الحیاة بلا معاد لامعنى لها

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات القرآن (الجزء الخامس)
هل یمکن للعاقل أن یعتبر الأیّام المعدودة من هذه الحیاة هی الهدف من الخلق؟تمهید

أشار القرآن المجید إلى أوضح أدلة المعاد من خلال جملة قصیرة نافذة المعنى، قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أنَّمَا خَلَقْنَاکُمْ عَبَثاً وَاَنَّکُمْ اِلَیْنَا لاَ تُرْجَعُونَ).

أی: إنْ لم تکن هناک قیامة وکانت حیاتکم تتلخّص فی هذه الأیّام المعدودة، لکانت حیاتکم عبثاً ولم یکن لها أیّ قیمة، والحیاة الخالدة هی التی تعطی لحیاتکم معنىً فی هذه الدنیا وتخرجها من دائرة العبث وتجعلها متسقة مع الحکمة الإلهیّة.

ولأجل هذا ختم تعالى هذه الآیة بقوله: (فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِکُ الْحَقُّ). (طه / 114)

فوجوده حقّ من جمیع الجهات، ولا یجد الباطل منفذاً إلیه، وإنَّ العبث واللاهدفیة أمرٌ باطل، والحق لایتلائم مع الباطل.

و«عبث»: على حدّ قول صاحب مقاییس اللغة وصاحب «المفردات»: فی الأصل بمعنى الشوب والخلط، ثم أطلقت على الاُمور غیر الهادفة والتی لا تحمل أىَّ هدف صحیح.

وقال فی «لسان العرب»: هی بمعنى اللعب، وإن عدّوا الخلط من معانیها، واطلقت اجمالا على الأعمال غیر الهادفة والباطلة والخالیة من الأغراض العقلائیة، ولاشیء من هذه المعانی یصدق على خلق الإنسان.

وقد ورد نفس هذا المعنى فی الآیة الثانیة وبقالب آخر، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّموَاتِ واَلاَرْضَ وَمَا بَیْنَهُمَا اِلاّ بِالْحَقِّ)، ثم أضاف على الفور: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لاَتِیَةٌ).

من المحتمل أن یکون ذکره لهاتین العبارتین مقترنتین دلیلا على هذا الأمر فإن کان الهدف من خلق هذا العالم العظیم مع کل ما فیه من العجائب والبرکات والنعم وکل هذه الأسرار الخفیة من أجل عدّة أیّام من الحیاة المادیة الدنیویّة فحسب، فهو أمرٌ باطل ولا یتلائم مع الحق إذن، فالحیاة الاُخرى تعطی معنى وحقانیة لهذه الحیاة.

ففی الآیة السابقة کان الحدیث یدور حول «سلب العبث» من خلق الإنسان، وفی هذه الآیة یدور الحدیث حول «حقّانیة» خلق کلّ العالم، وکلاهما یرمیان نحو هدف واحد، وهو إنّ الحیاة الدنیا إذا ماجردت عن الحیاة الآخرة فإنّها سوف تکون أمراً باطلا لاغرض منه وخالیاً من کل معنى، وهذا ممّا لا یصدر عن الحکیم أبداً.

وجاء فی تفسیر المیزان: إنّ المراد من الحق فی هذه الآیة هو ما قابل اللعب والباطل، والدلیل على ذلک هو جملة (وَإِنَّ السَّاعَةَ لاَتِیَةٌ)، وتفسیر «الحق» بمعنى «العدل والانصاف» غیر صحیح(1).

والجدیر بالالتفات هو أنّ الله تعالى أمر رسوله بالعفو والصفح... ذلک الصفح الجمیل الخالص الذی لا یشوبه حتى اللوم والعتاب، قال تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمیِلَ).(الحجر / 85)

ومن المحتمل أن یکون هذا التعبیر إشارة إلى هذا المعنى وهو: یا أیّها النبی بما أنّ الهدف من الخلق هو تربیة البشر وإعدادهم لمرحلة الآخرة، فعلیک أن تراعی جمیع اُسس التربیة التی یعتبر الصفح والعفو والرأفة واللین من ضمنها، وبالأخص مراعاة ذلک مع الجهلة والمتعصبین.

ومن الجدیر بالذکر أیضاً أنّ مفهوم الآیة الاُولى هو إن لم تکن هناک آخرة فإنّ خلق الإنسان یکون «من العبث»، ومفهوم الآیة، الثانیة (طبقاً للتفسیر المذکور أعلاه) هو: إن لم تکن هناک آخرة فإنّ خلق کل العالم یکون باطلا وعبثاً، فمن المحتمل أن یکون السبب فی ذلک هو بیان سمو ثمرة الخلق وهی الإنسان وسمو شجرة الخلق وهی العالم، فإن لم تکن هناک حیاة خالدة تتمثل فی الآخرة فسوف یکون خلق «الثمرة» و«الشجرة» کلاهما أمراً عبثاً وغیر هادف.

والمراد من تعبیر «ما بینهما» شمول جمیع أصناف الملائکة وکذلک النور والحرارة والسحاب والهواء وأنواع الغازات، بل تشمل فی أحد أبعادها اصناف الموجودات التی تعیش على وجه الأرض من البشر وجمیع أنواع الحیوانات الاُخرى والنباتات.

وفی الآیة الثالثة والأخیرة أشار تعالى إلى الهدف من خلق الإنسان، وأوضح العلاقة التی تربطه بالمعاد، قال تعالى: (أَیَحْسَبُ الاِْنْسَانُ اَنْ یُتْرَکَ سُدىً)، ثم أشار إلى خلق الإنسان من ماء مهین (النطفة) وأشار إلى مراحل تکامله فی الرحم فأضاف: (أَلَیْسَ ذَلِکَ بِقَادِر عَلَى أَنْ یُحْیِىَ الْمَوْتَى).

وبهذا یتّضح أنّ الهدف من خلق الإنسان لا یحصل إذا جُرد من الحیاة الآخرة.

فإنَّ فعل الخالق الحکیم لا یخلو من الهدف وهذا أمرٌ بدیهی، ومن البدیهی أیضاً أنّ النفع الحاصل من أفعاله لایعود إلیه بفائدة، وذلک لأنّه غیر محدود وغنی بالذات من جمیع الجهات، إذن فلا یعود النفع إلاّ لعباده، ولکن هل من الممکن أن تکون هذه الحیاة القصیرة المشوبة بأنواع المصائب هی الهدف من هذا الخلق العظیم؟ کلاّ طبعاً.

لذا لا یبقى أمامنا طریق إلاّ القبول بثبوت الآخرة واعتبارها هی الهدف من هذا المسیر التکاملی للإنسان.

و«سُدىً»: على وزن (هُدى) ـ نقلا عن کتاب «التحقیق»: فی الأصل بمعنى التحرک العبثی الخالی عن الفکر والتدبیر والبرمجة الصحیحة، من أجل هذا اطلقوا على الجِمال التی تجول فی الصحراء من دون راع «إبل سُدى»، وقیل: إنّ «سَدى» على وزن (وَفا) وقد اُطلقت على قطرات الندى التی تتساقط لیلا، لأنّها لا تتساقط بنظم معیّن، واطلقوا «سدى» على ما مُدّ من خیوط القماش قبل أن تُحاک بالکامل، لأنّه قبل الحیاکة یکون مهملا وغیر مفید.

وقصارى القول هو: إنّ الآیة تقول ـ من خلال استفهام إنکاری ـ أیمکن أن یترک الإنسان مع کل هذه الاستعدادات والطاقات الفکریة والجسمیة والإمکانات المختلفة بدون أن یوضع له برنامجٌ معینٌ؟ ثم تستنتج من کل ذلک مسألة حتمیة التکالیف والمسؤولیة ثم حتمیة وجود المعاد.


1. تفسیر المیزان، ج 12، ص 199.

 

 

 

هل یمکن للعاقل أن یعتبر الأیّام المعدودة من هذه الحیاة هی الهدف من الخلق؟تمهید
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma