الجمیع یسیر نحو الله

موقع سماحة آية الله العظمى مكارم الشيرازي(دام ظله).

صفحه کاربران ویژه - خروج
الترتيب على أساس
 
نفحات القرآن (الجزء الخامس)
نهایة المطافتمهید

وجّه تعالى خطابه فی الآیة الاُولى إلى جمیع البشر فقال: (یَا أَیُّهَا الاِنْسَانُ إِنَّکَ کَادِحٌ اِلى رَبِّکَ کَدْحاً فَمُلاَقِیْهِ).

و«کدح»: على وزن (مَدْح) ـ على حدّ قول عدد من المفسرین ـ وهو فی الأصل بمعنى الخدش الوارد على الجلد، لذا اطلقت هذه الکلمة على السعی وبذل الجهد لأنّه یؤثر على الروح والبدن(1).

وجاء فی مفردات الراغب: إنّ الکدح بمعنى السعی المشوب بالمعاناة والتعب.

ولکن جاء فی المیزان: بما أنّ «کدح» تعدت بـ «إلى» فهی تعنی السیر والحرکة (ولا تضاد طبعاً بین هذین المعنیین)(2).

ومن مجموع ما تقدم نستنتج أنّ القرآن المجید شبَّه البشر بقافلة بدأت مسیرها من نقطة العدم فوضعت أقدامها فی أقلیم الوجود، ثم اتّجهت من هناک نحو الربّ کی تصل إلى لقائه، ویشیر إلى هذا المعنى التعبیر بـ (وَإِنَّ اِلَى رَبَّکَ الْمُنتَهى). (النجم / 42)

من الممکن أن ینحرف فریق عن هذا المسیر ولا ینالوا لقاء الله أبداً، لکن الأساس فی خلق الإنسان هو الوصول إلى هذا الهدف.

و«لقاء الله»: ـ کما أشرنا سابقاً ـ یعنی مشاهدة الرّب مشاهدة قلبیة والوصول إلى مقام الشهود القلبی الذی یصل إلیه الإنسان عن طریق سیره التکاملی، وهو من أهم مقامات القرب إلى الله.

وفی الآیة الثانیة تحدث سبحانه عن الطهارة والتقوى وتزکیة البشر التی یعود نفعها علیهم جمیعاً، قال تعالى: (وَمَنْ تَزَکَّى فَإِنَّمَا یَتَزَکَّى لِنَفْسِهِ). ثم یضیف: (وَاِلَى اللهِ الْمَصیرُ).

والجملة الأخیرة جاءت للدلالة على أنّ الصالحین والطاهرین إن لم یدرکوا کل مقوّمات التقوى والنزاهة فإنّهم سوف یعودون إلى الله وسوف یرون نتائج أعمالهم فی دار البقاء.

على أیّة حال فإنّ جملة (وَإِلَى اللهِ الْمَصِیرُ) هی تقریر لهذه الحقیقة وهی أنّ سیر الإنسان التکاملی لا ینتهی بالموت وسوف یستمر حتى یلاقی الله.

قال المفسر الکبیر المرحوم الطبرسی فی تفسیر الآیة الثالثه من آیات بحثنا: (قالوا إنّا لله) هذا إقرار بالعبودیة أی نحن عبید الله وملکه (وإنّا إلیه راجعون) هذا إقرار بالبعث والنشور، أی نحن إلى حکم الله نصیر، ولهذا قال أمیر المؤمنین(علیه السلام): «إنّ قولنا «إِنَّا لِلّهِ» إقرارٌ على أنفسنا بالملک، وقولنا «وَإِنَّا اِلَیه رَاجِعُونَ» إقرارٌ على أنفسنا بالهلک»(3).

ومن الجدیر بالذکر إنّ القرآن المجید ذکر هذه العبارة بعنوان کأفضل ما یقوله الصابرون عند حلول المصائب بهم... فهی عبارة تزیل الهم عن الإنسان عند حلول المصائب وتوقظ قلبه وروحه عند مواجهة الصعاب وتطرد وساوس الشیطان عن روح الإنسان فی تلک اللحظات الحساسة، وذلک لأنّه یعترف من ناحیة بأنّه وجمیع ما یملک ملک لله، فهو الذی یعطی النعم وهو الذی یسلبها، وقد قال بعض المفسرین فی مجال سلب النعم: بما أنّ الکریم لا یسلب ما وهب فإنّ سلبه یعتبر ادخار ذلک لموضع افضل، وهذا بعینه یعتبر مواساة لمن حلت به المصیبة.

ومن ناحیة اُخرى فإنّه عندما یعترف بالرجوع إلیه فإنّ هذا التعبیر هو مواساة اُخرى لأنّه یعنی الرجوع إلى مرکز فیضه ولطفه ورحمته والرجوع نحو دار الخلد وموعد اللقاء مع الله.

لذا قال البعض: إنّ هذه العبارة من المواهب الإلهیّة العظیمة التی منَّ بها الله على هذه الاُمة کی یستعینوا بها فی المصائب، وکم من فرق شاسع بین هذه الآیة وبین کلام نبی الله یعقوب(علیه السلام) الذی قال عندما فقد یوسف(علیه السلام): (وَقالَ یا اَسَفَى عَلى یُوْسُفَ). (یوسف / 84) أجل إنّ جملة الاسترجاع هذه لم تکن نازلة حینذاک.

وعلى أیّة حال فإنّ هذه العبارة هی عصارة التوحید الکامل والمعاد والتوکل على الذات المقدسة الإلهیّة فی جمیع الاحوال وفی کل زمان(4).

وفی الآیة الرابعة تجلّت هذه الحقیقة بلباس جدید بعد أن أشار تعالى فی الآیة التی سبقتها إلى الأحداث العجیبة التی یواجهها العالم عند تأهبه للقیامة، قال تعالى: (اِلَى رَبِّکَ یَوْمَئذ الْمُسْتَقَرُّ).

وأشار بذلک إلى أنّ الدنیا لیست مقراً، وأنّ جمیع العلائم تدل على أنّ الدنیا هی دار فناء وعدم، وتغییر وزوال، وعلى هذا فمن البدیهی أن لا تکون الدنیا هی الهدف الرئیسی من السیر التکاملی للإنسان، إذا لابدّ أن یکون مقر الإنسان فی عالم آخر.

لکن بعض المفسرین قدّروا کلمة محذوفة وقالوا: المراد هو «إلى حکم ربّک» أی إلى حکم ربّک یومئذ المستقر فبحکم الله یقوم العدل ویتحقق أو بحکم الله یستقر فریقٌ فی الجنّة وفریقٌ فی النار.

ولکن بما أنّ التقدیر خلاف القاعدة، بالإضافة إلى أنّه لاضرورة له هنا فإنّنا لا نرى دلیلا واضحاً لمثل هذه التفاسیر.

وفی الآیة الخامسة والأخیرة ورد ما ذکر فی الآیة السابقة بتعبیر جدید بعد أن أشار إلى حالات المحتضر ولحظات الاحتضار وطیّ سجل حیاة الإنسان، قال تعالى: (اِلَى رَبِّکَ یَوْمَئِذ الْمَسَاقُ).

و«المساق»: مصدر میمی بمعنى «السوق» وهذا یدل على أنّ جهة سیر البشر التکاملی یکون نحو الله أی نحو الکمال المطلق والکمال اللامتناهی.

وهنا أیضاً قدّر البعض کلمة «حکم» أو «جزاء» وقالوا: المراد هو سوق الجمیع نحو حکم الله وجزائه، ولکن وکما أشرنا فی تفسیر الآیة السابقة فإننا لا نرى أیة ضرورة لمثل هذه التقدیرات، فالتحرک یکون نحو الله تعالى.

وفی بعض آیات القرآن أشیر أیضاً إلى أنّ الذات المقدسة الإلهیّة هی منتهى السیر التکاملی والهدف النهائی، قال تعالى: (وَأنَّ اِلى رَبِّکَ الْمُنتَهى). (النجم / 42)

وهذا دلیل آخر على الحقیقة المذکورة.


1. تفاسیر الکشاف; وروح المعانی; والکبیر، فی تعلیقهم على الآیة مورد البحث.
2. تفسیر المیزان، ج 20، ص 360.
3. تفسیر مجمع البیان، ج 1، ص 238، وقد وردت هذه العبارة أیضاً فی نهج البلاغة، الکلمات القصار، الکلمة 99.
4. من خلال هذا التفسیر یتضح تفسیر الآیات المتشابهة لهذه مثل: المائدة، 105; العلق، 8; الانعام، 36; الغاشیة، 25.

 

نهایة المطافتمهید
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma