً مع انتشار الإسلام والتحرک العام للمجتمع الإسلامی کانت تنزل الآیات المناسبة وتصدر الأوامر اللازمة، وهذا ما کان یکمّل المسیرة التکاملیة للإنسان.
واستناداً إلى ما ذکرنا آنفاً، یتضح المغزى من التفسیر الموضوعی وهو جمع الأحداث والوقائع المتعلقة بذلک الموضوع وترتیبها لتتجلى وجهة نظر القرآن الکریم بشأن ذلک الموضوع وأبعاده.
فمثلا، تُجمع الآیات المتعلقة ببراهین معرفة الله کالفطرة، وبرهان النظم وبرهان الوجوب والإمکان وباقی البراهین، وحیث إنّ القرآن یفسّر بعضُه بعضاً تتضح أبعاد هذا الموضوع(1).
وهکذا بالنسبة للآیات المتعلقة بالجنّة أو النار، والصراط وصحیفة الأعمال، والآیات المتعلقة بالقضایا الأخلاقیة والتقوى وحسن الخلق والشجاعة، و... والآیات المتعلقة بأحکام الصلاة والصوم والزکاة والخمس والأنفال، والآیات المتعلقة بالعدالة الاجتماعیة وجهاد الأعداء وجهاد النفس و...
والمسلّم به أنّ هذه الآیات التی نزلت فی مناسبات مختلفة، عندما تُجمع کلُّ طائفة منها على حدة وتنظم وتُفسَّر فسوف تنکشف عنها حقائق جدیدة، ومن هنا تتّضح أهمیّة التفسیر الموضوعی، حیث سیأتی الکلام عنه فی البحث الآتی إن شاء الله.