إن عجزتم عن عبادة الله فهاجروا

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات القرآن (الجزء الثالث)
1 ـ شجرة توحید العبادة المثمرةلا أعبد غیر الله

نواجه فی الآیة التاسعة نقطة جدیدة حیث یتوجّه الأمر إلى المؤمنین، وذلک عندما یکون البقاء فی مکان ـ حتّى أوطانهم الخاصّة ـ مانعاً من عبادة الله ومزعزعاً لتوحید عبادته فعلیهم أن یهجروا ذلک المکان تقول الآیة: ( یَاعِبادِىَ الَّذینَ آمَنُوا اِنَّ اَرضِى وَاسِعةٌ فَإِیّاىَ فَاعبُدُونِ ).

أجل، أنّ أرض الله واسعة ولا یمکن أبداً الإذعان لذلّ الشرک وأسر الکفر وعبادة الأصنام من أجل اُمور من قبیل القوم والقبیلة والبیت والوطن الحبیب، بل إنّ واجب کلّ مؤمن موحّد هو أن یهجَر وطنه فی مثل هذه الظروف ویحلّ فی وطن مناسب ویُبقی شمعة التوحید مضیئة فی روحة، وقد یُوفَّق ـ کالمهاجرین فی صدر الإسلام ـ لإعداد القوّة اللازمة ویرجع إلى وطنه ویزیل آثار الشرک وعبادة الأصنام من ربوعه.

والتعبیر بـ (یاعبادی)، و(أرضی)، و(إیّای فاعبدون) فی الآیة مقرون بالرحمة واللطف الإلهی وإشارة إلى نصره المستمر للموحّدین أینما کانوا وفی کلّ زمان(1).

والملاحظ أنّ المخاطب فی الآیة هم (العباد)، ومع ذلک فالآیة تأمرهم بعبادة الله الواحد، وفی ذلک إشارة إلى أنّ العباد ینبغی أن یواصلوا مسیرة التوحید إلى آخر العمر ولا ینحرفوا لحظة واحدة، وهذا نظیر تکرار الجملة: (اِهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِیمَ)، لدى المؤمنین، حیث یطلبون فیها استمرار هذه النعمة إلى جانب الهدایة، على أیّة حال، فإنّ الآیة دلیل على وجوب الهجرة من أرض الشرک وعبادة الأصنام إلى دار الإیمان، إلاّ أن یُوفَّق الإنسان لتغییر الأوضاع السائدة على تلک الأرض.

آیة البحث هی من آیات سورة العنکبوت التی یقول عنها المفسّرون: إنّ الآیات الإحدى عشرة الاُولى منها نزلت فی المدینة بصدد الذین کانوا فی مکّة وأظهروا الإسلام ولکنّهم لم یعزموا على الهجرة إلى المدینة، والآیة التی بعدها تقول: ( کُلُّ نَفس ذَائقَةُ المَوْتِ ) وفیها إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ الجمیع سیموتون وینفصلون عن الوطن والزوج والمال، فلا تظنّوا أنّکم إن بقیتم فی أجواء ملوّثة بالشرک فإنّکم سوف تبقون إلى جنب أحبّائکم أبد(2).

وتستند الآیة العاشرة إلى نقطة جدیدة اُخرى فی هذا المجال، وتعد المؤمنین جمیعاً بأنّهم سیکونون مالکین وحکّاماً للأرض کلّها، کما أنّ التوحید سینتشر فی العالم بأسره وسوف لن یعبد إلاّ الله، وعلى هذا فإنّها تبشّر بتوحید العبادة الخالصة کبشارة کبرى لکلّ المؤمنین وتقول: ( وَعَدَ اللهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنکُم وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأَرضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِنْ قَبلِهِم) وهناک بحث بین المفسّرین فی تحدید ماهیّة هذه الطائفة التی ورثت الأرض وعاشت فی عصور قدیمة، والمناسب أن یقال: إنّها إشارة إلى بنی إسرائیل الذین أصبحوا ملوکاً وحکّاماً على مساحة واسعة من الأرض بعد نهضة موسى (علیه السلام)وانهیار حکومة الفراعنة، وکما یقول القرآن الکریم فی قوله تعالى: (واَورَثْنَا القَومَ الَّذِینَ کَانُوا یُستَضعَفُونَ مَشَارِقَ الاَرضِ ومَغارِبَها الَّتِى بَارَکنَا فِیهَ)(3). (الأعراف / 137)

وتتضمَّنُ الآیة الحادیة عشرة إشارة إلى نقطة جدیدة فی هذا المجال حیث تؤکّد أنّ الأنبیاء العظام والملائکة المقرّبین لا یستحقّون العبادة فضلا عن الأصنام، فالعبادة مختصّة بالله عزّوجلّ وتقول: ( وَلاَ یَأْمُرَکُمْ اَنْ تَتَّخِذُوا المَلاَئِکَةَ والنَّبِیِّینَ اَرْبَاب)(4).

ولمزید من التأکید تضیف الآیة: ( أَیَأمُرکُم بِالکُفْرِ بَعدَ اِذْ أَنتُم مُّسلِمُونَ ).

«أرباب»: جمع (ربّ) ویعنی فی الأصل المالک المصلح، أی المالک الذی یسعى فی تدبیر ملکه وتربیته وإصلاحه، ولذا فإنّ (ربّ الدار) و(ربّ الإبل) جاء بمعنى المالک والمدبّر للبیت أو الإبل، وقد ندر استعمال کلمة «ربّ» فی القرآن الکریم فی غیر الله، منها الآیة 42 و 50 من سورة یوسف حیث استعملت کلمة (ربّ) فی نعت ملک مصر، ویستفاد من عبارات هذه السورة بأنّ هذه الکلمة کانت کثیرة الاستعمال کسمة للشخصیات المصریة الکبیرة.

وفی المقابل استعملت هذه الکلمة التی وردت مئات المرّات فی القرآن الکریم ـ فی کلّ المواطن تقریباً ـ کصفة لله عزّوجلّ، لأنّه هو المالک الأصلی ـ فی الواقع ـ والمدبّر والمربّی لموجودات الکون کلّه، المهمّ أنّ الکثیر من الأقوام کانوا یعتقدون بآلهة صغیرة ویطلقون علیها (ربّ) أو (ربّ النوع) ویطلقون على الله (ربّ الأرباب) وکانت هذه العقیدة لدى بعض الأقوام تجاه الملائکة أو بعض الأنبیاء، وآیة البحث تنفی بصراحة هذه العقائد الباطلة وتعرّف الله وحده ربّاً ولیس ربّ الأرباب، لأنّها تعتبر انتخاب أی ربّ سواه کفراً والإسلام على طرف نقیض معه.

آیة البحث الثانیة عشرة والأخیرة تشیر إلى الکلام الأخیر فی هذا البحث وهو أنّ التوحید فی العبادة لا یختصّ بالبشر بل: ( وَللهِِ یَسجُدُ مَنْ فِى السَّماوَاتِ وَالاَرضِ طَوْعاً وَکَرْهاً وَظِلاَلُهُم بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ ).

«مَنْ»: وان کانت إشارة إلى العقلاء عادةً ولذا یعتقد جمع من المفسّرین بأنّ آیة البحث تقصد بنی الإنسان والملائکة وأمثالهم، إلاّ أنّ فی الآیة قرائن تدلّ على أنّ هذه الکلمة تشیر إلى الموجودات کلّها وتعمّ العاقل وغیر العاقل والنبات والجماد، والمراد من السجدة ما یعمّ السجدة التکوینیة (غایة الخضوع والتسلیم فی الموجودات تجاه قانون الخلق) والسجدة التشریعیة (السجود والعبادة الإعتیادیة) لأنّ:

أوّلا: التعبیر بـ (طوعاً وکرهاً) دلیل على عمومیة الآیة.

ثانیاً: إشتراک (ظلال) فی هذه السجدة والعبادة العامّة دلیل آخر على هذا المعنى.

ثالثاً: ورد هذا المعنى بجلاء فی آیات قرآنیة اُخرى: (وَللهِِ یَسجُدُ مَا فِى السّماوَاتِ وَمَا فِى الاَرضِ). (النحل / 49)

وهکذا فی الآیة: (وَالنَّجمُ والشَّجَرُ یَسجُدَانِ). (الرحمن / 6)

وعلى هذا فإنّ موجودات الکون کلّها وبدون استثناء لها سجود تکوینی وتسلیم للأوامر الإلهیّة، ومن بینها المؤمنون حیث لهم ـ مضافاً إلى السجود التکوینی الذی لا یتّصف بالإختیار ـ سجود اختیاری تشریعی أیضاً.

وتعمیم هذا الحکم إلى (ظلال) تعبیر کبیر المعنى، لأنّ الظلال تتّصف بالعدم فی الواقع (لأنّ الظلّ هو المکان الذی لا یسقط الضوء علیه) ولکن بما أنّ الظلال تابعة للأجسام فی وجود النور فإنّ لها قسطاً ضعیفاً من الوجود، ویقول القرآن: إنّ هذه الأعدام الشبیهة بالوجود تسجد لله أیضاً فکیف بالموجودات الحقیقیة؟ وهذا یشابه العبارة التی نقولها وهی أنّ عداوته لفلان بلغت إلى حدّ أنّه یرمی ظلّه بالسهم.

ثمّ إنّ الظلال تسقط عادة على الأرض والتعبیر بالسجود ألیق بها.

وما تقوله الآیة: ( بالغُدُوِّ وَالاْصَالِ ) فانّه من الممکن أن یکون وصفاً خاصّاً للظلال، واختیار هذین الزمنین هو لأنّ کلّ شیء فی هذین الوقتین یکون ذا ظلّ، ظلّ طویل وممتدّ على العکس من منتصف النهار إذ یکون له ظلّ أو له ظلّ قصیر.

ویحتمل أیضاً أن یکون هذان الوصفان لکلّ الموجودات فی السماء والأرض والمراد هو الإشارة إلى استمرار هذا السجود، کما نقول فی عباراتنا الیومیة: یجب أن نلقى فلاناً صباحاً ومساءً، أی، دائماً وباستمرار(5).

أخیراً وبمراجعة عامّة لما تقدم نصل إلى أنّ مسألة (التوحید فی العبادة) لها من الأهمّیة ما جعلها فی صدارة دعوة الأنبیاء والرسل(علیهم السلام)، ومن أهمّ الفقرات فی تعلیماتهم، وقد أقام جمیع الأنبیاء اُولی العزم دعوتهم علیها، وکان رسول الله(صلى الله علیه وآله) طیلة عمره الشریف یدعو للتوحید بعبارات مختلفة، وصراط الهدایة المستقیم یمرّ عبر هذا الطریق، ولتحقیق هذا المنهج الإسلامی المهمّ ینبغی ـ عند الحاجة ـ ترک الأوطان وهجر أجواء الشرک وعبادة الأصنام.

ومن الخصائص المهمّة لذلک الیوم الذی تهیمن فیه حکومة العدل الإلهی فی العالم بأسره هو ظهور عقیدة التوحید فی العبادة هذه والتی تسود العالم کلّه، ولیس البشر فقط بل وکلّ الموجودات فی الأرض والسماء تسجد لله وفی کلّ الأحوال، وإذا لم تسجد باختیارها فانّها تسجد من حیث تکوینها وبلسان حالها وتسبّح له.


1. لاحظوا أن ( إیّای فاعبدون ) بسبب تقدّم المفعول على الفعل تدلّ على الحصر وتبیّن انحصار العبادة فی الله.
2. راجع تفسیر روح البیان; وروح المعانی; والقرطبی فی ذیل آیة البحث.
3. هناک بحث مفصّل آخر فی هذا المجال قد ورد فی تفسیر الأمثل، ذیل الآیة 55 من سورة النور، تحت عنوان الحکومة العالمیة للمستضعفین وکان لها نموذج صغیر بعد فتح مکّة والإنتصارات الواسعة بعد النبی(صلى الله علیه وآله) والنموذج الأتمّ والکامل سیتحقّق عند قیام الإمام المهدی (عج).
4. لاحظ أن «یأمر» منصوب لأنّه معطوف على (أن یؤتیه الله).
5. على الصورة الاُولى یکون الجار والمجرور متعلّقاً بالفعل أو الوصف المقدّر (وفیه امتیاز أنّه یعود للأقرب) وفی الصورة الثانیة یکون الجار والمجرور متعلّقاً بالفعل یسجد وفیه امتیاز أنّه مذکور.

 

1 ـ شجرة توحید العبادة المثمرةلا أعبد غیر الله
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma