نقرأ فی قوله تعالى :( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِى اَتْقَنَ کُلَّ شَىء اِنَّهُ خَبیرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) . (النمل / 88)
تتجلّى فی هذه الآیة عدّة نکات :
أول : إنّ الجبال التی تبدو ساکنة فی نظرکم ، هی فی حرکة سریعة کسرعة حرکة السحب ، ( وینبغی الالتفات إلى أنّ السرعة الفائقة تُشَبَّهُ عادة بسرعة السَّحاب ، إضافة إلى خلو الحرکة السریعة للسحب من التزلزل والصخب ) .
ثانی : إنّ هذا هو صنع الله الذی خلق کل شیء بمیزان معین .
ثالث : إنّ الله عزّ وجل مطلع على أفعالکم .
عند التأمل بدقّة فی هذه الجمل الثلاث ، یتضح أنّ الآیة لا ترتبط بیوم القیامة کما تخیَّل بعض المفسرین ، بل ترتبط بنفس هذه الدنی ، إذ تقول : « أنتم تتخیلونها وتتصورونها هکذا فی حین أنّها لیست کذلک» ، وأمّا حرکة الجبال فی القیامة أو على مشارف القیامة فلیست هی من الاُمور المخفیة والمبهمة ، بل إنّها واضحة ومهوِّلة بحیث لا یقوى أحد على تحملها والصبر على مشاهدته .
إضافة إلى أنّ الاتقان فی الخلقة وحاکمیة النظم والموازین فیه ، هو إشارة ودلالة على وضعها الفعلی لا على زمن اقتراب یوم القیامة ، حیث سیتلاشى النظام العالمی لیبنى على أنقاضه نظام جدید .
فضلاً عن ذلک فإنّ العلم الإلهی بالأفعال التی نقوم بها یرتبط بأفعالنا فی هذه الدین ، وإلاّ فإنّ القیامة یوم حساب لا یوم عمل .
ویتضح من خلال هذه القرائن الثلاث أنّ هذه الآیة لا تطابق حرکة الجبال فی نهایة مسیرة العالم ووقوع یوم القیامة بأیّ شکل من الأشکال ، غایة ما فی الأمر أنّ جماعة من المفسرین لم یتمکنوا من إدراک عمق المفهوم فی الآیة ، فما وجدوا بُدّاً سوى القبول بخلاف ظاهر الآیة ، وتفسیرها بمسألة القیامة .
کما تتضح هذه المسألة أیضاً وهی أنّ حرکة الجبال لا تنفصل عن حرکة الأرض ، بل هما مترابطتان مع بعضهما الآخر کوحدة واحدة ، فاذا تحرکت الجبال تحرکت الأرض الحرکة الدائبة.
وربّما ینقدح فی الذهن هذا السؤال : لماذا اقتصر الله تعالى على ذکر الجبال ، ولم یقل إنّک ترى الأرض فتحسبها ساکنة فی حین أنّها متحرکة .
والجواب عن هذا السؤال واضح ، لأنّ الجبال من أعظم الموجودات على وجه الأرض ، وهی مظهر من مظاهر الصلابة والصمود والاستحکام ، ولذا نقول لضرب المثل المعروف: « إنّ الشخص الفلانی منیع وصامد کالجبل » ، ولذلک یمکن اعتبار حرکة الجبال على عظمتها وصلابتها وثباته ، أحد العلائم على القدرة اللامتناهیة للحق تعالى ، لکن ممّا لا جدال فیه أنّ حرکة الجبال هی احدى التجلیات الواضحة لحرکة الأرض .
وفی کل الاحوال ، تعتبر الآیة المذکورة أحد المعاجز العلمیة المهمّة للقرآن ، إذ من المعلوم أنّ العقیدة الرائجة والحاکمة لدى کافة المحافل العلمیة الدولیة فی عصر نزول القرآن وزهاء الألف سنة بعد ذلک هی نظریة ثبات الأرض ودوران الکرات حوله ، والتی نشأت من هیئة «بطلیموس » .
ومن العلماء الأوائل الذین اکتشفوا حرکة الأرض هم کل من « غالیلو » الایطالی ، و « کبرنیک » البولندی ، وذلک بعد مرور ما یقارب الألف سنة ، إذ اعلنوا عقیدتهم فی آواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر المیلادیین ، ممّا أثار على الفور حفیظة أرباب الکنیسة بشدّة بحیث هدّدوهما بالقتل ، فی حین أنّ القرآن الکریم کشف الستار عن هذه الحقیقة بعشرة قرون قبله ، وطرح بعباراته البدیعة المتقدمة حرکة الأرض باعتبارها إحدى علائم التوحید والعظمة الإلهیّة .
وعلى کل حال ، فممّا لا شک فیه أنّ هذه الآیة تتحدث عن حرکة الجبال (وبتعبیر آخر حرکة الأرض) فی هذه الدین ، ذلک لأنّ حرکة الجبال عند وقوع یوم القیامة ، تُحدثُ زلزالاً قویاً فی الکرة الأرضیة بحیث یقول تعالى عنها (یَومَ تَروْنَها تَذْهَلُ کُلُّ مُرْضِعَة عَمّا أرْضَعَتْ وتَضَعُ کُلُّ ذَاتِ حَمل حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُکارَى وَمَاهُمْ بِسُکارَى...). (الحجّ/2)
وهذا الکلام لا ینسجم مع جملة: ( تَحْسَبُها جَامِدَةً )على الاطلاق .
إضافة إلى أنّه لا یبقى مجال لأفعال الخیر والشر فی تلک اللحظات الحرجة ، حتى یتأتى القول بأنّ الله تعالى مطلع على الأفعال التی نقوم به .
والقول بأنّ الآیات التی تسبق الآیة المتقدمة أو ما بعدها ترتبط بالقیامة لا یمکن اعتباره دلیلاً قطعیاً على أنّ مفهوم هذه الآیة یرتبط بالقیامة ، لأنّ هذا لیس أحد المصادیق النادرة فی القرآن ، فَرُبَّ آیة تتحدث فی مسألة معینة وتتحدث التی قبلها أو بعدها عن مسألة اُخرى . وبعبارة اُخرى فالإطلاع على محتوى الآیة نفسها والقرائن الموجودة فیها أهم وأفضل من الملاحظات الاُخرى .
وهذه النکتة تستحق الاهتمام أیضاً وهی أنّ التشبیه بحرکة السحب بالإضافة إلى أنّه إشارة إلى السرعة الفائقة له ، یعتبر جواباً قاطعاً عن هذا السؤال ، وهو إذا کانت الأرض متحرکة فلماذا لا نشعر به ؟ فیأتی الجواب إنّها تتحرک ببطء ومرونة وهدوء بحیث لا یمکن تشخیص ذلک ، کما لو صعد أحد على السحاب مثل ، فانّه لم یکن یشخص حرکتها أیض .
وممّا یدعو إلى الاهتمام هذه النکتة أیضاً وهی أنّ القرآن یقول : ( اَلَمْ نَجْعَلِ الاَرْضَ کِفَاتَ * اَحْیَاءً وَاَمْوَاتَ ) . (المرسلات / 25 ـ 26)
ونشاهد فی قوامیس اللغة التی من جملتها « المفردات » للراغب وکتاب « العین » أنّه قد ذکر معنیان للفظة « کِفات » المأخوذة من مادة « کَفْت » وهما الجمع والطیران السریع ، فاذا کان المعنى الأول هو المقصود ، یکون مفهوم الآیة على أن جعلنا الأرض محطاً لاجتماع بنی البشر فی حیاتهم ، وما تحت الأرض مقراً لاجتماعهم بعد مماتهم ، وإذا کان المقصود المعنى الثانی ، یکون مفهومها الطیران السریع للأرض . وهذا یتناسب مع الحرکة الانتقالیة للأرض حول الشمس التی تسیر دائریّاً بسرعة فائقة تقدر ب ( 20 ) کیلو متر فی کل ثانیة و (1200) کیلو متر فی کل دقیقة ـ ثم إنّها تحمل الأموات والأحیاء معها وتدور بهم حول الشمس .
ولعل السبب فی اطلاق لفظة « کَفْت » على الطیران السریع ، هو أنّ الطیور عندما ترید أن تطیر بسرعة فائقة فی السماء تجمع أجنحتها بصورة کاملة وبشکل متناوب وتسبح فی الفضاء ، لکن نظراً لکون لفظة « کَفْت وکِفات » تحتمل معنین ، لم نذکر هذه الآیة بعنوان أحد الأدلة القطعیة على مسألة دوران الأرض .