لیس هناک شعور یخامر الإنسان أکثر من شعوره برضا محبوبه وعزیز قلبه ، فهذا الشعور یثیر لدیه بهجة وارتیاحاً لا یوصفان .
نعم، إنّ نیل رضا المحبوب من أکبر اللذات المعنویة، وهی لذّة ممزوجة بالشعور بالشخصیة وقیمة الوجود ، لأنّه إن لم یکن یتحلّى بالقیمة والشخصیة ، لما کان موضع قبول محبوبه الأکبر .
لقد أشار القرآن الکریم مراراً إلى هذه القضیة المهمّة وجعل منها رکیزة یستند علیها، فبعد الإشارة إلى الجنان الیانعة والأزواج المطّهرة، ورد فی قوله تعالى: (وَرِضوانٌ مِنَ اللهِ) (آل عمران / 15)
فهذه النعمة التی تُعتبر أفضل من جمیع النعم قد لُخّصت فی جملة قصیرة وبلیغة.
وفی الآیة 72 من سورة التوبة اُزیح الستار أکثر عن هذا الموضوع ، فبعد الإشارة إلى مجموعة من النعم المادیة المتوفّرة فی الجنّة ومنها الحدائق التی تجری من تحتها الأنهار والمساکن الطّیبة ، یقول تعالى :(وَرِضوَانٌ مِّنَ اللهِ اَکبَرُ ) ثم تُختتم الآیة بالجملة : (ذَلِکَ هُوَ الفَوزُ العَظِیمُ ) .
فاستخدام تعابیر من أمثال «أکبر» و«ذلک هو الفوز العظیم» یُظهر بوضوح عدم وجود نعمة تضاهی هذه النعمة وبالشکل الذی یتضمن مفهوم الحصر وکأنّ الجملة ترید أن تقول : (ذلک هو الفوز العظیم لا غیر).
لقد ذکرنا عدّة مَرّات عدم إمکانیة تصوّر أیٍّ من النعم المادّیة للعالم الآخر فی نطاق هذا السجن الدنیوی المحدود ، فکیف یجوز ذلک بشأن نعمة روحیة ومعنویة کبرى ألا وهی «رضوان الله» .
و یمکننا أن نفهم بشکل إجمالی الفارق بین النعم المادّیة والمعنویة واللّذات المنبثقة عن أیٍّ منهم ، فنحن نعرف مثلاً أنّ اللذة الناتجة عن لقاء الحبیب الغالی بعد سنوات من الفراق ، أو الشعور باللذة من جرّاء اکتشاف قضّیة علمیة معقدة کُنّا نبحث عنها لسنوات طویلة ، والأکثر من کل ذلک النفحات الروحیة والانشراح النفسی الذی یغمرنا حین العبادة الخالصة والمناجاة المقرونة بحضور القلب والمحبّة الدافئة ، نعرف أنّه لا یمکن مقارنة کل هذا بلذّة الطعام والشراب وسائر اللذات المادّیة الاُخرى .
روى أبو سعید الخدری حدیثاً عن رسول الله (صلى الله علیه وآله) قال فیه :
« إنّ الله یقول لأهل الجنّة : یاأهل الجنّة ; فیقولون لبیک ربّنا وسعدیک والخیر فی یدیک ، فیقول : هل رضیتم فیقولون وما لنا لا نرضى یاربِّ وقد اعطیتنا ما لم تُعْطِ أحداً من خلقکَ : فیقول : ألا اُعطیکم أفضلَ من ذلک، فیقولون یاربّ وأیُّ شیءِ أفضل من ذلک فیقول : اُحلُّ علیکم رضوانی فلا أَسخطُ علیکم بعده أبد » (1).وورد نفس هذا المعنى عن الإمام علی بن الحسین (علیه السلام) ولکن بتعبیر آخر ، جاء فی آخرهِ : « فیقول تبارک وتعالى : رضای عنکم ومحبّتی لکم خیر وأعظم ممّا أنتم فیه » (2).
«رضوان» : یعنی الرضا والارتیاح بالمعنى المصدری ، ومجیئُها هنا على هیئة النکرة یدل على العظمة ، أی إنّ رضوان الله الأکبر أهم من کل شیء.
و قیل أیضاً: إن تنکیرها هنا فیه دلالة على القِلّة ، أی إنّ أقلَّ رضاً من الله یُعتبر أکبر من جمیع النعم المادیة المتاحة فی الجنّة .
وعلى أیّة حال ، فلیس فی میسور أحد وصف تلک النفحات الروحیة واللذات المعنویة التی ینالها الإنسان بسبب الشعور برضا الله ، نعم إنّ أی جانب من هذه اللذة الروحیة یفوق جمیع النعم والمسرّات الموجودة فی الجنّة .وممّا یسترعی الاِنتباه أَنَّ الآیة (119) من سورة المائدة، وبعد سردها للنعم المادیة فی الجنّة ، أشارت إلى الرضوان وصورته وکأنّه أمر متبادل بین الخلق والخالق قائلة : (رَضِىَ اللهُ عَنهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِکَ الفَوزُ العَظِیمُ ). وما أجمل أن یکون الرضا من الجانبین ، فهو یغرقهم بالنعم حتّى یرضون ، ویغمرهم بالمحبّة بحیث یعلن لهم عن رضاه ، وخلاصة القول أنّه لا فوز أکبر من أن یشعر الإنسان بأنّ مولاه ومحبوبه ومعبوده راض عنه . ودلالة ذلک الرضا أنّه یفیض علیه بکل ما یتصور وما لا یتصور من النعم .
وعبارة (راضیة مرضیة)من الآیة 28 من سورة الفجر هی أیضاً إشارة إلى نفس هذا المعنى ، إذ تصوّر النفس المطمئنة لعباد الله المخلصین الذین یصلون إلى جوار قرب المحبوب قائلة : إنّ صاحب النفس المطمئنة یرجع إلى ربّه وهو راض عنه ورّبه راض عنه أیض ، وهنا یصدر الأمر الإلهی : (فَادْخُلِى فِى عِبَادِى ) کتاج للکرامة یزّین به الرأس ، فیاله من فخر کبیر عندما یخاطب تعالى الإنسان فی قوله : « عبادی » !
نعم هذه هی عقبى من اجتاز مرحلة النفس الأمّارة والنفس اللوامة ووضع قدمه على أعتاب النفس المطمئنّة . فکبح جماح الأهواء ، وأَلجم الشیطان وامتطى مرکب التقوى .
ولا تقتصر الآیات المتعلقة برضا الله فی یوم القیامة باعتباره نعمة إلهیّة ، على ما ذکرناه، فهذا المعنى یلوح للعیان فی آیات اُخرى أیضاً ویعکس الأهمیّة الاستثنائیة لهذا الموضوع (3).