كيف نفكر وبم نفكر؟

كيف نفكر وبم نفكر؟


إنّ البؤس والشقاء ليس معلولا للحظ والطالع، بل وليد سوء التفكير. ‌

 

 

قال الإمام علي (ع): «أفضل العبادة الفكر».[1]

 

أحياناً نتساءل:

لِمَ نفكر؟

ما هو الخير الذي جنيناه من هذا التفكير؟

فهل للمجانين من تفكير وهم على هذه الدرجة من السرور والراحة؟

هم أي المجانين على هذه الدرجة من النشاط والحيوية بسبب عدم التفكير، إنّهم يرون العقلاء يشكلون عبئاً ثقيلاً عليهم ولسان حالهم يقول: ياله من عالم رائع عالم الجنون لو نأمن من عدم تسلل العقل إلينا، فما أحرى العقّال أن يلصقوا أنفسهم بذلك العالم فيمارسون حياتهم بعيداً عن التفكير والحساب.

لكن وعلى هذا الأساس فإنّ العالم الأروع والأبعد قلقاً واضطراباً من عالم المجانين هو عالم الشاة، ومن هنا ترى عليها علامات السمنة والترهل، الأجهل من ذلك الخشب والحجر وهذه الجدران المحيطة بنا فهي تفتقر حتى إلى دماغ الشاة الضئيل، كما تفتقر إلى نظرها العبثي والذي لا طائل من ورائه، وعليه لا بدّ لنا أن نتمنى هذه الحياة ونحسدها عليها.

كلا! ليس الأمر كذلك، فلسنا نفخر بأن تكون حياتنا على غرار ما عليه المجانين أو الحيوانات أو قطع الحجر الخالية من الروح، وليس سعادتنا بعدم الشعور بالمعاناة والأذى، بل بالعكس لا بدّ أن نتحلى بالشعور والإدراك وإن كبدنا هذا الشعور بعض الشدائد والصعاب، فلولا الشعور والفكر والإدراك لتحجر الإنسان وأخذ يراوح في مكانه ولعاش حالة الذل والهوان على الدوام.

الواقع أنّ جميع الشدائد التي تصيب الإنسان هي وليدة الهروب العابث من التفكير فى الواقعيات وإدراكها، فعملية خاطئة واحدة لا تستند إلى التفكير قد تؤدّي إلى تحطيم الدنيا برمتها، فاليوم تصرف تقريباً نصف ثروة العالم ويهدر ما يعادلها من الطاقات الإنسانية للبشرية التي تعيش على الأرض في هذا المجال أي في كيفية القضاء بصورة أسرع على نسل البشرية! ففي عالمنا المعاصر ليس فقط نصف هذه الطاقات الإنسانية بصورة جنود وصنّاع سلاح وخبراء حروب ومشرفين لوجستيين ومخترعين ومنتجين للصناعات الجبارة المدمرة فحسب، بل النصف الآخر بدوره قد سخره ليدفع به نحو الموت والعدم، والأمر أشبه بمن يشتري بنصف مرتبه مواد سامة يدخرها للقضاء عليه، أو يهبها لمن فوقه ليقتله.

والحق لو عاشت الإنسانية التفكير لما أصبحت الدنيا بهذا الشكل، من المسلم به أنّ التفكير لا يقود إلى الجريمة والقتل أبداً، بل مجانبة التفكير وتحكيم العواطف الطائشة هي التي تخلق مثل هذه الحوادث، ومن هنا يندم الإنسان على ما يبدر منه من أعمال طائشة حين يهدأ ويفكر.

وعليه فلا بدّ أن نقرّ بأنّ أهم وظيفة لكل إنسان في الحياة هي التفكير، فالتفكير هو السبيل الوحيد لحل جميع المشاكل وتحرير الإنسان من العبودية والقيود والأغلال وعلاج كافة أمراضه الاجتماعية، ومن هنا صرحت بعض الروايات الاسلامية بأنّ التفكير أفضل العبادة، وتفكر ساعة خير من عبادة ألف سنة.

 

الصدارة في التفكير  

قطعاً الشيء الأول الذي يجب علينا التفكير بشأنه هو: من أين ابتدأ وجودنا؟ من هو مُبدىء هذا العالم؟ وكيف طوينا هذه المسيرة الطويلة؟

ليس هناك موضوع قبل ذلك ينبغي لنا التفكير فيه، فالتعرف على مُبدىء الوجود وحل هذا اللغز من شأنه أن يساعدنا على التعرف على سائر الأسرار.

قد يقال حسناً لا بدّ من استعمال قوّة الفكر، لكن ألا تنصحنا بعض المدارس الفلسفية الحديثة (كالبراغماتية) بأنّ الاصالة بل الوجود بالنسبة لكل ظاهرة إنّما يتوقف على نتائجها؛ أي أنّ ما لا نتيجة له في حياتنا فلابدّ من القول بأنّه أصلاً ليس بموجود، أو لا فرق بين وجوده وعدمه في ميزان فكرنا، وما الضرورة فى التعرف على مُبدىء الوجود من حيث استمرار حياتنا الفردية والاجتماعية، أو ليست بعض الشعوب كالشعب الصيني يعيش الحياة دون حل هذه المسألة، ولعلهم يعيشون بصورة أفضل من حياتنا، ولم يكلّفوا أنفسهم عناء المطالعة والاستغراق في هذه القضية المعقدة.

وهنا نقول إنّ من يحاول بهذا المنطق التنصل عن التفكير بشأن هذه الحقيقة فهو ينسى موضوعين:

 

الأول: إنّه ليس هنالك نتيجة أسمى من إدراك الواقع في أي بحث ودراسة بشأن مختلف القضايا، وبعبارة أخرى فإننا نريد العلم من أجل العلم، ونبحث الحقائق بهدف فهم واقعيتها، لا فقط لما لها من أثر في حياتنا (عليك بالانتباه والدقّة)، فالعلم هو الضالّة العظمى للبشر وإدراك واقعيات عالم الوجود هو آخر أهداف البشرية وتطلعاتها، ومن هنا نشاهد على مدى التاريخ البشري سعة الجهود والمساعي الجبارة التي بذلها الإنسان من أجل إدراك الحقائق، كما نشعر بدورنا بالدافع الباطني القوي الذي يسوقنا نحو تحقيق هذا الهدف دون أن نرى أنفسنا مسؤولين عن ارتباط العلوم بحياتنا اليومية، فهل كل هذه الجهود والمساعي التي تبذل من أجل الوقوف على أسرار المجرات والمنظومات وكيفية ظهور العوالم البعيدة بسبب الأثر الذي تلعبه في حياتنا اليومية؟ رغم إننا وفي ظل الظروف الراهنة لا نرى أي تأثير محسوس لها في حياتنا، وهكذا الجهود المضنية التي بذلها العلماء لسنوات مديدة من أجل التعرف، على أسرار الحيوانات والحشرات والمدنية العجيبة التي تحكمها، فهل لهذه الأمور من تأثيرات على حياتنا المادية اليومية؟!

لماذا لا يشعر علماء الفلك والحشرات رغم هذه الجهود بالتعب؟ قطعاً لأنّهم يرون أنّ إدراك أسرار الخليقة (مهما كانت) تعد أعظم جزاء يتلقونه تجاه زحماتهم وجهودهم، ومن هنا فهم يشعرون بالفخر والاعتزاز بعملهم، فاذا كنّا نفكر بهذا الأسلوب تجاه الموضوعات البسيطة من عالم الوجود، فهل يسعنا التحفظ عن التفكير بشأن أعظم وأكبر مسألة تتعلق بظهور هذا العالم، أي بشأن المُبدىء الأول لعالم الخلق (على فرض عدم أثره في حياتنا ومصيرنا)؟

 

الثاني: إنّنا نستنتج من الأبحاث السابقة أنّ لهذه المسألة أثراً عميقاً في حياتنا الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية ويرتبط بها مصيرنا إلى حدّ بعيد، كما أنّ إصلاح الفوضى القائمة وتجاوز الأزمات التي أفرزتها حياة المكننة لا يمكن ولا يتمّ إلّا من خلال الاعتقاد بذلك المبدأ.

كما لا تتحقق طمأنيتنا الروحية وتجدد قدرتنا المعنوية تجاه مشاكل الحياة دون الاستناد إلى ذلك المبدأ، وعليه فكيف يقال ليس هنالك من أثر لحل هذه المسألة في حياتنا اليومية ولابدّ من تنحيتها وعدم إرهاق الفكر بشأنها؟

 


[1] . غرر الحكم، ح 2907.

captcha