إبراهیم (علیه السلام) یواجه عبدة الأصنام بمنطق قوی:

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات القرآن (الجزء الثالث)
العلاقة بین الأفول والحدوثشرح المفرادت

تحدثت الآیة الاُولى عن إراءة الله سبحانه (ملکوت) السماوات والأرض لإبراهیم(علیه السلام)کی ینبعث الیقین فی نفسه بمشاهدتها، وتتجدّد الحیاة فی إیمانه الفطری حیث تقول ( وَکَذلِکَ نُرى اِبرَاهِیمَ مَلَکوتَ السَّماوَاتِ والأَرضِ وَلِیَکُونَ مِنَ المُوقِنینَ)(1).

إنّ المقصود من (إراءة ملکوت السماوات والأرض) هو مشاهدة حکومة الله ومالکیته لعالم الوجود بملاحظة الموجودات المتغیّرة فی هذا العالم ]لأنّ لفظ (ملکوت) مشتق من (ملک) بمعنى الحکومة والمالکیة، وزیادة الواو والتاء للتأکید [هذه الحاکمیة المطلقة والمالکیة المسلّمة لله على العالم جاءت بالتفصیل فی الآیات اللاحقة، وهذه الآیات ـ فی الحقیقة ـ جاءت على صورة البیان (الإجمالی) و(التفصیلی) وهو من الأسالیب القرآنیة المعروفة فی بیان القضایا المهمّة، ففی البدایة تذکر القضیة بشکل مغلق کی یستعدّ السامع ثمّ تشرع بشرحها ] التعبیر بفاء التفریع فی (فلمّا) إشارة واضحة إلى هذا الأمر.

على أیّة حال فإنّ القرآن اعتمد تبیان هذا الإجمال فی الآیات اللاحقة، فبدأ أوّلا بالنجوم وبیّن استدلال إبراهیم (علیه السلام) فی إبطال مذهب عبدة النجوم بهذا النحو: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَیهِ اللَّیلُ رَءَا کَوکَباً قَالَ هذَا رَبِّى).

التعبیر بـ «رأى کوکباً» مع أنّ نجوماً کثیرة تظهر فی اللیل ـ فیه إشارة إلى نجم کبیر ولامع لفت نظره إلیه، وبما أنّ کوکب (الزُهرة) یظهر أوّل اللیل و(کوکب) یعنی (النجم عند طلوعه) یتعزز بذلک التفسیر الذی یمیل إلیه أغلب المفسّرین وهو أنّ النجم کان الزُهرة أو المشتری اللذین کانا یعتبران فی العصور القدیمة من الآلهة المعبودة عند المشرکین، ویؤید ذلک ما ورد عن الإمام الصادق(علیه السلام) فی إحدى الروایات بأنّ هذا النجم هو کوکب الزُهرة.

على کلّ حال فإنّ هذا النجم لم یدم طویلا حتى أفل، فقال إبراهیم(علیه السلام): (... لاَ اُحِبُّ الآفِلینَ).

مرّة اُخرى التفت إبراهیم إلى بزوغ (القمر) من وراء الاُفق فأضاء السماء والأرض بنوره الأخاذ والجمیل فقال إبراهیم(علیه السلام): (هَذَا رَبِّى).

ولکن لم یدم طویلا حتّى تعرّض القمر إلى مصیر النجم واختفى وراء الاُفق وعادت السماء مظلمة، (عندئذ قال إبراهیم (علیه السلام) الذی کان یسعى للوصول إلى حقیقة وکنه المعبود: (لَئِن لَّم یَهِدِنى رَبِّى لاََکُونَنَّ مِنَ القَومِ الضالِّینَ).

وبهذه الطریقة تبین أنّ سعی الإنسان لا یکفی للوصول إلى الحقّ، بل یجب أن یتعزز بالعون والعنایة الإلهیّة وکی لا یکون من الضالّین، ومن المؤکّد أنّ هذا الإمداد والعون یشمل الذین یجهدون أنفسهم فی ابتغاء الحقّ، وطلب معرفة الله سبحانه وتعالى.

وأخیراً انتهى اللیل، وأخذ الظلام یلم ستائره التی أسدلها على السماء، وبزغت الشمس فجأةً بوجهها النیّر المتلألئ من الشرق وألقت بأشعتها الذهبیة على الجبال والصحاری، (فَلَمَّا رَءَا الشَّمسَ بَازِغةً قَالَ هَذَا رَبِّى هذا أَکبَرُ)(2).

ولکن بانتهاء النهار وسقوط الشمس فی جوف اللیل المظلم واختفاء صورتها خلف حجاب الغروب، نادى إبراهیم (علیه السلام): (یَاقَومِ إِنِّى بَرىِءٌ مِّمَّا تُشرِکُونَ).

لقد فهم إبراهیم(علیه السلام) من خلال مشاهدته لغروب الشمس وأفول النجم وغیاب القمر، بأنّ کل ما رأى ما هی إلاّ مخلوقات خاضعة لقوانین الخلقة کالأفول والغروب والتغییر، وفهم بأنّ هناک قوّة خفیة لا یعتریها التغییر والغروب والاُفول أبداً، وهذه القوة تتمثل بالذات الإلهیّة المقدّسة.

وقال: إنّی وَجّهتُ وجهی إلى مَن خلق السماوات والأرض، ولا أُذعن للشرک أبداً، إنّی موحّد کامل التوحید وعابد وعبد مخلص: (إِنِّى وَجَّهتُ وَجهِىَ لِلذَّى فَطَرَ السَّمَاواتِ وَالأَرضَ حَنیفاً وَمَا أَنا مِنَ المُشرِکیِْنَ).

هل وقعت الحوادث الثلاثة فی لیلة واحدة أم فی لیلتین؟

قال بعض المفسّرین ـ نظراً لعجزهم عن تصوّر وقوعها فی لیلة واحدة ـ أو فی لیلتین، فقد قالوا إنّ ظاهر الآیات یدل على أنّها تعاقبت فی لیلة واحدة ونهار واحد وهذا ممکن تماماً، لأنّ کوکب الزهرة یظهر منتصف الشهر وبوضوح فی أوّل اللیل ثمّ یأفل سریعاً، ثمّ یظهر القمر بدراً من اُفق الشرق ]والتعبیر بـ (بازغ) یدلّ على أنّ القمر کان بدراً أو قریباً منه [وعندما یختفی القمر فی اُفق الغروب لا تلبث الشمس حتّى تشرق، وبهذا الترتیب تکون الوقائع الثلاث قد حصلت فی لیلة واحدة ونهار واحد.

وهذا الأمر لیس مهماً، المهم أن نعرف هو کیف یمکن لشخص مثل إبراهیم(علیه السلام) وبهذه المکانة العلمیة والعرفانیة ومع الأخذ بنظر الاعتبار عصمة ومقام الأنبیاء وحتى قبل بعثتهم، أن یجرى على لسانه مثل هذا الکلام والذی یحمل فی طیاته شرکاً ظاهراً؟

یمکن الإجابة عن هذا السؤال بطریقین:

الأوّل: بقرینة الآیات الواردة حیث یقول: (یَاقَومِ اِنّى بَرىِءٌ مَّمّا تُشرِکُونَ) یُفهم أنّه کان فی حالة التحدّث والکلام والجدال مع المشرکین ونعلم أنّ مدینة بابل کانت تضم عبدة النجوم والقمر والشمس.

إنَّ المعلّم الذکی والمتحدّث الماهر عندما یواجه المعارض اللجوج المعاند فلا یقابله بمعارضة عقیدته فوراً بل یماشیه فترة، وبتعبیر آخر یتحرّک مع الموجة قلیلا ثمّ یرکبها، وبهذا النحو یکون إبراهیم (علیه السلام) فی بدایة الأمر معهم ظاهراً لکی یریهم ضعف عقیدتهم ومنطقهم عند اُفول هذه الأجرام السماویة، وهذا الاُسلوب فی النقاش مؤثّر ونافذ ومقبول کثیراً ولا یتنافى مع ما لإبراهیم (علیه السلام) من مقام فی التوحید والمعرفة.

فی روایة عن الإمام علی بن موسى الرضا (علیه السلام) فی جوابه للمأمون الذی کان یعتقد بتعارض هذه الآیات مع عصمة الأنبیاء أنّه قال: «... إنّ إبراهیم (علیه السلام) وقع إلى ثلاثة أصناف: صنف یعبد الزهرة، وصنف یعبد القمر، وصنف یعبد الشمس... وکان قوله هذا على الإنکار والإستخبار...»(3).

والتفسیر الآخر هو أنّ إبراهیم (علیه السلام) ألقى هذا الکلام بشکل فرضی، والمحقّقون یواجهون ذلک فی الغالب عند التحقیق.

للإیضاح نقول: یتوصّل الإنسان تارةً إلى قضیّة ما عن طریق الاستدلال الوجدانی والشواهد الفطریة ولکنّه یرید أن یجعلها فی إطار البرهان العقلی، فیستعین بفرضیات مختلفة ویدرس مستلزمات کلّ فرضیة حتّى یصل إلى ما یرید.

فمثلا: یتوصّل المحقّق إلى أصالـة الروح بوجدانه ویرغب فی إقامة البرهان على ذلک فیفترض الروح مادّیة أو أنّ المادّیة من خواصها ثمّ یدرس اعراض المادّة وخواصها ومستلزماتها فیصل أخیراً إلى أنّ المادیّة (أو اعراض المادّة) لا تنسجم مع الظواهر الروحیة فینفیها الواحدة تلو الاُخرى حتّى یبلغ تجرّد الروح.

وإبراهیم (علیه السلام) أیضاً ولکی یسلک طریق التوحید المنطقی والذی توصّل إلیه بوضوح فی أعماق روحه یفترض فرضیات مختلفة ویقول (هذا ربّی) و(هذا ربّی) ثمّ یصل إلى بطلان هذه الاحتمالات باُفولها وغروبها حتّى یقول أخیراً: ( إِنّىِ وَجَّهتُ وَجهىَ لِلَّذى فَطَر السَمَاواتِ وَالأَرضَ)(4) ویکمل توحیده المستدل.

ونلاحظ فی بعض الروایات إشارات خفیفة إلى هذا المضمون، کما نقرأ عن الإمام الصادق (علیه السلام) فی قوله تعالى: ( کَانَ النَّاسُ أُمّةً وَاحدةً) الآیة فی حدیث طویل... وفی آخره یقول الراوی: قلت له: أفی ضلال کانوا قبل النبی أم على هدى؟

قال (علیه السلام): «لم یکونوا على هدى بل کانوا على فطرة الله التی فطرهم علیها لا تبدیل لخلق الله، ولم یکونوا لیهتدوا حتّى یهدیهم الله أما تسمع لقول إبراهیم(علیه السلام): (لئن لم یهدنی ربّی لأکوننّ من القوم الضالّین) أی ناسیاً للمیثاق»(5).

ولکن القرائن الموجودة فی الآیات والروایات التی وردت عن الإمام الرض(علیه السلام) فی هذا المجال أکثر تلائماً مع التفسیر الأوّل.


1. یقول بعض المفسّرین بأنّ فی تشبیه الآیة إشارة إلى أنّنا کما أریناک ـ یانبی الإسلام ـ ملکوت السماوات والأرض فانّا قد أریناها إبراهیم أیضاً (و علیه ففی الآیة جملة مقدّرة).
2. «الشمس» وإن کانت مؤنثاً مجازیاً ویجب أن یشار إلیها بـ (هذه) ولکن نعلم أنّ قضیّة المذکر والمؤنث سهلة وهنا یمکن أن یکون (هذا) إشارة إلى (الموجود) أو (المشاهد).
3. عیون أخبار الرضا (علیه السلام) باختصار، بنقل من تفسیر المیزان، ج7، ص214.
4. وردت احتمالات اُخرى فی تفسیر الآیات أعلاه منها الإستفهام الإستنکاری والإستفهام بقصد الإستهزاء وأمثاله، وخاصّة فی تفسیر التبیان وتفسیر الفخر الرازی حیث أوردا احتمالات عدیدة، ولکن لا ینسجم أی منها مع لحن الآیة.
5. تفسیر نور الثقلین، ج 1، ص 736، ح 148.

 

العلاقة بین الأفول والحدوثشرح المفرادت
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma