فترة البلوغ وثورة التساؤلات

فترة البلوغ وثورة التساؤلات


كنت أستمتع بهذا الاطمئنان العجيب الذي كان يسود حياتهم، كما كنت أغبطهم عليه، إلّا أنّي لم أعثر على بصيص من هذا الاطمئنان في روحي كلما تأملت زواياها وبحثت في أحشائها.‌

الآن وبعد أن بيّنت لكم نبذة من حياتي الماضية، ووقفتم على الأفكار التي كانت تدور في ذهني آنذاك، أرى من الضرورة بمكان أن أضيف هذه العبارة وهي أنّ المطالعات اللاحقة دلت على أنّ مثل هذه الأفكار إنّما تحدث لأغلب الأفراد تزامنا مع فترة البلوغ أو تتأخر عنها قليلاً، حيث تكون تلك الفترة قصيرة وعابرة لدى البعض، وبالعكس قد تكون طويلة ومريرة على البعض الآخر.

لكن أتعلمون أنّ ظهور مثل هذه الأسئلة في ذهن الإنسان لا يدعو إلى أي قلق واضطراب، بل بالعكس فذلك علامة على الاستقلال الروحي والنضج الفكري ودليل على تفتح استعداداته وقابلياته الباطنية؟!

نعم، هذه علامات تبث الأمل في بلوغ الإنسان مرحلة جديدة من حياته؛ أي أنّ جميع الأفراد الذين يتزامن نضجهم الفكري مع بداية بلوغهم الجسمي والفسلجي، فإنّهم يعومون في سني البلوغ في بحر من هذه الأفكار، بحيث يتشبثون بكل وسيلة من أجل الخلاص منها - أمّا من يتأخر نضجهم الفكري فإنّ المدّة قد تطول لتخترق زوايا أفكارهم مثل هذه الأسئلة.

وبالطبع فإنّ الأفراد الذين يعيشون حالة طفولية من الناحية الفكرية والنفسية، فإنّهم لا يرون قط حالة النضج العقلي، فليس هنالك مثل هذه الأسئلة التي تؤرقهم، فهم يعيشون على الدوام حالة من الاستقرار الممزوجة بالجهل، فلا يشعرون أبداً بحالة من الاستقلال الفكري!

على كل حال، ينبغي عليكم ألا تشعروا بالقلق من ظهور مثل هذه الأفكار، فهي دلالة على نضجكم الفكري وأنّكم قد وردتم مرحلة جديدة في الحياة، ألا وهي مرحلة البلوغ الفكري.

فإن راودتكم مثل هذه الأفكار فاعلموا أنّكم تخطيتم مرحلة التقليد والتبعية ودخلتم مرحلة الاستقلال، فينبغي لكم أن تجدّوا وتجتهدوا وبكل هدوء للظفر بالحلول المنطقية والمقنعة لهذه الأسئلة والاستفسارات.

طبعاً قضية مراودة هذه الأفكار وإن كانت تدعو للأمل والتفاؤل، إلّا أنّها قد تشكل ظاهرة خطيرة إن لم تجد هذه الأسئلة بعض الأجوبة الصحيحة؛ لأنّ الجهد الممتزج بالأمل في هذه الحالة يتحول إلى نوع من الخمود واليأس والتشاؤم، لذلك يشاهد العديد من الشباب الذين لم يحصلوا على ردود صحيحة لهذ الأسئلة وبغية الهرب من شباك مثل هذه الأفكار، قد لجأوا إلى المسلّيات الخاطئة والإشباع الطائش لغرائزهم المستعرة، في محاولة للحصول على استقرار زائف وكاذب.

على كل حال، فمن الطبيعي عندما يقتحم الإنسان وسطاً جديداً، فإنّ كل شيء سيكون لديه مبهماً ومدعاة للتساؤل والاستفسار، فيسعى من خلال ما يملك من فكر لاختراق حجب هذا الابهام والوقوف على الحقيقة، إلّا أنّ حداثة هذه الأجواء إنّما تبدأ حين يرد الإنسان مرحلة البلوغ، وهنا يرى كل فرد العالم بصورة جديدة، وبالطبع ترافق ذلك عملية انبثاق مختلف الأسئلة والاستفسارات، وبناءً على هذا فلا ينبغي لكم أن تشعروا بأي امتعاظ من مخالجة هذه الأفكار لأذهانكم، بل عليكم أن تنظروا إليها بكل تفاؤل وسرور.

كيف نحصل على اطمئنان القلوب؟

 البحيرة الصغيرة تتحرك أمواجها.. لأدنى نسيم .. سيما إن كانت ضحلة

لقد بلغت حديثاً، فكنت أشعر بشخصية جديدة، كانت الدنيا تبدو لي بشكل آخر، غير أنّها مشوبة بنوع من القلق والاضطراب، كانت مفردة «الاطمئنان» تبدو لي خيالية ذات لذة ومتعة خاصة، كنت ألهث دائماً نحو الاطمئنان الروحي والاستقرار النفسي، وللأسف لم أذق منها إلّا قليلاً!

ولعل هذا هو السر في أنّ هذه المفردة كانت تحمل عندي شيئاً من الذكريات الأليمة المختلطة بالأسى والحزن، كنت أشعر أحياناً من خلال هامش نتاجات وسيرة بعض العلماء والكتّاب أنّهم يعيشون بروح مطمئنة تفيض عشقآ للحقيقة وكأنّ سلسلة أفكارهم قد اتصلت بموضع آخر، وهذا الركن الوثيق الذي استندوا إليه هو الذي منحهم القوّة والصمود مقابل تحديات الواقع.

كانوا يتمالكون أنفسهم إزاء الشدائد ويتحلون بالشجاعة والاقتدار في مجابهتهم للصعاب، حتى أنّهم كانوا يستقبلون الموت ـ رغم ما ينطوى عليه من أسرار تثير أسئلة مقلقة ـ بكل رحابة صدر.

كنت أستمتع بهذا الاطمئنان العجيب الذي كان يسود حياتهم، كما كنت أغبطهم عليه، إلّا أنّي لم أعثر على بصيص من هذا الاطمئنان في روحي كلما تأملت زواياها وبحثت في أحشائها.

كأنّي بروحي قد غرقت في ظلمات دامسة، فكانت تتطلع من تلك الظلمات إلى أشباح مرعبة ومبهمة مقرونة بمختلف الأسئلة والاستفسارات التي جعلت منها مسرحاً للهجمات، ثم كانت تمحى وتندثر وسط تلك الظلمات، كنت أحدث نفسي، ترى ما الضير لو أصاب روحي قبس من ذلك الاطمئنان وأضاء كل زواياها وطرد إلى الأبد هذه الأشباح المرعبة، التي تبدو وكأنّها على رباط وثيق بتلك الظلمات..؟!

كانت تلك أعظم أمنياتي ورغباتي الباطنية، الاُمنية التي قد لا أظفر بها حتى في عالم الخيال.

أمّا اُولئك العلماء فلعلهم ظفروا بذلك في سني النضج الفكري، حتى وفقوا لما بذلوه من جهود متواصلة، ولعلي كنت أغري نفسي بذلك.

ما زلت أذكر جيداً كم كنت قلقاً تلك السنين وفي أي أفكار كنت أغرق، كنت أشعر أحياناً بأنّ وجودي إزاء تلك الأسئلة والاستفسارات المتعلقة بأسرار الخلق وشروع واختتام الحياة وقضية المصير والعاقبة وما إلى ذلك، بمثابة الريشة مهب الريح تتقاذفها هنا وهناك.

فمن الطبيعي أنّ «البحيرة الصغيرة» سيما إن كانت ضحلة تتلاطم لأدنى نسيم، أمّا البحر الواسع والعميق فيسوده نوعٌ من الاستقرار والهدوء الخاص، وليس للعواصف سوى أن تعرقل استقراره الظاهري دون أدنى مساس بعمقه المستقر تماماً.

والمفروغ منه أنّ اُولئك العلماء الذين يعيشون الاطمئنان الروحي الذي يدعونا إلى التعجب والذهول لديهم تصور واضح عن الاجابة على هذه التساؤلات حتى بلغوا هذه المرحلة من السكينة والاطمئنان، فروحهم كالبحار العميقة التي لا سبيل إلى العواصف لهز أعماقها والعبث بها (إلّا أنّ ذلك يبدو متعذراً على الأفراد الضحلين في بداية السلوك).

لقد آمنوا بأنّ خلق هذا العالم ليس اعتباطاً ؛ حيث تفيد جميع الشواهد والقرائن التي تنطوي عليها حوادث هذا العالم المترامي الأطراف وظواهره على أنّ ذلك الخلق إنّما يستند إلى قدرة مطلقة، وهو وحده الذي بيده أزمّة العالم بأسره، وأمّا القوانين التي تنظم عالم الوجود وتشكل محوره الرئيسي فهي على درجة من الدقة والنظم والأسرار العميقة بحيث يحتاج زعماء الفكر والعلماء إلى سنوات مديدة لسبر أغوارها والوقوف على جانب من جوانبها، وكلما ازداد العلم البشري وتمكن من كشف بعض أسرار هذا العالم الواسع، تعرّف الإنسان على مصدر هذا العالم أكثر وتحوّل هذه العلم إلى قبس من نور الإيمان يتخلل القلوب.

إنّهم آمنوا بأنّ العقيدة الراسخة والإيمان المحكم الناشىء من تتبع لطائف هذا العالم الضخم وأسراره المذهلة إنّما يملأ القلوب بالعشق والنشاط والحيوية، العشق المرهف للمُبدىء العظيم الخالق الأصلي لهذا العالم الواسع.

إنّهم نظروا إلى جلال الحق سبحانه فذابوا في عبوديته ليتحرروا من أغلال وقيود ما سواه، عظم ذلك الوجود المطلق في نفوسهم فصغر مادونه في أعينهم ومن هنا فإنّ أرواحهم لا تستشعر أي قلق واضطراب اِثر فقدانهم لبعض الأشياء، وإنّهم وبإتكالهم على قدرة الله هبوا بكل شجاعة لمواجهة صعاب الحياة الدنيا ومشاكلها، وقد وهبهم هذا الإيمان قوّة الأعصاب وضاعف من قدرتهم وطاقتهم بما جعلهم يتغلبون على كافّة الشدائد، لقد رأوا أنفسهم متصلة بالأبدية، واعتقدوا أنّها نبعت من هناك وستعود إلى هناك ولذلك ليس لديهم مفهوم للفناء والعدم الذي يؤرق فكر الإنسان ويعبث بأعصابه.

نعم إنّ قطرة ماء وسط صحراء محرقة تزول سريعاً، بينما ستستمر في وجودها إن كانت متصلة بالبحر حيث تكتسب صبغة الأبدية.

إنّهم يرون الموت نافذة يطلون منها على عالم جديد، عالم أوسع وألذ وأشد حيوية وأعظم نوراً من هذا العالم الذي نعيش فيه، ويمثّل مرحلة أكمل من هذه الحياة الدنيا، ومن هنا فهم لم يروا الموت قط، بتلك الصورة المرعبة التي تقشعر لها الأبدان، وقد أصبحت هذه الأفكار جزءً من وجودهم فقد آمنوا بها بكل كيانهم وجوارحهم.

إلّا أنّ كل تلك الأمور كانت لا تعني لي أكثر من سراب فقد كنت حديث العهد بهذه المفردات.

على كل حال فقد أدركت أنّ رمز اطمئنانهم الروحي إنّما يكمن في هذا الاُسلوب من التفكير، غير أنّ المؤسف له أنّ ذلك الاُسلوب من التفكير كان متعذراً عليَّ آنذاك ولذلك كنت أشعر بحالة عجيبة من الاضطراب الروحي.

كأنّ ناراً شبّت في أحشائي فكانت تحرقني بسعيرها، كنت كثيراً ما أخلو بنفسي وأبكي، طبعاً لا يسعني أن أحدد بالضبط مم كان بكائي، أكانت لي ضالة؟

أكان هناك عشق يؤرقني؟ كانت روحي مضطربة وتبحث عن الهدوء والاستقرار، بَيدَ أنّها لم تظفر به، الأمر الذي كان يزعجني، فكنت أجهش بالبكاء كالطفل الضائع، نعم كانت الدموع تخفف من معاناتي وتطفىء سعير النيران الملتهبة في أحشائي ولو لمدّة قصيرة، فما تلبث مدّة حتى تشب لظى النيران من جديد فتحيط بكل كياني، كنت أتمنى أن أشعر يوماً بالطمأنينة الروحية، كنت صلباً تجاه الحوادث المريرة التي كانت تواجهني في حياتي، كما كنت أبتسم للحياة رغم أحزانها وآلامها، فكنت أواجه المصاعب بكل شجاعة حتى أني لم أكن أخشى الموت، كان المستقبل يبدو لي واضحاً وخال من الغموض كالماضي، ولكن وكما قلت كنت حديث التفكير ولا تجربة لي.

أضف إلى ذلك فإنّي لم أحاول التماس الاطمئنان الروحي في ظل سلسلة من الوهم والخيال البعيد عن الواقع، فكنت أسعى لأن أفهم الواقع كما هو فأظفر في ظلّه على ظالتي التي لم تكن سوى الاطمئنان.

نعم، كنت أمتلك الإيمان التقليدي كسائر الأفراد، كما كان ذلك الإيمان مزيناً ببعض الأدلة المتواضعة التقليدية، إلّا أنّ تلك الأدلة لم تكن لتقف بوجه طموحي وتشبع روحي المتعطشة، فالحق أنّ مثل هذه الأدلة ليس من شأنها الصمود أمام الشكوك والوساوس، وهكذا مرّت مدّة على هذا الاضطراب والقلق...

captcha